حتى وقت قريب كان يسود الاعتقاد بأن التخلف الذي تعانيه المجتمعات العربية، هو في المقام الأول تخلف تقني واقتصادي وتنموي، مقترن بالفساد والاستبداد السياسي. أما اليوم وإزاء هذه الهزائم وتهديد الردة النكوصية التي اتخذت شكل جائحة حقيقية، نكتشف ان التخلف هو في المقام الأول ذو طبيعة فكرية وثقافية. كناحتى الأمس القريب، نتكلم عن عجز عربي يعيقنا عن دخول الحداثة، أما اليوم فنعاني من رفض عربي للحداثة. من هنا برزت الحاجة الى استئناف او اعادة احياء المشروع النهضوي التنويري العربي على مستوى الفكر والعقل تحديداً. وكانت هناك أسئلة تلوح دوماً في أفق الفكر العربي: - لماذا نحن على هذا القدر من التخلف على رغم وقوع بلادنا على مرمى فكرة من الحضارة؟ - لم استعصاء المرض العربي على كل ترياق، على رغم كل الزلازل التي مرت من حملة نابليون الى الاجتياح الاستعماري، الى التحدي الاسرائيلي انتهاء بحربي الخليج في الكويت والعراق، هنا يصبح مشروعاً السؤال عما نعانيه: هل هو إغماءة أم موت سريري؟ - لماذا كلما تراكمت الهزائم وترادفت الاحباطات واتسعت هوة اللحاق بموكب الحضارة، تشبثنا بأضابير التراث، مستعيضين عن حاضرنا بماضينا، نرد على أسئلة الأحفاد بأجوبة الاجداد، ومؤسسين لأسطورة اللحظة الأولى في نقاء مطلق مفارق للتاريخ ومتعال عليه؟ والأدهى ان الانسان العربي يملك عدداً هائلاً من المشاجب، يعلق عليها هزائمه وخيباته وخسائره، منها مشجب الاستعمار، ومشجب الصهيونية، ومشجب الامبريالية والامبريالية الجديدة، ومشجب المؤامرة. يبقى سؤال الأكثر الحاحاً: هل نحن متخلفون؟ على امتداد عصر النهضة منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كان السؤال الذي أقض مضاجع النهضويين: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ وكيف نخرج من معضلة التخلف ونلحق بالمتحضرين؟ واليوم حتى هذا السؤال سحب من التداول، وقُلبت الأمور رأساً على عقب، وصرنا في نظر أنفسنا أو على الأقل في نظر الخطاب العربي السائد في عصر الردة هذا، إننا ما زلنا أصحاب حضارة وحملة مشعل التقدم، أما التخلف فكان ولا يزال لصيقاً بديار الكفر الغربية. المعادلة اليوم قد عكست، فبدلاً من معيار التقدم والتأخر الحداثي، أعيد العمل بمقياس القرون الوسطى: الكفر والإيمان. فأهل الكفر متأخرون وإن كانوا في واقعهم المادي والدنيوي متقدمين لأنهم في نهاية المطاف من أهل النار، أما نحن وباعتبارنا من أهل الجنة فأين لنا أن يمسنا دنس التخلف؟ هذا الجرح النرجسي العربي المعروض للفرجة أما آن له أن يندمل؟ كل الشواهد الحاضرة تثبت انه يفغر فاه ويزداد اتساعاً. فمنذ أن اكتشف العرب والمسلمون سوأة تخلفهم على سطح مرآة الغرب المتقدم تحوصلوا داخل التراث، وأغمضوا أعينهم لا يبصرون الهاوية وكأن هاوية التخلف تكف عن وجودها بإغماض العيون. أو بالاستعاضة عن مرآة الواقع بمرآة سماوية خادعة. تشحن نرجسيتهم بالاستعلاء الكاذب. وعلى هذا النحو أُلغيت كل الأسئلة وحلت محلها نزعة يقينية، مطمئنة الى عدم فعاليتها في التاريخ الدنيوي ومستعيضة عنه باحتكار النعيم الأخروي. أما السؤال كيف الخروج من التخلف؟ فقد اختلفت الأجوبة عليه باختلاف الفئات والأحزاب والفاعلين الاجتماعيين، وأُهرق فيها من دم بقدر ما سفح فيها من مداد. فتارة تخرج فئة وتقوم بإسقاط البنية الفوقية للمجتمع، ظناً منها أنها تختزل الزمن وتضبط الناس، حتى توجههم الى درب النهوض، وهذا ما أطلق عليه ظاهرة الثورات والانقلابات. وتارة أخرى تأتي تنظيمات حزبية ليست لها قواعد جماهيرية كبرى، وتظل غارقة في نخبويتها، وعندما يدب فيها اليأس، تتآلف لتتآمر مع العسكر وتسقط الأنظمة وتلغي الدساتير، وترفع شعارات تدغدغ بها عواطف الناس، وعندما تحظى بدعم الجماهير، تسخر إمكانات المجتمع لإحكام السيطرة على الشعب ومقدراته. ووصل بنا العبث الى أن أحد مجتمعاتنا الأكثر تخلفاً، أقيم عليه نظام شيوعي كانوا يحدثون شعبه عن البروليتاريا وهو لم يدخل حضارة الزراعة بعد. ثم ان هذه الأنظمة على اختلاف مبادئها وشعاراتها ما كانت تؤمن بالفرد، وما كان لها أن تتبنى الانتصار للإنسان وحقوقه، لأن وجودها كان وسيظل نفياً للانسان، ووجود الانسان الواعي ينفيها. البانوراما العربية اليوم تمثل مشهداً درامياً موجعاً، في التنمية المادية والبشرية ويكفي الاطلاع على تقارير منظمات الأممالمتحدة وصندوق النقد الدولي، لنرى ان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خرائب لا تصلح جدرانها حتى لكتابة البكائيات. لم نستطع محو الأمية القديمة، فإذا بنا نفاجأ بأمية جديدة هي أمية الكومبيوتر، وبأن البطالة تزداد كل يوم بوتائر مخيفة، وأن العقول التي دفعت مجتمعاتنا من قوتها لتصنعها غارقة في البؤس أو هاجرت الى مواطن اخرى، والتردي في الاسكان والتعليم والخدمات الاجتماعية قد فاق ارقام الاحصاء طرداً. والعسف والجور وانتهاك حقوق الانسان قد بلغ أعلى معدلاته العالمية في ديار الإسلام. والمرأة العربية ما زالت مقصاة عن الفعل وحتى عن حقها في التحكم بجسدها. والتعليم قاصر عن ملاحقة المستجد من العلم. والتربية لا تخلق غير جحافل الارهاب وعدم التسامح وكراهية الآخر. فهل نحمّل كل هذا للأنظمة العربية وحدها؟ وهل اذا تغيرت هذه الأنظمة يتبدل الحال العربي أوتوماتيكياً؟ ويدخل العربي الى الحضارة من بوابتها الكبيرة؟ نحن لا نعتقد ذلك فإن المعضلة أكبر من ذلك بكثير، فإن أسّ الأساس في أية حضارة أو نهوض هو الإنسان، وإن هذا الانسان يجب أولاً أن يتعرّف على نفسه وعلى العالم من حوله حتى يستطيع ان يقرر مصيره بعقلانية وموضوعية. يجب بادئ ذي بدء أن يحس الانسان العربي انه متخلف ويقر بذلك وعندها يطرح السؤال لماذا أنا متخلف، ثم كيف الخروج من تخلفي؟ هذه الأسئلة لا يمكن الاجابة عليها بالانقلابات ولا بتشكيل الأحزاب الهزيلة، ولا بالإرهاب والحروب الأهلية. انها مهمة الفكر وديدن المثقف. الشعوب التي سبقتنا الى النهضة والتنوير لم تستطع ان تنجز ذلك الا من خلال الصحوة الفكرية وأعمال القطيعة المعرفية مع كل ما هو نكوصي ومظلم من تراثها. لذلك اخترنا سبيل الفكر. وقليلاً ما تجتمع نخبة من المفكرين والمثقفين المؤمنين بالحداثة في عمل جماعي مبرمج، خارج نطاق السلطات وعربدتها، سواء كانت سلطات سياسية أو سلطات مالية. ولكن، هل يستطيع المال العربي أن يقوم بهذه المهمة النهضوية؟ قبل الإجابة على هذا السؤال نقول إن من بين مآسي الوطن العربي، أن بورجوازيته مشوهة، فأغلبها قام على النهب من خلال حظوة القطاع العام أو على السلب من خلال اقتسام الريع مع السلطات. لذلك فهي بورجوازية أمعاء لا رأس لها. وعلى رغم هذه الصورة القاتمة ثمة فئة من البورجوازية العربية الجديدة باتت تتململ وتصغي لنداء التاريخ، وتتأهب لتحسس مسرب الخلاص. اننا نعول على دعم أو انشاء مؤسسات تخدم مجتمعاتها وتقودها الى الحداثة. ودعوتنا الى إنشاء المؤسسات والجمعيات الفكرية لا تعني بالضرورة ابطال البعد النضالي العقائدي من أجل التغير، ولا التقليل من فاعلية النضالات التي تهدف في النهاية الى خلق مجتمع ناضج ومعقلن. * صاحب المبادرة في تأسيس "المؤسسة العربية للتحديث الفكري". والنص مقتطفات من كلمته في افتتاح المؤتمر الأول للمؤسسة في بيروت.