بين لبنان وسورية حدود لا تمنع احدهما من التدخل في شؤون الآخر، بل ان مثل هذا التدخل حاضر في كل مراحل التاريخ المشترك بين الدولتين منذ قامتا كيانين منفصلين عن الكيان الأم. وإن كان الدور السوري في لبنان هو المعروف اليوم، فهذا لا يعني انه لم تكن هناك ادوار لبنانية في سورية. والفارق بين الدورين ان السوري كانت تنفذه اجهزة الدولة السورية في حين ان اللبناني تقوم به هيئات اعلامية واجتماعية ومالية، واحيانا جماعات مسلحة. وهكذا يمكن القول ان لبنان، بنظامه البرلماني وبما يتوفر فيه من حريات صحافية ونشاطات مصرفية، كانت له ادوار كثيرة في مجمل الاحداث السورية. وان سورية بنظامها السياسي الذي يحمل ايديولوجية قومية وبما توفرت عليه من جيش ومؤسسة عسكرية لها دورها في ساحة الصراع العربي-الاسرائيلي، كانت لها ادوار موازية في التأثير على الحياة السياسية اللبنانية. وهكذا نشهد منذ عشرينات القرن الماضي بداية اعلان قيام الكيان اللبناني فيما ثورة سورية الكبرى تشتعل ضد الفرنسييين بشرارة لبنانية تمثلت بلجوء احد رجال حرب العصابات الشيعية ضد قوات الانتداب الفرنسي الى سلطان باشا الاطرش، زعيم جبل العرب من الموحدين الدروز. وفي مراحل لاحقة كان كبار ضباط الجيش اللبناني يتخرجون في المدرسة الحربية السورية. وكان اثر لبنان واضحا في احتضان جامعاته لمجمل التيارات الايديولوجية السياسية التي ظهرت في سورية: بعث، قوميون عرب، حزب شيوعي، حزب سوري قومي اجتماعي وصولا الى تشكيلات اليسار الجديد والتيارات الاسلامية. وكانت اصداء مقالات الصحافة اللبنانية تتردد في دمشق. ومن مفاعيل الدور السوري في لبنان ان معظم الأحزاب السياسية السورية كان لها امتداد في لبنان، وكانت جريدة الحزب تتأسس في بيروت فيما تقيم قيادته في دمشق، ولا ننسى الدور النشيط الذي كان يلعبه بكثافة كبيرة اللاجئون السياسيون السوريون في لبنان الذين كانوا يتداورون كراسي المقاهي البيروتية وكراسي الانقلابات العسكرية الدمشقية. وعندما اشتدت وطأة الاجراءات الاشتراكية في سورية، كان رجل الاعمال السوري ينقل نشاطه الى لبنان حيث الخبز الاشتراكي رائج على موائد المطاعم والمقاهي وفي المنتديات، ولا يدنو من شبابيك المصارف وابواب المعامل التي كانت تجهز بما يوفر للهارب من سورية كل حماية وأمان. وهكذا كان يتم تبادل الادوار بين المال اللاجئ الى بيروت الذي يشكل عصب التغيير السياسي في دمشق، والجهاز الامني السوري الذي يشكل عصب الضبط الامني للتحول على الساحتين اللبنانية والسورية. المعارض السوري لحكومة بلده يجد مرتعا لتحركه في بيروت. والمعارض اللبناني لحكومته يجد الاسناد السوري ضد حكم مصنف في خانة اللاعروبة والقرب من الغرب. وفي بعض المحطات كانت علاقة التداور السوري-اللبناني تعرف بعض المأسسة، بدايتها كانت في 1952 مع الغاءالوحدة الجمركية في مراحل لاحقة كان قيام المصرفين المركزيين السوري واللبناني على انقاض مصرف سورية ولبنان، ووافق ذلك فك الحزب الشيوعي السوري اللبناني الى حزبين سوري ولبناني. وتراجعت هيمنة القيادة السورية على شيوعيي لبنان وبدأت تباشير مماثلة لدى اوساط البعثيين والقوميين العرب، فيما عادت قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي بطابع لبناني غالب. وجاءت وحدة ال 58 ولقاء عبد الناصر-فؤاد شهاب في خيمة شتورة لتتقدم خطوة جديدة في المأسسة: لبنان يستقل بشؤونه الداخلية وينسق مع دولة الوحدة المصرية-السورية في سياساته الخارجية. بعد الانفصال وبعد هزيمة حزيران عاد لبنان الى التأرجح بين لبنانيته وعروبته السورية تارة، والفلسطينية تارة اخرى. وكان دخول القوات السورية الى لبنان في 1976 محاولة لانهاء هذا التأرجح. لكن الاحداث التالية أدت عمليا الى حصار سورية في لبنان وامتداد الحصار الى داخل سورية التي تفجرت فيها احداث بدأت بسلسلة من الاغتيالات مهدت للبننة سورية. وبدا الوضع اليساري-الفلسطيني المهيمن في لبنان رأس الحربة لتيارين متجذرين فيه: "يساري" يعزل النظام السوري عن حلفائه، و"اسلامي" يضرب في العمق السوري ويمارس تأجيج المذهبية والطائفية، فشكلت هذه المرحلة ذروة التدخل "اللبناني" في الاوضاع السورية. قبل ذلك كانت "لبننة" سورية تنفذ من مدخل آخر، بدأ مع وصول الرئيس الراحل حافظ الاسد الى السلطة وبدء سياسة الانفتاح السوري حيث شهد التعاطي السياسي الدمشقي ازدواجية معلنة: استمرار العلاقة مع بعض اليسار حيث أمكن، وفتح قنوات مع الطوائف وقواعدها التقليدية وزعامتها المعروفة. القانون الذي يحكم علاقة دمشقببيروت يتولد من قناعة مقيمة ان سورية مستهدفة تارة من لبنان وتارة في لبنان. يقابله القانون الذي يحكم علاقة بيروتبدمشق والذي يتولد من قناعة ان سورية تريد بسط هيمنتها على لبنان وأنها، حتى الان، لم تسلم بانفصاله عنها ولا تقبل بالتعامل معه كدولة مستقلة. عملياً، هذان القانونان غير بعيدين عن الواقع رغم تطورات الثلاثين سنة الماضية وما حملته من ممارسات واشارات عن سلطة الأسد الاول والأسد الثاني، تعترف رسميا وعمليا، اكثر من اي سلطة سورية سابقة بلبنان كدولة مستقلة شعب واحد في دولتين... العبارة الشهيرة لحافظ الأسد، وتقصّد بشار الاسد ان يزور بيروت من خلال مينائها الجوي كأي رئيس دولة يزور دولة اخرى. وفي هذا المجال تقول سورية ان علاقتها هي بالدولة اللبنانية وليس بقوى وأطراف وطوائف. الثابت اليوم اكثر من اي وقت مضى، أن التداخل مستمر باتجاهين. بعض صحافة سورية مرخص في لبنان وبعض صحافة لبنان أصبح منبراً للمقال السوري المتعلق بالشأن الداخلي وليس العربي فقط. وحركة الاصلاح في سورية تستدعي اصداء مباشرة في لبنان والعكس صحيح. والشأن السياسي السوري الداخلي له تحالفاته اللبنانية، ومع كل حدث لبناني تبرز باتجاهين جذوره السورية. مؤخرا، في ظل تطورات العراق قبل الحرب وبعدها، كان التداخل في التيارات اكثر عمقا وظهوراً. في دمشقوبيروت طبقة سياسية واحدة تكونت في سنوات الصراع المحلية والاقليمية، وفي ظل التحولات العالمية. مثل هذه الطبقة تعيش قانون مستقبلها المأزوم وتفتش عن مخارج مناسبة. في سورية يجري الحديث عن طموحات اصلاحية كبيرة حكمت خطاب الرئيس بشار الاسد. وفي المقابل جاء الرئيس لحود في لبنان بخطاب اصلاحي الاثنان بدءا خطابيهما منذ خمس سنوات تقريبا. لحود والأسد يشكوان علنا وسرا من معوقات فرزتها الطبقة السياسية اياها وتعززت بظروف اقليمية دولية محددة، تمنع مسيرة الاصلاح من التقدم. بعض اللبنانيين يربط كل اصلاح في لبنان بحصول مثيل له في سورية وبعض السوريين لا يتردد في القول ان الفساد والافساد في سورية بدأ من لبنان، وأن الاصلاح ربما توجب ان يبدأ من هناك. تعثر المشروع الاميركي في العراق قد يؤجل استحقاق الاصلاح على سورية ولبنان لكنه لا يلغيه. وتقدم المشروع الاميركي في العراق قد يعيد الحيوية الى الطرح الاصلاحي لكنه لن يكون قادرا على تقديم الآليات المناسبة له. ولا ننسى ان تراجع الاصلاحيين في ايران ارتبط ايضا بتعثر المشروع الاميركي في العراق. وهذا نفسه ينعكس تحالفات جديدة لبنانية-سورية. وهي تحالفات لا تخفي ان الاصلاح ليس اولويتها الأبرز، بل افشال المشروع الاميركي في العراق هو الأولوية. لنتذكر انه مع انتهاء الحرب العراقية-الايرانية بشبه انتصار للعراق، اشتد العمل المضاد للوجود السوري في لبنان. ومع سقوط النظام في أتون حرب الكويت، خرج الخط المعادي لسورية في لبنان من المعادلة الداخلية. لكن هل العامل الاسرائيلي غائب الى هذه الدرجة؟ أليس من اللافت ان تحرير الجنوب تأخر عشر سنوات عن تحرير الكويت وأن تحرير مزارع شبعا يدخل قريبا عامه الخامس متأخرا عن تحرير الجنوب؟ ولنتذكر ان مسيرة الأكفان في بيروت كانت وجهتها العراق. فالمعركة هناك والتداخل السوري اللبناني سيبلغ مدى جديداً. ولكن في العراق ساحة يتداخل فيها الزرقاوي وآخرون من أمثاله وطينته. فهل تعرف الناس في سورية ولبنان أين تضع أقدامها أم أن كأس الاصلاح هو الذي نريد أن نبعده عن شفاهنا ولو سقطنا في حمام دمٍ يخندق له منذ زمن اعداء موصوفون وحلفاء مصنفون.