يبدو ان الحزبين السوريين القوميين الاجتماعيين، "الطوارئ" و"المجلس الأعلى"، قد باشرا منذ اواخر الربيع الماضي مفاوضات توحيدية يُفترض ان تؤدي تدريجاً الى استعادتهما حزباً واحداً. والتقارب الحالي لئن اثار استنكار بعض الحزبيين من اقارب الضحايا الذين حصدهم رصاص الحزب الآخر، كخضر سليم شقيق الراحل محمد سليم الذي استقال من المجلس الأعلى، إلا أنه يتمتع بأسباب وجيهة حقاً، تبقى اهم من الضحايا وذويهم بما لا يُقاس. فقد عبّد رحيل انعام رعد، ابرز رموز المجلس الأعلى ورئيسه، طريق الوحدة نظراً الى الحساسيات الخاصة المتجمّعة ضد الرجل في اوساط الطوارئ. وقد حصل هذا بعد يأس المجلس الأعلى من ان يحرز ولو جزءاً صغيراً من الحصة الممنوحة للطوارئ في البرلمان والحكومة اللبنانيين، ومؤخراً في المجالس البلدية، بسبب تفوقه على منافسه في ابداء ضروب الولاء والمماشاة. والراهن انه منذ احكام السيطرة السورية بعد سحق حركة ميشال عون، خفت درجة التوتر العلني بين الحزبين، اذ انضبط الجميع تحت سقف الوضع الجديد: احدهما فرِحاً بحصته، والآخر قانعاً بانعدام حصته من دون ان يحول ذلك دون استمراره في المنافسة على طلب الود ما دامت الخيارات الأخرى معدومة. وقد لاحظ مؤخراً بعض المراقبين ان اتجاهاً يتبلور في "سياسة" دمشقاللبنانية يمكن ان يُرَدّ اليه السبب الأهم وراء الوحدة المرجّحة للحزبين. ومفاد الاتجاه هذا "ضرورة" بعث، او تنشيط، الاحزاب "الوطنية" و"العلمانية" ذات الحضور التاريخي بين المسيحيين. فهي، من جهة، توازن مع "حزب الله"، وهي موازنة ربما كان مطلوباً سحبها، في الحد الممكن، على ميدان المقاومة في الجنوب ايضاً، فلا يحتكر الحزب، ذو الهوى المختلط الايراني - السوري، المجد وحده. كما انها من الجهة الاخرى، وفي المجال المسيحي، تتحسّب لكل تقدم اضافي يمكن ان تحرزه "القوات اللبنانية" انطلاقاً مما تحقق لها في الانتخابات البلدية. ويمكن، دائماً، لبعث هذه الاحزاب أن يساعد على الوصول الى بيئات شبابية وجامعية لم ينجح الوجود السوري تماماً في ارساء مواقع له داخلها. وما دام ان تجربة التعايش الدمشقي مع حزب الله لم تتسبب في اثارة اي قلق، بالنظر الى تركيبة الحزب نفسه والى استكانة الوضع اللبناني عموماً، فهل يعقل للتعايش مع حزب قومي، او شيوعي، ان يأتي بغير الفرح العميم على الجميع؟ هنا، في التاريخ القومي السوري، قريبه وبعيده، يكمن بيت القصيد. فالحزب، منذ اعدام زعيمه ومؤسسه انطون سعادة، ليلة 8 تموز يوليو 1949، يسعى الى ايجاد مبرر لاستمراره يعوّض به ضعف الجاذب الاستقطابي لفكرة "الأمة السورية" وفي عدادها قبرص. فقد تضاءل دوره على الصُعد جميعاً، فيما لم تفعل الاغتيالات والمحاولات العسكرية الفاشلة غير تعميق المأزق. والسجل، بهذا المعنى، حافل وغني بالدلالات. ففي العام الذي قتل فيه سعادة، شارك ضباط قوميون صغار في الانقلاب على حسني الزعيم الذي سلم زعيمهم الى قاتليه، وكان الحزب القومي اول حزب يعتمد تطويع مناصريه في الجيش السوري قبل ان يقلّده البعث فيبزّه مهارة وتلاؤماً مع الظروف العامة. وليس بلا دلالة عبور شخصيتين سوريتين اساسيتين في تاريخ التدخل العسكري بالسياسة، في الحزب القومي: فقد انتسب اليه اكرم الحوراني في شبابه، والحوراني اكثر رجالات السياسة في سورية الخمسينات اهتماماً بدور الجيش ورعايةً له، بعدما كان اول سياسييها انتباهاً الى أهمية تطويع المحازبين في كلية حمص الحربية. اما الثاني فكان اديب الشيشكلي الذي انتمى الى الحزب ايضاً، وشارك في اطاحة حسني الزعيم بصفته هذه. الا انه بعد وصوله هو نفسه الى السلطة، وترخيصه للقوميين في 1951، والسماح لهم باعادة اصدار صحيفة تنطق باسمهم، انفصل عنهم وأسس حزبه "العربي" الخاص وديكتاتوريته العسكرية والفردية التي لم تسقط الا بانقلاب 1954. وقد أشارت محنة القوميين مع الشيشكلي، بعد محنتهم مع حسني الزعيم، الى المسار البائس الذي راحت التطورات تزيده بؤساً. ففي انتخابات سورية التي اجريت في ايلول سبتمبر 1953، لم يحصل الحزب الا على مقعد واحد، وكانت انتشرت اشاعات تقول انه يتلقى مساعدات اميركية، ما أساء الى صيته وأضعفه. اما في انتخابات 1954 فحظي بمقعدين فقط بينما رسب عصام المحايري، وجهه الأبرز في دمشق. وبدوره نال البعث في الانتخابات عينها 17 مقعداً، فيما تمكن الشيوعيون للمرة الأولى من ايصال امينهم العام، خالد بكداش، الى البرلمان. وفي لبنان الاكثر تسامحاً حتى ذاك الحين من سورية، والأقلّ تعرضاً لعصف الصعود العروبي واليساري، اتيح للقوميين ان يشاركوا في مؤتمر دير القمر للمعارضة كما في "الانقلاب الأبيض" على الرئيس بشارة الخوري، مع أنهم كانوا، في تموز 1951، قد اغتالوا رئيس حكومته رياض الصلح. وعلى رغم تحالفهم مع الرئيس كميل شمعون الذي انتخب في 1952 وأعطاهم ترخيصاً بالعمل الشرعي، لم يثمر هذا التحالف اكثر من نيلهم مقعداً نيابياً واحداً عن دائرة المتن الشمالي في انتخابات 1957. وإذا كان نائل المقعد رئيس الحزب آنذاك أسد الأشقر، فالمعروف ان الدائرة المذكورة احدى القلاع التقليدية لنزعة التشدد المسيحي الذي كان شمعون يمثّله ويتزعمه يومذاك. وفي هذا المعنى لم يكفّ الحزب منذ اعدام زعيمه، عن الاحتماء بطرف رسمي، او عصبي وأهلي، ما. ينطبق هذا على عمله في لبنان كما على نشاطه في سورية. فقبل ان يلتحق بحكم شمعون في بيروت، التحق في دمشق الخمسينية بالقوى المناهضة للناصرية، كپ"حزب الشعب" ومؤيدي "حلف بغداد". وفي موازاة ضلوعه في محاولة انقلابية دعمها العراق الهاشمي، لا سيما الوصي عبدالإله، ضد حكم التحالف اليساري - العروبي الذي تلا ابعاد الشيشكلي، تعرّض لحملة وحشية أدت الى انهائه تماماً في دمشق المتجهة الى التقارب مع القاهرة وموسكو. وفي موازاة ذلك، وبحسب احصاء لبيب زويّا يَمَق الذي درس الحزب، تغير اسمه خمس مرات منذ تأسيسه، ما بين الاحتفاظ بكلمة "اجتماعي" او عدم ذكرها، والاحتفاظ بكلمة "سوري" او شطبها. وفي السياق هذا ترددت اسماء ضباط سوريين، قوميين سوريين، عرفوا بأدوار ملتبسة. فأبرز عسكريي الحزب، غسان جديد، وُجّهت اليه تهمة الاتصال بالسفارة الاميركية، قبل تسريحه من الجيش وهربه الى بيروت حيث اغتاله عميل للمخابرات السورية. وقد ورد المعنى نفسه، في سياق مختلف بالطبع، في كتابات لسعيد تقي الدين ومراسلات بينه وبين جديد، آن كان الأديب اللبناني قيادياً في الحزب القومي. اما الضابط الآخر محمد صفا، فيبدو انه جمع بين حزبيته وارتباطه بالسلطة الهاشمية في بغداد، حتى عُدّ صلة الوصل المالية والتسليحية بينها وبين المعارضين السوريين. وفي أية حال تجمّع الحزب كله في لبنان، ليشارك، في 1958، في الدفاع عن عهد شمعون ضد الهجمة الناصرية انطلاقاً من دمشق، والتي اتهمت الرئيس اللبناني بانحيازه المسيحي داخلياً، والغربي خارجياً. وبعد ثلاث سنوات، وكان الحكم اللبناني الجديد قريباً من القاهرة، قام القوميون بمحاولة انقلابية اخرى شاع ان الحكم الأردني يدعمها، مهجوساً آنذاك بالنفوذ الناصري وتغلغله في المشرق. وفعلاً هرب قوميون كثيرون، على اثر فشل الانقلاب، الى الأردن واستقروا هناك. لكنْ بعد اعوام قليلة، وفيما كانت الشهابية الحاكمة تستجمع ما وسعها من قوى مسيحية لاستخدامها في وجه معارضة متعاظمة ومسيحية، أُخرِج قادة الحزب من السجون اللبنانية بموجب تسوية مع الادوات العسكرية للسلطة الحاكمة. هكذا اطلِق سراحهم في اوائل 1969، بعدما اثبتوا حسن سلوكهم بأن اوعزوا لجمهورهم في العام السابق بتأييد مرشحي "النهج الشهابي" في الانتخابات العامة، في مواجهة لوائح "الحلف الثلاثي" للأقطاب الموارنة المعارضين. اما بعد ظهور المقاومة الفلسطينية، ومن ثم اندلاع الحرب الاهلية - الاقليمية في لبنان بدءاً بپ1975، فانخرط القوميون في الحرب من موقع "يساري" و"اسلامي"، فانتهوا مقرّبين جداً من المقاومة، ومن بعدها دمشق البعثية التي استخدمت الحرب ذريعة لتوسيع نفوذها اللبناني. على ان "اليسارية" و"الاسلامية" في الحزب جاءتا من غير مقدّمات فكرية او سياسية. فهو لم يتأثر بالجديد القومي الذي حملته الناصرية في الستينات الا ضدياً، كما لم يتأثر الا سطحياً جداً بما هو اشتراكي او ماركسي عبّرت عنه المقاومة الفلسطينية واليسار الجديد الستيني، بعدما قضى الحزب سنوات طوالاً يكافح الشيوعية ملتحقاً بالأنظمة المحافظة. وقصارى القول ان اليسارية - القومية الناشئة التي تم تبنيها في مؤتمر ملكارت 1969، اقتصرت على مقالات تغلب عليها الخطابة والانتفاخ اللغوي، نشرها "ملحق النهار" في بيروت، فكتب في هذا الاطار ابرز قادة الحزب اللبنانيين، اسد الأشقر باسم سبع بولس حميدان وعبدالله سعادة عبدالله فرح وانعام رعد قيس الجردي، في الوقت الذي استمر قومي آخر هو هنري حاماتي، ينشر من خارج السجن مقالاته الأشد وفاء للنَفَس الاصلي والأكثر امتناعاً عن الاقرار باليسارية المستجدّة. وقد جمع حاماتي مقالاته الانشائية هذه في كتاب حمل عنواناً دالاً: "جماهير وكوارث"، فتحول كتابه انجيلاً للشق الارثوذكسي بشبانه وشيوخه. لهذا كله طغى على "تحول" القوميين، طابع اداتي بادٍ هو بعض حطام المشروع الهيولي الذي نواه "الزعيم" اصلاً. وقد اتيح، تالياً، لهذه الأداتية ان تتجسّد في اعمال اغتيالات وتفخيخ "شهداء" مدروسي الشهادة، في ما عُرف في وقت لاحق بپ"المقاومة الوطنية" لاسرائيل، التي لم تُكتم رعايتها السورية. ففي البداية كاد القوميون ان ينافسوا "حزب الله" في العمليات الانتحارية، ولو فاقوه في تسجيل الشرائط المصورة للمنتحرين، وهم يعلنون، قبيل توجههم للانتحار، شكرهم وتقديرهم للسياسة السورية والرئيس حافظ الأسد. ويبدو ان اسعد حردان، القومي والوزير الحالي، والذي تسلّم مسؤولية وزارية للمرة الأولى في 1991 مع احكام دمشق قبضتها على لبنان ومجتمعه وسلطته السياسية، لعب دوراً اساسياً في النشاط هذا. وهو، مع انه لم يتسلم رئاسة الحزب، غدا بفعل علاقاته ومواصفاته رجله الأقوى، والذي لا تقاس بقوته قوة الرئيس الاحتفالي للطوارىء، علي قانصو. وكانت آخر علامات نفوذه الايعاز لقيادة الحزب بمنع توزيع مجلة "اتجاه" وتداولها، بعدما تناولت هذه الأخيرة التي يُصدرها القومي هنري حاماتي، حردان ودوره في الحكومة بالغمز. على ان التاريخ والتربية الحزبيين يوضحان حقيقةً تكمن في خلفية الاستعددات الراهنة. ففي موازاة الانسداد السياسي المقرون بالالتحاق المتعاظم، كان القوميون مبكرين في تطوير البدائل العنفية التي تستبعد السياسة بقدر ما تُشهر عزلتها السياسية. فبعد اعدام "الزعيم" بسنتين جاء اغتيال رياض الصلح "ثأراً" منه لمقتل سعادة واشاعةً لإحدى اكثر القيم تخلفاً وبدائية. بيد ان ذلك تم في مناخ الدعم الذي امّنه للحزب عهد الشيشكلي وحمايته للفارين من القتلة. وبحسب حسان حلاق في كتابه "التيارات السياسية في لبنان"، ان الصلح سبق ان تعرّ ض لمحاولة اغتيال فاشلة في بيروت، بحيث خشي سامي الصلح على ابن عمه فما كان منه الا ان توجه الى دمشق حيث اجتمع بأديب الشيشكلي، عله يحمل القوميين على الاقلاع عن تكرار محاولة اغتيال رياض، فوعده الحاكم السوري خيراً. كذلك اودت عملية اخرى، في 1955، وإبان الالتحاق بالهاشميين، بأحد ابرز الضباط البعثيين في سورية، عدنان المالكي، ما شكّل محطة اساسية في الصراع العروبي واليساري مع الحزب. وعلى اثر اغتيال المالكي والذيول التي ترتبت عليه، انشق الحزب الى اقلية يتزعمها رئيسه حينذاك جورج عبدالمسيح، وأكثرية اتهمته بالتفرد فضلاً عن توجيه الأمر بالاغتيال دون الاكتراث بآثار عمل كهذا على الحزب في سورية. وفي 1982، وأيضاً في موازاة الالتحاق بدمشق، قضى رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب، والمكروه سورياً، بشير الجميل، على يد قاتل قومي هو حبيب الشرتوني. وأخيراً، لا آخراً، تولت مجموعة من القوميين في قبرص، سنة 1989 محاولة اغتيال ميشال عون. وقد جُهّزت المجموعة التي قادها إميل غزالة، بصواريخ أرض جو لاستهداف الطوافة التي تقل قائد الجيش السابق الى قبرص، غير ان السلطات في نيقوسيا التي كشفت المحاولة قبضت على المجموعة، لتعيد الافراج عن أفرادها لأسباب لا تزال غامضة. في المقابل، وفي ما خص مساهمة القوميين في المواجهات مع اسرائيل، عسكرية كانت ام عن طريق اعمال مقاومة مسلحة غير انتحارية، لم يظهر اثر يذكر. وربما كان هذا الشعور بالنقص قياساً بالعقيدة النضالية المتعالية، ما دفع اصحابه وبلا كلل الى تضخيم دور لعبه الراحل سعيد العاص في فلسطين بعد نسبته الى حزبهم، جرياً على تسمية راحل آخر هو سعيد فخرالدين الذي نسبه القوميون اليهم، "الشهيد الوحيد للاستقلال اللبناني". بيد ان ذلك لا يصف اعمال العنف بشتى انواعها. فمنذ 1937 وبحسب رواية القيادي الحزبي جبران جريج، اعتقل العضو القومي و"منفّذ" الحزب في صيدا معروف سعد الذي اصبح لاحقاً نائباً وزعيماً ناصرياً، بتهمة القاء قنبلة في بستان يهودي هناك. وتطورت الامور والتقنيات نوعياً بعد ذلك. فمنذ اختارت المقاومة الفلسطينية سلوك طريق خطف الطائرات والقيام بعمليات ضد مدنيين في العالم، برز قوميون لعبوا ادواراً نشيطة في المجال هذا، منهم اللبنانيان فؤاد الشمالي وبشير عبيد والسوري كمال خير بك. ولئن ظهرت اشارات غير مؤكدة اوردها الباحث الاميركي دانيال بايبس وغيره الى علاقة ما بين القوميين وبين احمد جبريل وربما صبري البنا ابو نضال في شبابه، فالمؤكد ان جورج ابراهيم العبدالله كان، في شبابه ايضاً، قومياً سورياً. وإذا ما اندرج ارهاب ارهابيي "حركة القوميين العرب"، وورثتهم في "الجبهة الشعبية"، في سياق أعرض، عربي فدولي، وبدا جزءاً من "الصراع ضد الامبريالية"، يحرّكه تنظيم يستطيع تثميره الى هذا الحد او ذاك، اختلف ارهاب القوميين السوريين. فهذا الاخير بقي فاقداً كل معنى، اذا افترضنا المعنى في الارهاب، ما خلا الثأر العاري حالة الصلح، و/ او تبادل الخدمات مع اطراف مؤثرة حالات المالكي والجميّل وعون، ثم العمليات الانتحارية. وفي ما خص يومنا هذا، يرى بعض القوميين السابقين أن المقاومة ليست ذات حيوية استقطابية داخل الحزب. فالقوميون غدوا يملكون مخزوناً احتفالياً فائضاً لا حاجة معه الى المقاومة. وهذا ما يفسر كيف أن عمليات "منظمة الزوبعة العسكرية" التي لم تؤت نتائج فعلية، لا تزال بالغة الشكلية. وفي الحدود هذه ظهر دائماً ارهاب القوميين اقرب الى الارهاب الصغير لا ارهاب الحركات العنفية الكبرى عشية اقترابها من السلطة او التحرير، او توهمها ذلك. وكما تصاحب، في النازية، قدر كبير من التوكيد العقائدي ونزوع "عملي" لا يهمه في آخر المطاف الا الحرص على استمرار "التنظيم"، سجّل الحزب القومي تجربة نموذجية في المجال هذا. فحينما اضحى القول بپ"الأمة السورية" مجرد لغو لا مكان له حتى في الخرافة السياسية، وجفّت مصادر رفد الحزب بشبان ريفيين كانوا في الاربعينات والخمسينات يتوجهون اليه، وتقسّم الحزب نفسه ثلاثة احزاب عبدالمسيح، الطوارئ، المجلس الأعلى، بات الامّحاء في السياسة السورية وتقديم خدمات اداتية لها، الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة. والحال ان الاكثرية التي اصبحت هي "الحزب" الاساسي بعد طرد عبدالمسيح وانشقاقه، تعرضت بدورها للانشقاق مع حرب السنتين في لبنان، فظهر شاب عُظامي مهجوس هو الآخر بالزعامة. وقاد وسيم زين الدين، في آذار مارس 1975، شطراً من رفقائه في اتجاه "العودة الى سعادة" والتخلص من الرطانة اليسارية التي املتها الخطابية الشعبوية والتحالف مع احزاب اليسار والمقاومة الفلسطينية. وإذا عُرف هذا التيار، الذي وجد غطاءه في الوجه التقليدي الياس جرجي قنيزح، بأنه اقرب الى المخابرات السورية منه الى امن منظمة التحرير، فإن العكس كان يصحّ في الطرف الآخر. وعلى اية حال فبعملية اغتيال غامض قضى زين الدين، ثم اعاد السوريون توحيد الحزب بعد اقل من سنتين على دخولهم لبنان اواخر 1976 واخضاع المقاومة الفلسطينية لهم. بيد ان الانشقاق ما لبث ان تجدد في كانون الثاني يناير 1987، واكتسب ضراوة عنفية تخللتها اعمال تصفية جسدية بين الرفقاء ورفقائهم طاولت بعض القياديين. وعن الانشقاق هذا تفرّع قوميو هيئة "الطوارئ" الحزبية ذوو الصلات النقية بالاجهزة السورية، وقوميو "المجلس الاعلى" المأخوذ عليهم هواهم الفلسطيني الذي كافحوه بالمزايدة اللفظية في تأييد المواقف السورية، وانتقال بعض قادتهم للاقامة في دمشق. وفضلاً عن الفوائد العائدة على الحزب نفسه، بدا البقاء على قيد الحياة لصالح "الشام" ايضاً، هي التي خبرت قدرة القوميين على التطويع الذاتي لمصلحة الحليف الكبير. فهم استطاعوا الانعطاف عن العلمانية البسيطة والجامدة الى الضلوع في حرب طائفية، ثم استطاعوا ان يستأنفوا، على النطاقات المحلية، ما تبقى لهم من لفظية علمانية لا تتعدى هيكلها العظمي. هكذا اشتبكوا مع "حزب الله" في مشغرة، ومع "حركة التوحيد الاسلامي" في شمال لبنان، فصب الطابع المسيحي في هذه المواجهات الموضعية حيث صب الطابع الاسلامي في المواجهة الوطنية العامة، وانتهى الخِراجان في مكان واحد. ولما لم يندرج العنف القومي في اية "اممية" يمينية، بل ترافق، على العكس، مع تحول القوميين العشوائي الى يسارية غامضة، انجدل بحبل متين قدرٌ يُعتدّ به من المجانية وقدرٌ آخر مساوٍ من تبادل الخدمات مع القادرين على اطالة العمر والأمَد. وبنتيجة العلاقة هذه، لم ينقطع حبل تمثيل القوميين السوريين في الحكومات التي تشكلت في لبنان منذ استكمال اخضاعه لدمشق، كما بات للحزب كتلة برلمانية دائمة وكبيرة نسبياً، حل احد اعضائها غسان مطر في المقعد الماروني لبيروت الذي شغر بوفاة بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب وأحد اقطاب طائفته التقليديين. وكيما يعود ويستجمع لنفسه طابعاً مسيحياً يليق بالتمثيل الذي أُعطي له ويفرّغ في الآن نفسه طاقته الثأرية، حاول الحزب، بشيء من فظاظة مستمدة من ماضيه ولغته، العودة الى مناطق مسيحية تشكل عودته اليها استفزازاً كبيراً لأهلها. وهذا ما شهدته تحديداً بكفيا، وهي بلدة آل الجميل، حيث افتتح القوميون مكتباً كبيراً ملاصقاً لبيت الكتائب، فسبّب الأمر اشكالات عدة استقووا فيها بنفوذهم الكبير، وانكفأت الأطراف الكتائبية والأهلية بما يلائم انكفاءها في لبنان عموماً. وفي السياق نفسه أقام الحزب، قبل اشهر، مهرجاناً ضخماً في منطقة سن الفيل، في ذكرى سناء محيدلي التي سقطت في عملية ضد الإسرائيليين عام 1985، دون ان يتميز اهل سن الفيل بأي ولع بها. وحشد الحزب لمهرجانه من جميع المناطق، وقيل إن حافلات سورية نقلت بعض المشاركين، فيما كان لاختيار المكان والموضوع دلالة واضحة. فالرغبة في اقحام مناطق السكن المسيحي في "أعراس المقاومة" مستمدة، أولاً وأساساً، من دورٍ يتعدى الحزب وإن استساغته ايديولوجيته البسيطة. لكنْ ظل المثير للاستغراب دائماً ان الحزب غير قائم في سورية نفسها، هي التي تحرص بشدة على دوره في لبنان. ولما كانت دعوته الاصلية الى "القومية السورية" تتعارض مع الدعوة البعثية الحاكمة في دمشق الى "الأمة العربية"، غدا القوميون يتستّرون على شيء لا يقل عن علّة وجودهم، في سبيل استمرارهم، كأن يقولوا في بياناتهم وتصريحات قادتهم: "امتنا والعالم العربي"، غير متجرئين على تسمية الأمة هذه او وصفها! ويغدو طبيعياً، من ثم، ان يسري التذويب العقائدي على مسائل أقل أهمية في التبويب الحزبي للأهمية. فالزواج المدني الذي أعد له النواب القوميون مشروع قانون في المجلس النيابي، أُدخِل، بدوره، في التجاذبات اللبنانية المرعيّة اقليمياً. وفور انتهاء الوظيفة المرسومة، تخفف الحزب من اعباء الحمل هذا كأن شيئاً لم يكن. وليس بمستغرب ان يفضي هذا الشعور بضآلة المعنى، الى رسوخ في التشدد والتوتر اللفظيين ضد "اليهود" و"التطبيع" و"أعداء الأمة" التي لا اسماً لها. فهل يُستغرَب، والحال على ما هي عليه، ان تكون تقوية الحزب بتوحيده مطلوبة ومرغوبة، فيما لا يفعل التردي اللبناني العام غير تزكية قوى تشبهه من دون ان تضاهيه