نتابع في ما يأتي نشر فصول من كتاب جديد عنوانه "حركة القوميين العرب نشأتها وتطورها عبر وثائقها، الجزء الأول 1951- 1961"، يصدر قريباً عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في بيروت بتحرير هاني الهندي وعبدالإله نصراوي. تُنشر الفصول في ست حلقات ايام الاثنين والخميس والسبت، وهنا الحلقة الثانية: "حركة القوميين العرب" هي إحدى المنظمات السياسية الأساسية التي تبنت الدعوة القومية العربية في مرحلة الخمسينات والستينات. تلك الدعوة التي انطلقت من بلدان المشرق العربي، وبخاصة من بلاد الشام والعراق في مطلع القرن العشرين. وكان هدف هذه الدعوة تبلور بعد ان أعدم جمال باشا أحد أقطاب "جمعية الاتحاد والترقي" التركية المتعصبة - الأحرار العرب في بيروتودمشق في عامي 1915 و1916، في أمرين أساسيين هما: 1 تحقيق الاستقلال العربي بتحرير البلاد من السيطرة التركية، 2 إقامة دولة عربية واحدة في المناطق التي تتحرر من النير التركي. كان هذان الهدفان ما سعى الى تحقيقهما من عرفوا باسم "الرعيل الأول من القوميين" الذين أسسوا جمعيات سرية وهيئات سياسية ك"المنتدى" و"العربية الفتاة" و"العهد" و"حزب اللامركزية". وقد شارك الكثيرون من هؤلاء في ثورة الشريف الحسين بن علي في حزيران يونيو 1916، وعملوا في ما بعد، مع ابنه فيصل بن الحسين في إقامة "أول حكم عربي" في بلاد الشام، بعد غياب قرون عدة للنظام السياسي العربي عن معظم أقطار الوطن العربي. وسقط ذلك "الحكم الفيصلي" في 24/7/1920 في ميسلون عند احتلال الفرنسيين سورية وإسقاط المملكة العربية وإتمام المخطط الاستعماري بتجزئة بلاد الشام والعراق. كانت خيبة الجيل الأول من القوميين كبيرة وعميقة، فقد تبخر حلم إقامة دولة عربية واحدة، كما حل مكان الحكم التركي نظامان استعماريان أوروبيان دمويان بريطانياوفرنسا والحركة الصهيونية العالمية. وتمزقت منطقة الهلال الخصيب وفق اتفاق سايكس - بيكو ووعد بلفور. وهكذا، وجد قادة هذا الرعيل أنفسهم - وهم من ابناء طبقة اعيان المدن وكبار الملاكين والإداريين والعسكريين - مشتتين ومتفرقين في دويلات وكيانات سياسية مختلفة، وأمام وقائع حياتية مغايرة لكل ما عرفوه وعاشوه هم وأسلافهم من قبل، وراحوا يواجهون ثلاث قوى دولية كبيرة فيما كانت الجماهير تعيش حالاً من التخلف العميق الشامل. كانت الأوضاع الجديدة قاسية وغريبة على ذلك الجيل. وكان طبيعياً أن ينغمس الكثير من هؤلاء ومعهم قطاعات اجتماعية أوسع في مقاومة الأنظمة الاستعمارية الأوروبية. وانطلقت موجة "المقاومة الوطنية المسلحة" ضد المستعمرين البريطانيين في العراق حزيران 1920 وضد المستعمرين الفرنسيين في سورية ولبنان 1925- 1927 وضد الصهاينة والبريطانيين في فلسطين من اوائل العشرينات. سعى أبناء كل قطر لمقاومة المستعمر المحتل لبلدهم، وبالتالي فقد ارتفع موج "المد الوطني" وامتص طاقات "المد القومي" بسبب الواقع السياسي الجديد، وكان أن استوعب الكفاح الوطني نشاط غالبية أولئك "القوميين" وإمكاناتهم. وإذا كان هناك قطاع مهم من ابناء ذلك الجيل قد انخرط في "العمل الوطني" وترك "العمل القومي"، إلا أن نسبة مهمة من أولئك "القوميين" وجدوا في التعامل مع الحكام الأجانب الجدد أو الأنظمة السياسية التي أسسها المستعمرون، سبيلاً "أفضل" من سلوك دروب المقاومة والنضال. ففي العراق حيث تعاونت بريطانيا مع الملك فيصل بن الحسين عام 1921 لإقامة نظام شبه وطني، امتص الحكم فيه غالبية الذين قاتلوا الأتراك وشاركوا، بدرجات متفاوتة، في إقامة "دولة وطنية" بعد أن أسقط البرنامج الوطني للثورة العراقية الذي استهدف تحرير العراق من الاستعمار البريطاني وإعلان استقلاله. وكانت تلك الثورة قد قامت على تحالف شعبي واسع ضم مثقفي المدن من ضباط وسياسيين وإداريين وأبناء الطبقة الوسطى، كالتجار، ثم رجال الدين، وأخيراً رجال القبائل من وسط العراق في شكل أساس. هذا في العراق. أما في بلاد الشام فقط انخرط كثر من رجالات الرعيل الأول في سياسة تعايش وتعاون مع سلطات الانتداب الفرنسي والبريطاني في سورية وفلسطين وشرقي الأردنولبنان. هناك جانب مهم في رسم ذلك الواقع السياسي يقتضي الوقوف عنده، وملخصه ان العمل القومي العربي لم يكن موضع إجماع، حتى بين أبناء الطبقة الاجتماعية انفسهم - من الأعيان والملاكين والإداريين - فقد كان الانقسام بينهم ظاهراً منذ بداية النهضة، إذ تعاون الكثيرون مع اجهزة السلطنة حتى آخر أيامها في بلادنا، وسار هؤلاء في تيار "العثمنة"، وكان هناك آخرون من دعاة التيار الديني الذين استمروا يدافعون عن السلطنة العثمانية بدعوى أنها تمثل نظاماً إسلامياً - الخلافة - متجاهلين ان "السلطنة" منذ بدايتها كانت تركية في أساسها ومؤسساتها وسياستها. وعلى أي حال فقط خسر الأخيرون مواقعهم السياسية والاجتماعية بإعلان مصطفى كمال قيام الجمهورية التركية وإلغاء نظام الخلافة وطرد الأسرة المالكة العثمانية، وبالتالي فقد تخلى الأتراك، بعد صراع طويل، عن كل ما دعا إليه دعاة التيار الإسلامي. كانت الخيبة كبيرة والإحباط عميقاً وكان المشروع القومي في حال تراجع عام وانحسار لافت. وفي العشرينات، اتضح في شكل ظاهر ان المشروع القومي الوحدوي بعنوانيه: تصفية التسلط الأجنبي وإقامة دولة عربية واحدة قد تلقّى ضربة عنيفة ومدمرة، أولاً، واتضح أيضاً أن "المقاومات الوطنية المسلحة" قد تمت تصفيتها في المشرق العراق وسورية والمغرب العربي ثورة الريف الأسطورية بقيادة عبدالكريم الخطابي الذي حارب إسبانيا وفرنسا معاً لسنوات عدة. والمحزن والمؤسف في أمر هذه الثورات المسلحة انها لم تسع أبداً لتأمين اي حد من التعاون أو التنسيق في ما بينها، وبخاصة بين الثورة السورية الكبرى 1925- 1927 وثورة الريف 1920 حتى أواخر أيار/ مايو 1926 اللتين حاربتا عدواً واحداً فرنسا وفي الفترة الزمنية نفسها، ثانياً" ولم يحقق "المشروع الوطني" أبسط أهدافه المتواضعة بإقامة دولة مستقلة، سواء كان ذلك في مصر محاولة سعد زغلول أو في العراق الفيصلي، ثالثاً" وإضافة الى هذه الانتكاسات السياسية الكبيرة، فقد عرف العالم ذلك الانهيار الاقتصادي الكبير - الأزمة الاقتصادية العالمية المعروفة بأزمة 1929- وطبيعي ان تعاني بلادنا، كبقية بلدان العالم، تلك الأزمة الطاحنة، ما زاد في تردي أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخصوصاً في بلدان المشرق العربي، رابعاً. إزاء هذه الأوضاع الصعبة والظروف المعقدة نضجت محاولات مجموعات من أبناء الجيل الجديد من المثقفين العرب في إعادة طرح الفكرة القومية العربية والدعوة الى تحقيق الاستقلال العربي وتوحيد البلدان العربية. وتميز الدعاة الجدد بثقافة سياسية أفضل وأرقى من دعاة الجيل الأول، فأصبحت "القومية الحقة عندهم ليست دعوة سياسية فحسب بل هي حركة شاملة لحياة الشعب كلها، تعمل على تحريرها من الأسواء الداخلية والخارجية معاً، وإلى نقل أوضاعها من مواقع التخلف والانفعال والتبعية الى مرامي التقدم والفعل والسيادة". قسطنطين زريق - مقدمة الأعمال الكاملة. وإذا كنا نتحدث هنا عن الجيل الجديد وعن اندفاعه وحماسته لتنشيط المشروع القومي وتطويره، فمن الإنصاف بل والعدل ان نتذكر جيداً أن لبعض أبناء "الرعيل الأول" من دعاة الفكرة القومية فضلاً لن ينسى أبداً في مضمار الالتزام والوفاء في خدمة هذه الفكرة وترسيخها مثل ساطع الحصري ومحمد عزة دروزة ونبيه العظمة وياسين الهاشمي وعزيز علي المصري وغيرهم. وقد لعب هؤلاء دورهم التاريخي في دفع هذه الموجة القومية الجديدة ودعمها بما قدموه من خدمات وجهود فكرية وسياسية مهمة. توصل أبناء الجيل الجديد الى استنتاجات أساسية واقتناعات مهمة منها: 1 تعمق الاقتناع لدى اعداد متزايدة من المثقفين ان لا حياة كريمة للعرب إلا إذا طرد الأجنبي من بلادهم 2 وانتشر الوعي القومي أن لا مستقبل محترماً لهذه الأمة إلا إذا توحدت أقطارها في دولة واحدة، 3 وتوصل هؤلاء الى اقتناع مهم هو ان الوطن العربي لا تقف حدوده عند آسيا العربية، كما دعت الثورة العربية الكبرى في عام 1916، بل إن حدود الوطن تمتد حتى شواطئ المحيط الأطلسي، وبذلك فقد كرّس أبناء هذا الجيل الحدود القومية لأمتنا في قارتي آسيا وافريقيا العربيتين" 4 اهتم شباب العشرينات من القوميين بالتنظيم كسلاح أساس من اسلحة العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للفكرة القومية فأنشأوا المنظمات السرية وأسسوا الأحزاب العلنية والأندية وركزوا نشاطاتهم على أهمية التعليم ونشره بين أوسع القطاعات الشعبية، اي أنهم نقلوا الفكرة القومية والدعوة لتحقيق اهدافها بالاستقلال والوحدة الى دوائر اوسع القطاعات الشعبية، ورفضوا اقتصار التبشير بها على قطاعات صغيرة وضيقة. بكلمة، إن الفكرة القومية انتقلت بجهودهم الواعية وبحكم الحراك الاجتماعي من دائرة أبناء الأعيان وكبار الملاكين الى قطاع أبناء الطبقة الوسطى، وذلك عن طريق الأحزاب والأندية والجمعيات الثقافية والحركة الكشفية والنقابات، والإلحاح على أهمية الخدمة العسكرية وتبني الدعوة لفرضها، كما حدث في العراق، والاهتمام بإعداد كوارد وإطارات للعمل المسلح في سورية وفلسطين. وركز دعاة القومية في العشرينات وما بعدها على قطاعي المعلمين والطلاب أولاً، وعلى الضباط ثانياً. ومن هنا نجد ان مرحلة ما بين الحربين العالميتين شهدت اندفاعة قوية للفكرة القومية وغزت قطاعات اجتماعية أوسع، وحققت تقدماً وأظهرت نضجاً وإدراكاً ملموسين، كما ان تلك الوقائع في هذه المرحلة تشير الى اتساع الوعي السياسي وتعمقه وتزايد النشاط المنظم للتيارات السياسية الأخرى كالتيار الوطني "الكتلة الوطنية السورية"، وأحزاب وطنية عدة في العراق - ك"الوطني" و"الإخاء" و"التقدم" و"الوفد" في مصر، و"الدستوري" التونسي، و"نجم شمال افريقيا" الجزائري و"كتلة العمل الوطني" في المغرب، وكان علال الفاسي من قادتها البارزين، والتيار الإسلامي "الإخوان المسلمون" في مصر و"شباب محمد" في منطقة الهلال الخصيب و"رابطة العلماء المسلمين" الجزائريين، وظهور التيار الماركسي والأحزاب الشيوعية في الكثير من الأقطار العربية. إلا أن اهتمامنا هنا مقتصر على التيار القومي العربي وعلى "مجموعة" بعينها والمقصود جماعة "أصحاب الكتاب الأحمر" لارتباط ذلك بنشأة "حركة القوميين العرب". فكيف تطورت المسيرة القومية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين؟ وما علاقة هذه "المجموعة" بنشوء "الحركة"؟ وهل من تفاعلات وتأثيرات بين هذين "الجيلين"؟ تشكلت هذه الجماعة من تلاقي مجموعات عدة من المثقفين الوطنيين والقوميين العرب التي جاءت من اكثر من قطر وكانت غالبية عناصرها قد طورت فكرها القومي وجددته لتتجاوز ما سبق لعازوري والكواكبي وعمر فاخوري والزهراوي والعريسي ان كتبوه وتبنوه. فقد كانت هناك مجموعات من الأفراد في سورية ولبنانوفلسطينوالعراق ممن ادركوا خطورة ما آلت إليه تجربة "الرعيل الأول"، وراح الكثير من هؤلاء ينشطون لمواجهة الأوضاع العربية الجديدة، وخصوصاً في منطقة المشرق العربي. ويسجل مؤرخ عربي معاصر اجتماع ثلاثة من أبناء الجيل الثاني في جنيف عام 1929 - بعد عشر سنوات من معاهدة فرساي في باريس - حيث تدارسوا أسباب عدم نجاح المقاومة العربية المسلحة منها والسياسية في المشرق والمغرب، فيما حققت شعوب اخرى في الفترة نفسها الكثير من أهدافها التي تطلعت إليها نضالاتها مثل ايرلندا وتركيا وإيران، إضافة الى نجاح حزب المؤتمر الوطني بقيادة غاندي في توحيد شعوب الهند وقومياتها في مقاومة سلمية اكدت قدراتها وكفايتها في مواجهة السياسة الاستعمارية البريطانية. توصل هؤلاء الثلاثة - فريد زين الدين لبنان ودرويش المقدادي فلسطين ونافع شلبي سورية - الى وجوب متابعة النضال وتجديد حيوية الدعوة القومية، وتأكيد ضرورة مقاومة المستعمرين وطردهم من بلادنا، والعمل لإقامة دولة عربية واحدة، وأن الطريق الى ذلك يتم بإنشاء تنظيم قومي عربي سري تنتشر عناصره في الأقطار العربية. واتفق هؤلاء على تسمية تنظيمهم ب"جمعية التحرير العربية" ولكن اسم "جماعة القوميين العرب" أو "أصحاب الكتاب الأحمر" هو الذي انتشر، خصوصاً بعد اندماج مجموعات قومية سرية ببعضها من صيف 1937. بعد انتهاء الحرب العظمى تأسست كلية النجاح في نابلس - فلسطين 1919 من بعض أعيان المدينة المتنورين. وتشكل مجلس امناء لهذا المعهد وبدأ نشاطه كمدرسة لها توجهاتها الوطنية في محاولة جادة للوقوف امام البرامج التعليمية التي فرضها البريطانيون بعد احتلالهم فلسطين . لكن عودة محمد عزة دروزة الى مسقط رأسه بعد معركة ميسلون أعطت هذا المشروع التربوي دفعة قوية حين اختاره المؤسسون عضواً في مجلس الأمناء وعينوه أول مدير للكلية الناشئة. قام دروزة بدور أساس في بناء هذه المؤسسة لتكون حاضنة للدعوة القومية وإعداد جيل من الشباب العربي المتمسك بقوميته وعروبته، فكان ان وضع الأسس الهيكلية ورسم المخططات الطموحة والخطوات العملية للازمة لتحقيق أهداف هذا المشروع القومي. ولم يكن دروزة بعيداً من هذا النهج، فقد كان أحد القياديين البارزين في "العربية الفتاة" وتولى الأمانة العامة للمؤتمر الوطني السوري العام الذي اعلن استقلال بلاد الشام في 8/3/1920 وانتخاب فيصل ابن الحسين ملكاً على سورية. بكلمة، كان دروزة من أبرز نشطاء الرعيل الأول من القوميين. من تلامذة دروزة الكثيرين الذين تأثروا بعمق بفكره القومي وبسلوكه الأخلاقي الملتزم كان واصف كمال وممدوح السخن وفريد يعيش وغيرهم، وقد أتيح لواصف كمال ان يذهب الى الجامعة الأميركية في بيروت لمتابعة دراسته ثم الى لندن. وبعد سنوات عاد الى نابلس وعين مدرساً في كلية النجاح وذلك في بداية الثلاثينات. إلا أن الرجل عاد وهو عضو نشيط وقيادي في الجمعية التي تأسست في جنيف من خلال علاقته بفريد زين الدين. واستمرت كلية النجاح تخرّج طلاباً يحملون فكراً سياسياً متميزاً، لكن بانضمام واصف كمال الى هيئة التدريس حمل الطلاب المتخرجون فكراً أكثر تطوراً من فكر الجيل السابق، والأهم انه كان هناك "تنظيم سري جديد" يستقبل ويضم المتميزين بقدراتهم وصلابتهم النضالية. وفي الفترة نفسها انضم الى هيئة التدريس ممدوح السخن وفريد يعيش وآخرون ممن كانوا أعضاء في "جمعية التحرير العربية" أو من القريبين، مما رفع مستوى فاعلية العمل الفكري والتنظيمي. ومن بين الطلاب الذين تأثروا بواصف كمال وإخوانه صلاح عنبتاوي ومحمد العمد ومالك المصري ورفعت النمر وعبدالله صلاح والصيدليان رشيد البيطار وعبدالغني عنبتاوي والمهندس نيازي كنعان وكمال عزمي وغيرهم. وقد شكل هؤلاء وغيرهم من ابناء جيلهم صفاً جديداً من النشطاء القوميين في نابلس. ومن الأمور اللافتة ان التثقيف والعضوية لم يكونا وحدهما اللذين دخلا حياة أولئك الطلاب الناشطين والمنتظمين، بل إن الكثير من الأعضاء تلقوا تدريباً عسكرياً بسيطاً في استعمال السلاح على رغم صعوبة الظروف السياسية التي كانت سائدة في فلسطين في تلك الفترة، وبعضهم شارك في نشاطات الثورة المسلحة في 1937- 1939. في أواخر عام 1935 عين مجلس الأمناء لكلية النجاح فريد زين الدين مديراً للكلية، ما أتاح له العمل الميداني المباشر في المجال التنظيمي من خلال واصف كمال وزملائه المدرسين في هذا المعهد. وبحكم علاقته بهذه المجموعة في فلسطين، وكونه من مؤسسي "المجموعة القومية في لبنان"، نجحت مساعيه بإقناع القوميين في هذين البلدين لعقد مؤتمر سري يستهدف الاندماج والتوحد. وتم لقاء في حيفا في صيف 1937. وكان القادمون من لبنان قسطنطين زريق وفؤاد مفرج استاذان من الجامعة الأميركية وعادل عسيران. ومثل مجموعة فلسطين واصف كمال وممدوح السخن وفريد يعيش. وبعد نقاشات وحوارات أقر الدستور للتنظيم الموحد، وكانت خطوطه الأساسية قد وضعتها مجموعة لبنان. وانتخب زريق رئيساً للتنظيم، وقد عرف هذا الدستور، في ما بعد، باسم "الكتاب الأحمر". وفي لبنان، للفكرة القومية العربية جذور هي الأعمق والأقدم في بلدان المشرق العربي مثل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وكان دعاة العروبة في غالبيتهم من المسيحيين العرب عند نشأة الوعي العربي. وقد قدم المفكر القومي الكبير ساطع الحصري تفسيراً لهذه الظاهرة وشرح الأسباب التي جعلت المسيحيين يأخذون هذا التوجه السياسي في البداية وقد أرجع السبب الأساس الى "الطابع الإسلامي" وقوانين السلطنة العثمانية التي جعلت المسيحيين العرب يشعرون أنهم غرباء، شأنهم شأن البلغار واليونانيين والأرمن. وبكلمة، لم تكن "المواطنة" هي أساس القوانين على رغم صدور التشريعات الإصلاحية مرتين: في 1839 و1856، التي أكدت المساواة والمواطنة. إلا أن لبنان عرف منذ تلك المرحلة ثلاثة تيارات التقت في معاداتها للسلطنة العثمانية وافترقت عن بعضها بعد نهاية الحرب العظمى. كان هناك تيار انعزالي محلي قديم قام، ولا يزال حتى اليوم، يعتمد الطائفية المسيحية ما عرف في ما بعد بالمارونية السياسية وقد لقي هذا التيار تشجيعاً علنياً من فرنسا. فكان الدعاة يطالبون بعد 1918 خصوصاً بإقامة دولة لبنان الكبير جبل لبنان والأقضية الأربعة. ويعكس هذا التيار مخاوف الموارنة من المسلمين وسيطرتهم، ووراء هذه المخاوف أحداث، بل مذابح العام 1860 التي عرفها جبل لبنان ومناطق أخرى مثل الأحياء المسيحية في دمشق وزحلة، وكان الحكم التركي يقف وراء تلك الأحداث. كما أن الأجهزة الاستعمارية الغربية لعبت دوراً سيئاً جداً في إعداد الأجواء لتلك الأيام السود. وقد دعا انصار هذا التوجه لحماية فرنسا، وكان بعض المتطرفين يسمون هذه الدولة الاستعمارية "الأم الحنون". وفي العشرينات والثلاثينات عرف لبنان ظهور جمعيات وهيئات تبنت هذه الدعوة، لكن عام 1936 عرف قيام حزب الكتائب اللبنانية، الذي أكد هذا الاتجاه وجسّده، ولا يزال هذا الحزب هو "الهيئة المارونية الأكثر تنظيماً واستمراراً...". وتعايش مع "الانعزالية المارونية" تيار ثان اعتبر لبنان جزءاً من كيان أوسع هو سورية الطبيعية، وبعيداً مما طرحه "هنري لامنس - الأب اليسوعي البلجيكي... والأستاذ في الجامعة اليسوعية ببيروت - ... من حيث إنه ميز أشد التمييز بين السوريين والعرب... كما أظهر نفوره من الإسلام والقومية العربية" راجع البرت حوراني "الفكر العربي في عصر النهضة". وبطرس البستاني كان يكتب في أواخر القرن التاسع عشر "إن الامبراطورية العثمانية هي وطننا، لكن بلادنا هي سورية". - لكن التيار وجد في الثلاثينات من يطرحه في شكل حركة سياسية منظمة حين أرسى انطون سعادة في 1932 الأسس الفكرية والسياسية والتنظيمية للحزب السوري القومي، الذي استمر يعمل لنشر أفكاره القائمة على "ان سورية للسوريين، والسوريون أمة تامة". ولا يزال للحزب نشاطاته السياسية حتى اليوم على رغم قسوة الضربات التي تلقاها في النصف الثاني من الأربعينات والخمسينات. وأما التيار الثالث فكان يشدد على عروبة لبنان، ومن صفوفه خرج عازوري والريحاني والعريسي والمحمصاني وعمر فاخوري وغيرهم. ويهمنا هنا ان نتعرض لأوضاع هذا التيار القومي العربي في فترة ما بين الحربين العالميتين. ففي أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات تكونت مجموعتان من المثقفين الوطنيين العروبيين، وتشكلت الأولى من مجموعة من الأساتذة الجامعيين كان الأبرز بينهم قسطنطين زريق وفؤاد مفرج، فيما تكونت المجموعة الثانية من نشطاء سياسيين كان من أبرزهم فريد زين الدين وكاظم الصلح وتقي الدين الصلح وشوقي الدندشي وعادل عسيران ومحمد علي حمادة ورامز شوقي وعلي البزي وغيرهم. وقد اندمجت المجموعتان لتتشكل من اعضائهما "المجموعة القومية العربية في لبنان". كان لهذا الفرع نشاطه الفكري المهم والمؤثر، وقد لعب زريق الدور الأساس في بلورة الخط القومي العربي في لبنان وفي البلدان العربية الأخرى لسنوات طويلة من خلال مساهماته الكبيرة في المجالين الفكري والتربوي. لقد مر معنا ان اندماجاً قد حصل بين مجموعتي فلسطينولبنان في حيفا في صيف 1937. ومن المفيد ان يشار هنا الى أن الجامعة الأميركية في بيروت عرفت في الثلاثينات نشاطات سياسية لتيارات مختلفة. فقد كان للسوريين القوميين وجودهم، حيث سعت قيادتهم لتجنيد الكثير من الطلاب، وكان معظمهم من لبنان، فيما نشط القوميون العرب عن طريق عناصر طلابية نظمها زريق، وتشكلت منهم حلقات تتدارس مبادئ وأفكاراً قومية كانت في جوهرها تعتمد على "الكتاب الأحمر" وعلى محاضرات أعدها زريق. وكانت جمعية "العروة الوثقى" - التي تأسست عام 1919 في الجامعة - هي الساحة التي تجمع فيها الطلاب العرب، وكان للجمعية مجلتها الفصلية التي كتب فيها الكثير من دعاة الاتجاه القومي العربي، وخصوصاً من طلاب الجامعة وحملت المجلة اسم الجمعية. وقد اشتد نشاط القوميين العرب في الوسط الجامعي بعد الاندماج، وعرفت الحلقات القومية في الجامعة شباباً متميزين تخرجوا في الأعوام 1940- 1942 وكان من هؤلاء: رامز شحادة ونديم دمشقية ومروان نصر لبنان وبرهان الدجاني وزهير دروزة ومالك المصري وسامي العلمي والطبيبان صلاح عنبتاوي وحيدر عبدالشافي فلسطين وحمد الفرحان والطبيب أمجد غنما ووصفي التل الأردن وجورج طعمة سورية وآخرون. وشارك هؤلاء وغيرهم في التحركات الطلابية الواسعة عند اندلاع الحرب العراقية - البريطانية في أيار 1941، بل ذهب بعضهم متطوعاً بقصد المشاركة في الحرب مع المتطوعين العرب الذين هبوا لنصرة العراق. في تلك الفترة - الثلاثينات وأوائل الأربعينات - لم تكن سياسة إدارة الجامعة الأميركية شديدة أو قاسية ضد النشاط السياسي الطلابي لعدم تعارض ذلك النشاط مع المصالح الأميركية، فقد كانت فرنسا هي السلطة الحاكمة، كما ان الجامعة قامت تبشر بالليبرالية الأميركية والحريات. لكن الأمور تغيرت بعد الحرب العالمية الثانية حين اصبحت قضية فلسطين هي المحور الأساس للنشاط القومي. كما أن كل النشاطات السياسية، بما فيها مجموعة الطلاب القوميين العرب، قد خفّت كثيراً بعد بدء الحرب العالمية واحتلال بريطانيا للعراق، ثم بعد الاحتلال البريطاني والفرنسي الديغولي لسورية ولبنان في صيف 1941، إذ أعلنت الأحكام العرفية، فتجمد النشاط السياسي في الجامعة وخارجها. ولم تطل هذه الفترة، إذ سرعان ما عادت جمعية "العروة الوثقى" والأحزاب للعمل السياسي بعد حصول سورية ولبنان على استقلالهما في صيف 1943. وقد تحسّن مستوى العمل القومي بعودة زريق الى الجامعة في خريف 1947 إذ كان قد عمل في السلك الديبلوماسي السوري في الفترة من 1945 - 1947.