الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبنان : بعث الشيوعيين والقوميين السوريين ؟. هل يخضع "حزب الطبقة العاملة"، من جديد ، لاستغلال القوى التي ساهم في تسييدها ؟ 1 من 2
نشر في الحياة يوم 07 - 10 - 1998

أثارت عودة الحزب الشيوعي اللبناني الى بعض واجهات التداول اللبناني، وظهوره في متن ما تبقى من "سياسة" ومن متن، أسئلة عن معنى العودة والظهور. و"المعنى"، هنا، لا يطول دور الحزب ووظيفته في المرحلة هذه، بمقدار ما يطول أسباب العودة المفاجئة، خصوصاً أنها تُوّجت بعملية عسكرية ضد موقع اسرائيلي أدت الى مقتل عنصر منه وأسر آخر، والاثنان مسيحي ودرزي من جبل لبنان. لكن العملية حصلت أيضاً بعد أن أظهرت الوقائع عدم قدرة "السرايا اللبنانية لمقاومة اسرائيل" التي أنشأها "حزب الله" وقصد منها استضافة أبناء الطوائف الأخرى في نشاطه العسكري، على تشكيل حالة استقطاب جدية.
ومظاهر عودة الحزب التي حفلت بأخبارها صحف بيروت وأعمدة المعلقين، منقسمين ما بين مُرحّب ومُتريّث ومُتسائل، لم تقتصر على العملية العسكرية. فهي ترافقت مع اطلالات متتالية لأمينه العام السابق ونجمه الدائم جورج حاوي على شاشات التلفزيونات اللبنانية وصفحات الصحف، مع أخبار عن احتمال عودته الى سدة القيادة، بعدما قضى السنوات القليلة الماضية في تجارةٍ قال هو نفسه إنها جلبت عليه الافلاس.
وقصة حاوي هذه لا تخلو من دلالات رمزية، دلالاتٍ ربما لخّصت مصائر الحزب ومساراته: فقد استعانت بها التجارة بعد فشله في السياسة الحزبية، ويبدو راهناً ان السياسة الحزبية تستعين به بعد فشله في التجارة!
على أنه ما بين الاستجارتين، وفي التقلب بين الرمضاء والنار، ترافقت مظاهر العودة، أيضاً وأيضاً، مع نجاحات محدودة أحرزها الشيوعيون في الانتخابات البلدية والاختيارية، متحالفين في أحيان ومتخاصمين في أخرى، مع قوى سبق ان استُعملت لابعادهم. غير انه بدا ان مجرد السماح للشيوعيين بخوضها وبالفوز فيها، جزء من سياسة "تسامح" عام أملتها ظروف "الراعي الاقليمي" وحساباته، فشمل "التسامح" أطرافاً يبلغ غضب الراعي عليها مبلغاً يفوق الغضب المصبوب على الشيوعيين. وغني عن القول ان المقصود هنا العونيون و"القوات اللبنانية".
وترافقت العودة، كذلك، مع انتعاش الكلام المتعلق ب "ضرورة" شمول المقاومة بيئاتٍ تتعدى "حزب الله"، فيما أشير، تكهناً، الى ان السوريين ربما كانوا يفكرون في مخاطبة فئاتٍ لم تُخاطَب من قبل، علماً بأنها لم تُبد الا الود الصافي. ومن هذا القبيل لاحظ البعض مساحة تتبلور وتتسع، ولو كانت لا تزال محدودة التأثير، تضم أوساطاً كالشيوعيين، واللقاءاتِ التي انعقدت من أجل الانتخابات ومراقبتها، والحركاتِ الطالبية التي كادت تجنح نحو تأييد التحركات التي قام بها العونيون والقواتيون بُعيد منع مقابلة العماد ميشال عون على تلفزيون "أم. تي. في". والقوى هذه يمكن التدليل على أنساب بينها، بحسب ما نمّت عنه تلك التظاهرة التي شهدها محيط الجامعة الأميركية ببيروت الغربية، مُنددةً بمنع المقابلة المذكورة. فقد شارك في التظاهرة طلاب قريبون من الحزب الشيوعي فيما انسحب منها، في اللحظة الأخيرة، مؤيدون للنائب نجاح واكيم.
والحال أن توثيق الصلة بين الوضع القائم وبين العالم الطلابي يستدعي، من غير شك، تطوير الأدوات الوسيطة التي يمكنها عقد هذه الصلة وربما تطويرها، خصوصاً اذا ما كانت تنطوي، تقليدياً، على حضور مسيحي مرموق لم تتطبّع، بعد، علاقاته بالأمر الواقع.
على أنه منذ ابتعاد جورج حاوي عن الأمانة العامة للحزب في 1993، وتشكيل قيادة جديدة، برئاسة الأمين العام الحالي فاروق دحروج، بدا وكأن الحزب اختبأ عن السياسة بصفتها وقائع يومية وسجالات ومواقف من أحداث، حتى لا نقول بصفتها أحداثاً وصناعةً لها. وهذا الاختباء لم يكن مقرراً سلفاً، كأن يكون، مثلاً، ترجمة لقرار بالانكفاء الى السرية وما تحت الأرض، بل جاء حصيلة ظروفٍ أحاطت بالشيوعيين وضبطت كل محاولة لتظهير دورٍ لهم في الشأن العام اللبناني. وهذا مُجتمعاً كان أوحى لبعض المراقبين بأن الحزب يتهيأ لأفول أبدي، فيما أوحى لبعض آخر بأنه في مخاض ولادة جديدة وصعبة يعاني آلامها.
وفي الحالات كافة، كان في استنكافه وسكوته أو اسكاته ما يشبه الحرد من أوضاع ساهم هو في زرعها، فحين مد يده للقطف ضُرب على يده من بيت أبيه. والزرع هذا بدأ موسمه الخصب مع الانخراط النشط في حرب طائفية بدأت عام 1975، ما رافقه تنظير حماسي لها، بل تشدد، منذ البواكير الأولى، في طلب "عزل الكتائب"، وفي مطالبة دمشق باعتماد سياسات اقتصاص راديكالي حيال المسيحيين. بيد ان ما توّجه العام المذكور تأسس في 1968، مع المؤتمر الثاني للحزب، حين قاد جورج حاوي اياه تياراً يريد مصالحة الشيوعية المحلية مع القومية العربية والمقاومة الفلسطينية الناشئة. وفي هذا المعنى بدأت المطواعية الشيوعية التقليدية حيال الاتحاد السوفياتي تتسع لتشمل في امتثاليتها قوى الجوارين اللبناني الجنبلاطية والعربي المقاومة ثم دمشق. وفي خلال العملية هذه صُدّعت المعادلات التي ارتسمت بموجبها طبيعة الشيوعية اللبنانية وما رست عليه في مدى نصف قرن، بصفتها تحالفاً مسيحياً - شيعياً أساساً، متحفظاً عن التركيبة التقليدية و"البورجوازية"، تحفظه عن العروبية السنية واللبنانية في صيغتها المارونية. وبدا من الطبيعي ان يستجر الأمر معاناة سياسية وتنظيمية تعادل اعادة تكيّف شامل لم تفعل الحرب الا مضاعفة كثافتها ودراميتها.
وكان الأسوأ أن الطرف الآخر، أي سورية، لم يكترث لمعاناة الحزب الا بقدر ما اكترث لتاريخه وخدماته، فلم يتجاوب مع رغباته المعلنة والمضمرة في دخول السياسة مجدداً، وسُدّت في وجهه أبوابها أكانت وزارة ونيابة، ام منافع بلدية أخرى. وعلى رغم موافقة الشيوعيين على اتفاق الطائف وحماسة جورج حاوي لنتائجه، بقي حزبهم الطرف الوحيد المُستَثنى بين الأطراف المنتصرة في "تعريب لبنان وتوحيده".
هذا الإبعاد الدمشقي الذي يروي معظم الشيوعيين وقائع تؤكده، وذاك الانسحاب الذي سببته أوضاع قيادتهم الجديدة، شكلا ولو على نطاقٍ ضيقٍ، جاذباً لفئاتٍ وأفرادٍ من الناشئة ممن لا يرون في التهميش عيباً، ولا في الحضور، بشروط الالتحاق السائدة، فضيلة. هكذا ماثلت المجموعات المذكورة بين ابعاد الحزب الشيوعي ونفيه وبين ابعادها ونفيها هي، فانعقدت من حول الحزب، في صور متفاوتة، مجموعات طالبية أطلقت على نفسها أسماء تدل الى يسارية يافعة ممزوجة بالكثير من قلق المراهقة وتوقها الى كرامة لا يستجيبها الأمر الواقع. وتوزعت الأسماء بين شعراء كبابلو نيوردا، وشعارات صارخة كيسار بلا حدود، وثوار محليين ومسيحيين كطانيوس شاهين. ولم يفت بعض الشبيبة أن يسموا أنفسهم: المجانين. وقد صدر بعض أعضاء المجموعات هذه عن بيئات مسيحية لم يسبق أن ربطتها علاقة باليسار وأحزابه، فانضافوا الى آخرين من بيئات يسارية بقي من يساريتها ميول علمانية وديموقراطية عامة. وهؤلاء في جملتهم لم يتأهلوا للحياة العامة ابان الانقسام الاسلامي - المسيحي، او اليساري - اليميني بحسب احدى الروايات، بل كان لتعاظم الموقع السوري وتصفية ميشال عون وولادة الطائف أن أثمرت وعيهم وبلورته.
وحملت احداث السنوات الأربع الأخيرة التي سبقت الموعد الرسمي لانتهاء الحرب، أي ما بين 1986 و1990، معاني كثيرة تؤشر الى طريقة التعاطي الاقليمي مع الحزب الشيوعي اللبناني الذي شرع يتخذ من المواقف ما لم تعهده دمشق في حلفائها، وفي عدادهم هم أنفسهم. فقد حصلت آنذاك حرب المخيمات بين "حركة أمل" مدعومة من اللواء السادس في الجيش اللبناني، وبين منظمة التحرير الفلسطينية. وطُلب من الحزب، كما طُلب من غيره، المشاركة الى جانب "أمل"، فاكتفى الشيوعيون بمواقف مترددة وغير حاسمة، إن لجهة المشاركة أو لجهة الإدانة. وخلال الحقبة تلك كان يفترض بالحزب الإبلاغ عن كل عملية عسكرية ينوي القيام بها ضد اسرائيل، لما لأعمال المقاومة من أبعاد وانعكاسات اقليمية، وكانت المقاومة داخله تحولت، بدورها، عملاً عسكرياً وجهازياً يتطلب نجاحه دقة وكلفة توازيان الدقة والكلفة اللتين تواجه اسرائيل بهما أعمال المقاومة. وأثار الأمر هذا ردود فعل متفاوتة لدى قيادة الحزب بلغت أصداؤها، من دون شك، أجواء تتعداه.
وشهدت السنوات تلك موجة الاغتيالات البشعة التي تعرض لها عدد من القياديين والمثقفين الشيوعيين، فقضى بنتيجتها حسين مروة وحسن حمدان وسهيل الطويلة وخليل نعوس وديب الجسيم وهاني زين الدين ولبيب عبدالصمد وغيرهم، وكان لتكرارها أن فضح هشاشة الاجراءات الأمنية التي اعتمدها الحزب لحماية قادته وعناصره، كما أثارت من الخلافات الداخلية ما يكفي للعصف بتنظيم يُراد ترميمه بعد الحرب.
في تلك الغضون كانت معركة طرابلس ودخل على أثرها الحزبان الشيوعي والقومي، مدعومين من الجيش السوري، عاصمة لبنان الشمالي. واستعمل الحزب لغة ثأرية مسكونة بالانتقام لشيوعيين مسيحيين قتلتهم "حركة التوحيد الإسلامي" بقيادة الشيخ سعيد شعبان. لكن طرابلس لا توازن مع المخيمات او المقاومة غير المنسّقة، كما أن الطابع الأساسي لمعركتها ليس، الا عند السذّج، مكافحة "الأصولية الظلامية" التي رضعت طويلاً من النهد الذي أرضع الشيوعيين. هكذا لم يكن هدف المعركة، كما خُطط لها وكما حصلت، عودة الشيوعيين الى المدينة ولا رد الاعتبار اليهم أو الانتقام لضحاياهم. وهذه حقيقةٌ كانت الأحداث تؤكدها من خلال تعاظُم التفتت الذي أريد للبنان كله أن يصطبغ به، وأن يكون الاصطباغ على حافة الدم. وفعلاً ففي 1987 وقعت معركة شباط فبراير الشهيرة بين الشيوعيين والاشتراكيين من جهة وحركة أمل من جهة أخرى، وتحولت شوارع بيروت الغربية مسرحاً لأعمالها العنيفة. ولم يهدأ الصراع بين "رفاق الخندق الواحد" الذين خاضوا معاً قبل سنوات ثلاث معركة "تحرير" العاصمة من جيشها ودولتها، الا بعد نزول القوات السورية الى بيروت، فيما كان نشاطها من قبل يقتصر على المراقبة والضبط الأمني.
هذه الأحداث المترابطة والتي يفضي واحدها الى الآخر، وجدت لدى الحزب، وفي أوساط قيادييه العارفين بالخفايا وغير السُذّج أبداً، ميلاً الى التحرك في اتجاه "واقعي". والاتجاه هذا، وهو سياسي وعسكري، كان هدفه الأساسي الحفاظ على النفس حيال التوريط الذي تسببه التحالفات، فضلاً عن المواجهات التي تفجّرها الخصومات. وقد أملت هذه "الواقعية" انتقال معظم القيادة الى دمشق والإقامة فيها حيث الأمان المطلق. وفي دمشق أيضاً عُقد معظم اجتماعات المكتب السياسي ما بين 1987 و1989.
لكن هذا مجتمعاً لم يحل دون تعرض الشيوعيين، لا سيما مدنييهم والذين منهم انقطعوا عن كل نشاط سياسي علني، الى حملات من التنكيل والاعتقال والقتل في كل المحافظات اللبنانية لا سيماالجنوب حيث المقاومة. فقد تُركوا نهباً لعداواتٍ، غريزية مرة وسياسية مرات، كان يمكن حمايتهم منها لولا المخاضات التي كان يعيشها الحزب وقيادته، وتعثراته في التحالف وفي العداوة، فيتردد في التعبير عنها سياسياً وتنظيمياً في آن. ولم يكن بد من ان تتنازع الشيوعيين، من الداخل ومن الخارج، فوضى المواقف والأدوار التي أدوها، والآثار المترتبة عليها.
وفي النهاية أقام الحزب في المسافة التي تفصل بين دورين يستحيل التوفيق بينهما: أن يكون أداة لسياسات أكبر منه ومن لبنان، وأن يكون ضحية لهذه السياسات إياها، فراح يميل مرةً الى هذا الاتجاه ومرةً أخرى يرجح عليه الآخر. وفي المسافة المذكورة قضى نخبه من قضى، وهاجر من هاجر واستكان من استكان.
في هذه الاقامة الرجراجة استقبل الحزب الشيوعي اللبناني اتفاق الطائف 1989 بالترحاب، وجهز له الأمين العام في حينه جورج حاوي ما يكفي من رطانة وسخاء لغويين تفوّق فيهما الشيوعيون على من عداهم. وتوّج حاوي ترحيبه ودخوله النادي الجديد من طرف واحد، باعلانه ترشيح نفسه للتعيين عن مقعد الروم الأرثوذكس في المتن الشمالي، منافساً ركن الطائفة الأرثوذكسية الأول في الجمهورية اللبنانية الثانية: وزير الداخلية ميشال المر.
واستُبعد حاوي عن التعيين، وهو مصير بائس لأمين عام "حزب الطبقة العاملة"، فيما حُرص على تعيين أحد أبرز الأمناء العامين للبورجوازية اللبنانية. لكن ما زاد البؤس بؤساً أن أحزاباً أخرى أقل تأثيراً وحضوراً، كالبعث والقومي السوري و"الاتحاد الاشتراكي العربي"، حصلت على مقاعد في المجلس. وكاد أن يُعين ل "رابطة الشغيلة" نائب لولا أن أمينها العام زاهر الخطيب نائب أصلاً.
ويروي قيادي في الحزب ان حاوي، أثناء بداية البحث في مشروع استيعاب الميليشيات في الجيش اللبناني، طلب بحماسة قل نظيرها من قيادة الحزب اعداد لائحة بعناصره الراغبين في الالتحاق بالمؤسسة العسكرية. وفعلاً أُعدت لائحة من ثلاثمئة اسم جميعهم من الضباط الذين تلقوا دروساً عسكرية في معاهد سوفياتية، وهم يفوقون أي ميليشيا أخرى من حيث العدد والتدريب. لكن اللائحة اعيدت الى الحزب كما هي، ولم يُقبل أيٌ من العناصر والضباط الذين قُدمت أسماؤهم. ومرةً أخرى رُشّت على الجرح أملاح كثيرة. فبالاضافة الى الأحزاب التي نالت حصصها، تمكن نواب جدد من تعيين أقاربهم ومناصريهم الذين لم يكونوا ميليشويين أصلاً.
هذا المسلسل من الصدود والرفوض، مضافاً اليه ما كان يشهده الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية في حينه من انهيار وتفكك، فجّر إحباطاً أصاب ما تبقى من آمال حزبية مترنّحة. وفي هذه اللحظة قرر الأمين العام جورج حاوي، طائعاً مختاراً، الانسحاب من القيادة، مفسحاً في المجال أمام قيادة جديدة، خجولة ومتواضعة الطموح، كل منيتها احداث حد أدنى من الالتفاف حولها. وبدوره بدا الالتفاف صعباً على الأمين العام الجديد فاروق دحروج، ابن البقاع الغربي المحاذي لسورية. فالحزب أقسام وأجنحة كلٌ منها يغني موالاً لا تربطه صلة بالموال الذي يغنيه الثاني.
فهناك من يرى طريق النجاة في العودة الى ما قبل المؤتمر الثاني مع اعادة ترميم المواقع المسيحية والشيعية، ومن يراه في الانخراط في المقاومة، ومن يرى طريقاً بين بين. وفي الحالات جميعاً لا بد من تحديد موقف حيال دمشق هو نفسه الضمانة لأي موقف آخر يُتخذ. وإذا كان انهيار الكتلة الاشتراكية يحرّك لدى البعض شوقاً الى الاستتباع يمكن ان ترثه دمشق كاملاً هذه المرة، فإن الانهيار نفسه يحضّ آخرين على افتراض استقلالية، واهمة في الأغلب، لم تكن ممكنةً ابان الاملاءات السوفياتية وتحالفها مع دمشق. فالحزب الشيوعي اللبناني، في آخر المطاف، هو من قضى أمينه العام فرج الله الحلو، في 1959، بالأسيد الناصري آن كان عبدالحميد السراج الأداة التنفيذية لدولة الوحدة المصرية - السورية. لكن الحزب نفسه هو الذي عاد الى تمجيد الناصرية، بعد خمس سنوات فقط، بسبب زيارة قام بها نيكيتا خروتشوف الى القاهرة حيث اعلن ان الزعيم المصري يتجه الى الاشتراكية، سالكاً اليها "طريقاً غير رأسمالي".
وعلى هذا المنوال من البلبلة والتشرذم استمرت الحال الى أن رأينا الحزب يعود أو يُعاد. بيد ان العودة، كائنة ما كانت، لا تخلو من دلالات تفوق تلك التي نضحت بها أوضاعه السابقة. فإلى الاحتفالات بعودة سهى بشارة وأسرى آخرين، بُعث الحزب باحتفالين حاشدين آخرين والحشد في لبنان مؤشر الى صوابية المواقف وقياس بها: الأول في منطقة حمانا احتفالاً باستشهاد مقاوم شيوعي، وقد لوحظ الحضور والتبريك من قادة ومسؤولين سياسيين وأمنيين لم يسبق لهم أن شاركوا في مناسبات مشابهة للشيوعيين. والثاني، في ذكرى انطلاقة المقاومة في بيروت، وهي المناسبة التي ما كان للحزب ان يعقدها لولا ما تعارف المعلقون على تسميته ضوءاً أخضر.
لكن البعث يبقى ناقصاً من دون المقاومة. فهي البيضة التي تدر ذهباً في السياسة الاقليمية انطلاقاً من لبنان. ثم أن شد الحزب الى المقاومة واستكمال بعثه بالتالي، يعنيان أن من يخطط للبعث هذا لا تفوته الرغبة في ادخال لغة المقاومة الى أوساط يصعب الوصول اليها من دون نافذة الحزب. وعلى حصان المقاومة، وكما هو جاري العادة، يصل من يريد الوصول الى حيث شاء.
ومع ان بين الشيوعيين من يرفض الاندراج في المقاومة لأسباب عدة، يبقى ان الذين يرغبون فيها يتساءلون: من أين تبدأ العودة، خصوصاً أن ذلك يتطلب امكانات مالية وعسكرية غير متوافرة؟ من أين يؤتى بالسلاح؟ وأين سيُجرى التدريب وبناء المنظمات العسكرية؟ ف"حزب الله"، بحسب قيادي شيوعي سابق، لديه مناطق أمنية واسعة يمكنه التحرك فيها، كما أنه يعد عسكرييه ويؤهلهم لأعمال المقاومة. أما الحزب فمتوسط أعمار أعضائه الذين يجيدون فنون القتال يتعدى ال35 عاماً، في حين يبلغ متوسط أعمار قتلى "حزب الله" عشرين.
وهذا ما يعيد المشككين بالبعث الى التأكد من شكوكهم. فالأمر قد لا يتعدى في آخر المطاف رفعاً للحظر عن الشيوعيين، وتزويقاً للمقاومة لم يستطعه "حزب الله"، ووصولاً الى حواشي البيئات الشبابية التي لم تفتح أبوابها بعد. ومرةً أخرى يلوح استخدام "حزب الطبقة العاملة" بأزهد الأجور هو الاحتمال الراجح.
فقبل أيام قليلة أطل جورج حاوي على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال ال. بي. سي، في برنامج "كلام الناس"، ليقول كلامه المكرور اياه. غير ان الاطلالة اياها اكتسبت معنى لم يصدر عن حاوي بقدر صدوره عن الشركة التلفزيونية التي غدت أوضاعها مضرب المثل في قابليات التكيّف.
هكذا بدا المشاهدون أمام طرفين كل منهما يريد تقديم الغطاء للآخر من اللحم الحي القليل الذي يملكه. والحال أنه لو تُرك الأمر لجورج حاوي، بطل المؤتمر الثاني للحزب، لعاد الشيوعيون ضحايا سياسات قبلوا أن يكونوا أدواتها، مهجوسين بتقديم الغطاء للحلفاء كائنين من كانوا. وأميركا واسرائيل والاحتلال ومصالح الأمن القومي وعروبة لبنان كلها في الخزانة تنتظر الاستعمال، قبل ان يأكلها العفن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.