الطبقة السياسية اللبنانية منذ نشوئها أنقصت من رصيد الوطن لتزيد من رصيدها. حصل هذا على الضفتين الاسلامية والمسيحية وحصل في الجبل وفي الجنوب وفي الشمال والوسط. في الوقت نفسه، نجد أن الطبقة السياسية السورية عززت من رصيد الوطن وشاركته في رصيدها فكانت قوتها قوة للوطن وقوة الوطن قوة لها. من هنا صدقت المقولات السورية دائماً: شعب واحد في دولتين، أمن لبنان من أمن سورية، المسار الواحد والمصير الواحد. في المقابل تهاوت المقولات اللبنانية واحدة بعد الأخرى: وطني دائماً على حق، الخصوصية والهوية، القوة في الضعف، وحياد لبنان. وهذا حصل على مسافة واحدة من مراكز القرار في المنطقة. منذ الخمسينات وللمخابرات السورية، او المكتب الثاني، نفوذ على دوائر لبنانية واسعة. هذا النفوذ امتد الى المخابرات المصرية مع وجود السفير عبد الحميد غالب في بيروت ابان الوحدة المصرية-السورية. وانتقل النفوذ اياه الى دوائر الفاكهاني عاصمة "دول"ة المقاومة وذهب الى بغداد وبعضه لم يوفر حتى تل أبيب. في سورية، الدولة تتعامل كدولة مع الخارج القريب، ومنه لبنان، والخارج البعيد، ومنه موسكو وواشنطن مروراً بباريس ولندن. في لبنان للخارج نوافذ على الداخل تشرنق الدولة داخل شبكة العلاقات الممتدة عبر هذه النوافذ. بل أن السياسي اللبناني عندما يبني مقر حزبه يرسم نافذته على الخارج اولاً وباقي البناء وفقاً لها، فالنافذة على الخارج قبل بابه الى الداخل. ومن النافذة تتم كل المبادلات، التفاعلات والرسائل من الخارج الى الداخل، والعكس صحيح. في التاريخ المعاصر عبّرت طبقات الشعب السوري عن ترحيبها بالحركة التصحيحية، التي قادها حافظ الأسد انطلاقاً من تطلعات سورية للخلاص من العزلة التي فرضها فيها الجناح السابق من حزب البعث، وبحثاً عن سلام وأمان بين فئات الشعب السوري ومناطقه بعد خلق بؤر للصراع الداخلي: صراع طبقات ومناطق وأجهزة. في لبنان، كان هناك تأييد للحركة نفسها لكنه تأييد ملون بلون الطائفة والمنطقة ومحدود بالمصالح، مصالح الزعامة السياسية تارة ومصالح الشركة التجارية تارة ثانية ومصالح السمسرات والصفقات ثالثة. فالزبائنية هي التي حكمت علاقة احزاب وزعامات لبنان بمواقع النفوذ والقرار السوري. فعلى طريق بيروت-دمشق قوافل من الطامحين الى وجاهة المركز ونفوذ الجهاز وموارد الثروة. لم يشذ عن هذه القاعدة حتى الذين يعلنون عداءهم لسورية. فهم إنما يفعلون ذلك لأن "سلّتهم ظلت فاضية" وعندما تبدأ بالامتلاء كانوا يغيرون الخطاب ووجهته. الطبقة السياسية في لبنان نشأت من تمازج عنصرين: تركيب طائفي وولاء خارجي، والتطورات المتلاحقة أعطت الولاء الخارجي دور العنصر المهيمن على التركيبة الطائفية. سورية غالباً ما تكون صاحبة مشروع قومي/ وطني، أو رأسمالي/ اشتراكي. والطبقة السياسية في لبنان غالباً ملتحقة الحاقاً بهذا المشروع من موقفي التأييد والمعارضة. المختلف اليوم ثلاث مسائل: - المشروع السوري القومي القائم على توحيد الأمة وتحرير الأرض وفلسطين يدخل مأزقه التاريخي الحاسم. وعلى سورية أن تختار المفاوضة عن نفسها على ارضها المحتلة. بل إن اسرائيل تعرض عليها تقاسم نفوذ في المنطقة، وهذا يعني قبل كل شيء اعترافاً بإسرائيل، تتبع ذلك مفاوضات على الحدود. وإلا كان عليها أن تواجه حرباً بل حروباً في محيطها الشامي-العراقي. أمام هذا الواقع تلجأ الطبقة السياسية اللبنانية الى المبالغة في اتجاهين متعاكسين مع سورية وضدها، وترفع شعارات كانت كبيرة لكنها أُفرغت من محتواها على يد هذه الطبقة نفسها قبل الآخرين. والأهم أن ليس من الصعب على دمشق أن تجد طريقها للاصلاح وأن تحدد سقوفها للحوار أو التدافع مع القوى الدولية والاقليمية. ولا خوف عليها في هذا المجال. ومجدداً يجب التذكير بأن سورية بشار الأسد ليست عراق صدام حسين. فسورية تملك مقومات قوة داخلية كما تملك علاقات خارجية ودوراً اقليميا ودوليا. أما الضغوطات فتستهدف كسب سورية لا عزلها أو اسقاطها. أما في لبنان فالمأزق يشتد ومنافذ النور المفضية الى خلاص قليلة. وحتى هذه القليلة يعمل السياسيون اللبنانيون على اقفالها واحدة بعد الأخرى، واغراق بيروت في الظلام بسبب الكهرباء ليس سوى مؤشر بسيط على تعقيدات الأزمة. والتمديد للحود بهذا المعنى كان أحد هذه المنافذ القليلة، وعدم مس استقرار العلاقة مع سورية هو في النهاية نافذة أخرى. طبعاً ذلك لا يغطي السلبيات الناتجة عن الأمرين. لكننا في لبنان بعد ان رفعنا شعار "وطني دائماً على حق"، بذلنا كل جهودنا كي نتحول عملياً الى ما يعادل القول "وطني دائماً عليه الحق"!.