نصف الساعة الاخيرة في اليوم ثمينة جداً ولا يجب أن تُهدر، إنها المكافأة اليومية الوحيدة على حسن التعامل مع شقاوة الابناء ورفضهم العاتي للمذاكرة، وتحمل سخافة الزملاء والزميلات وهضم احساس كل منهم بالعبقرية الصحافية والابداعية، وتجرع اعمال سندريلا المنزلية من طهي وتنظيف وغسيل وكي مع الاحتفاظ بتلك الابتسامة البلهاء التي إن دلت على شيء فعلى القرف والامتعاض. وهل هناك من مكان افضل لتمضية تلك الدقائق الثلاثين الغالية من الاريكة المتمركزة أمام "حبيبي" التلفزيون؟ وهل هناك ما يمكن عمله أحسن من الدق الهستيري على جهاز "الريموت كونترول" الذي كادت ازراره تذوب من حماسي المفرط في تعويض عجزي الأبدي عن تعلم الطباعة العربية على الكومبيوتر، وإحداث اصوات التكتكة الجميلة الشبيهة برقصة الكلاكيت بالدق بعنف على أزراره؟ جهزت صحناً عملاًقاً مليئاً بالمسليات الشعبية من لب اسمر، ولب ابيض، ولب سوري ولب بطيخ، وكل ما من شأنه ان يعوض الحمية القاسية التي اتبعها نهاراً لتجنب حدوث زيادة في الوزن. واتقاء لشر عذاب الضمير الناتج عن الكم المذهل من السعرات الحرارية الفارغة التي التهمتها، تسلحت بزجاجة "دايت" غازية قميئة الطعم. البداية المعتادة: قنوات تعليمية هدفها دفع العملية العلمية التعليمية الاصلاحية الناهضة بعقول وأدمغة الاجيال المقبلة صانعة قرارات الغد المصيرية. على رغم انقشاع عادل وسعاد عن كتب اللغة العربية للصفوف الابتدائية، وهما اللذان ظلا يأكلان الفول لسنوات طويلة اسفرت عني وملايين غيري، فإن "سعفان الكسلان" الذي قابل الذئب المصاب بقرحة في المعدة، والسمكة المصابة بالتهاب في القصبة الهوائية، والشجرة التي تعاني اجهاضاً متكرراً لم يبد لي المرشح المثالي ليسد الفجوة الكبيرة التي تركها رحيل عادل وقرينته سعاد. ما علينا، دعنا من العلم والتعليم، ليس هناك افضل من القنوات المصرية الكثيرة التي عششت على القمر المحمول "نايل سات". انبهرت واعتدلت في جلستي وزادت سرعة "قزقزة" اللب في شكل أغاظني شخصياً. ما هذا الكم المذهل من زبد الكلام؟، حوارات، ودردشات، ومناقشات، ومداولات، وآراء واستفتاءات وكلمات، ومرافعات. كم مذهل من الكلام جعلني ارتشف رشفة كبيرة من مشروب "الدايت" القميء وأتساءل: اذا كان لدينا هذا المخزون الاستراتيجي من الكلام الذي يكفينا ويكفي الدول المجاورة والمجاورة للمجاورة من الكلام لعقود مقبلة، فكيف نعاني مما يدعونه تعثر الاداء المصرفي، وتعرقل انشطة البورصة، وتفشي البطالة، وتوغل الفقر؟ تساؤلي الاستنكاري تبدد تماماً حين احتفظت على الشاشة ببرنامج يعتمد على تلقي مكالمات هاتفية ممن يُفترض فيهم صفة المشاهدة. المتحدثة الاولى استهلكت ما لا يقل عن 7 دقائق من وقت البرنامج في الحديث التالي: المشاهدة: سلامو عليكو. المذيعة: وعليكم السلام. المشاهدة: برنامج كذا؟ المذيعة: ايوه اتفضلي. المشاهدة: أنا مش مصدقة. أحاول الاتصال بكم منذ اشهر، النهاردة اسعد يوم في حياتي. المذيعة: ميرسي قوي. المشاهدة: اسمحي لي ابدي لك ياحبيبتي اعجابي بلبسك وشعرك. زي القمر فعلاً. المذيعة: ميرسي ياحببتي. المشاهدة: ولاّ، المكياج رقيق ومبين حلاوتك وجمالك، ما شاء الله. المذيعة: بجد ميرسي خالص. المشاهدة: واسمحي لي اهنيكِ والمخرج والمعد ومهندس الصوت لأن البرنامج فعلاً مفرقع ومطرقع في كل مكان. المذيعة: ميرسي، ميرسي جداً. المشاهدة: أنا الحقيقة لي طلب واحد. المذيعة: طلباتك أوامر ياروحي. المشاهدة: الحقيقة أنه طلب جماعي، مصر كلها بتتمناه. هنا استجمعت كل حواسي في محاولة للتكهن بفحوى الطلب الموجه من كل اهل المحروسة: أيكون اعادة الدعم الى الدقيق رحمة بالموظفين؟،أو رفع الحد الادنى للاجور المتدنية للموظفين؟ أو لعله المطالبة بإلغاء طبقة الموظفين برمتها للقضاء على مشاكلهم؟ لم تمهلني المشاهدة كثيراً، إذ اندفعت قائلة: "لازم تطولوا مدة البرنامج حتى نملّي عيوننا بجمالك وحلاوة البرنامج". ويبدو أن المشاهدة انصرفت الى حال سبيلها، ونجح مشاهد آخر في الوصول الى اذن المذيعة الشابة التي بدأ ضوء الكاميرات الملتهب في النَّيْل من طبقات المواد العازلة التي كست بها وجهها، فانبرت خطوط "المسكارا" الدقيقة وقنوات الكحل الداكنة في التسلل الى المنحنيات الرفيعة على بشرتها. تعجبت لتوارد الخواطر الغريب بين المشاهد والمشاهدة، إذ انخرط المشاهد في تسلسل متطابق في غزل المذيعة، ثم المخرج، ثم المُعد، ثم مهندس الصوت، واخيراً المطالبة الشعواء باطالة مدة البرنامج. استنكر زوجي ما سماه ب"فهمي البطيء" و"براءتي الضحلة" مؤكداً أن هذه المكالمات سابقة الاعداد، إذ أن مصدرها اصدقاء، واقارب وجيران ومعارف العاملين في البرنامج. لملمت كرامتي المبعثرة، وتركت قنوات تلك المجموعة الى غير رجعة. سأتصنع الغضب وأشاهد القنوات الاخبارية التي حتما ستناسب مزاجي المتعكر. لكنه لم يكن متعكراً الى هذا الحد، ما هذا؟ كم هائل من اطفال قُتلوا، ورجال احتُجزوا، ونساء ينتحبن، وجنود عتاة يقفون مصوبين فوهات البنادق جهة الجموع المشرَّدة، قد يكون هذا في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وقد يكون في العراق، قد يكون الجنود اسرائيليين أو أميركيين، لم تعد المسميات مهمة، فالإذلال واحد، والمهانة متطابقة، والنتيجة واحدة. لم يوقظني من همي سوى صوت المذيع الجهوري وهو يصيح متوعداً كعادته، منوهاً الى برنامجه المصنف في القناة تحت بند "البرامج الحوارية" لكنه بات معروفاً ضمن فئة "البرامج الخناقية". ويبدو أنني كنت بدأت ادخل في مراحل النوم الاولى، إذ رأيت في ما يرى النائم ان المذيع يصيح: "هل فقد الغرب التمييز بين الحق والباطل؟ هل اختلط الحابل بالنابل؟ هل جن العرب؟". السؤال الاخير افاقني من غفلتي التي رأيت ان خير ما يؤجلها ولو إلى حين قليل من الموسيقى، والغناء، والحقيقة أن ما وجدته لم يوقظني فحسب بل هالني وكان أشبه بالصدمة الكهربائية. يقولون ان أغنية Toxic لبريتني سبيرز خدشت حياء الغرب، فماذا عن "هاطلب ايدك" لنجلاً، و"مطرب حمبوللي" لمروى، و"يامغير حالي" للوسي، وهي الجرع المركزة من الصدور والبطون والارداف التي انهالت على رأسي فصدعته، وقلبي فأوجعته، وشعوري فخدشته. لملمت ما تبعثر من مشاعري وهرولت الى "الريموت كونترول" لأعود من حيث بدأت. كدت اقبل رأس "سعفان الكسلان" فعلى رغم أنه لا يمُتّ بِصلة لجيل عصر الانترنت الذي يدرسه من قريب أو من بعيد، إلا انه كان آأوى الى الفراش إذ تعدت الساعة منتصف الليل بقليل. حان موعدي لآوي أنا الأخرى الى الفراش بعد ما انقضت الدقائق الثلاثون التي ساعدتني هذه الليلة في اتخاذ قرارات جذرية عدة بناءً على القنوات التعليمية المُغيّبة والبرامج الحوارية الملفقة، واخبار النشرات التي تبعث على الكآبة، والنزالات السياسية الحنجورية، ومروى ونجلا ولوسي وانصار التشريح الانثوي العلني، سأطلب حتماً من شركة اجهزة فك الشفرة "استبدال هذه الباقة بباقة اخرى من القنوات الفضائية".