في صيف العام 1963 وبعد عام من تشكيله، ظهر سيد قطب على شاشة التنظيم الذي ارتبط بعد ذلك باسمه... في وقت كان القادة الميدانيون للتنظيم، يبحثون عن وجه اخواني - أو إسلامي - بارز، يتولى رئاستهم ويكسب التنظيم صدقية واحتراماً بين صفوف الاخوان، ويقضي على الصراع الدائر بينهم على القيادة... كان قطب لا يزال، آنذاك، يواصل الكتابة في محبسه في مستشفى ليمان طره... فبعد الانتهاء من اعادة تنقيح الأجزاء ال18 الأولى من كتابه "في ظلال القرآن"، التي أصدر الطبعة الثالثة منها عام 1961، نُشر له في 1962 كتابان آخران هما "خصائص التصور الاسلامي" و"الاسلام ومشكلات الحضارة"، ثم شغل بكتابة رسائل قصيرة يشرح فيها أصول العقيدة، بما فيها ان الحاكمية من الاعتقاد وليست فقط من التنظيم، كانت - كما يضيف في أقواله أمام النيابة العامة - رسائل مختصرة، هي التي سعت بعد ذلك لتصبح كتاب "معالم في الطريق". وكان يكتب هذه الرسائل الى أهل بيته، وهم اخواته البنات، وأولاد اخته المقيمون معه... ولم يكن مسموحاً لأحد غيرهم بأن يطّلع عليها وبإذن منه، وكانت شقيقته حميدة هي التي تتسلم منه الرسائل أثناء زيارتها له في السجن وتحتفظ بها، وقد استأذنته في أن تطلع عليها سعاد وعلية، ابنتي المرشد العام حسن الهضيبي، وكمال السنانيري، أحد المفرج عنهم من معتقلي "الاخوان"، فوافق على ذلك. ويقول اسماعيل الهضيبي، أحد أبناء المرشد العام ل"الاخوان المسلمين" في اقواله أمام محمد وجيه قناوي وكيل نيابة أمن الدولة العليا في 20 تشرين الأول اكتوبر 1965، "في حدود هذا الوقت" صيف 1963 أعطاه والده عشر أوراق كتبت بقلم كوبيا أو رصاص، وطلب اليه في عبارة موجزة أن يقرأها... وعلى طريقته في التعامل مع كل الناس - بمن فيهم أبناؤه - لم يضف الهضيبي الى ذلك رأياً، ولم يخطر ببال ابنه أن يسأله عن اي تفصيلات تتعلق بتلك الأوراق، اذ كان عوّده - كما عوّد كل الذين يعرفونه أو يتصلون به - أن يقول ما يريد فقط، وان لم يقل شيئاً، فمعنى ذلك انه لا يريد أن يقوله، وان توجيه أسئلة اليه في شأن لا يريد ان يخوضه إحراج للطرفين فضلاً عن انه ينبو عن الذوق السليم. كانت الأوراق تتناول موضوعين منفصلين متصلين، الأول: منهج دارسي أساليب تربية الفرد المسلم التربية الاسلامية الايمانية الصحيحة، ويتضمن العبادات التي تتجاوز الشعائر المفروضة للصلاة والصوم وحفظ سور محددة من القرآن الكريم، من بينها تفسير سورتي "الأنعام" و"الأعراف" من كتاب "في ظلال القرآن" - وهما من السور التي يتضمن تفسير قطب لهما نظريته عن الحاكمية - فضلاً عن قراءات لكتب دينية من بينها - كما يقول علي عشماوي، أحد أعضاء اللجنة الخماسية، في مذكراته - كتب للمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي هي: "المصطلحات الأربعة"، "الحجاب"، "منهاج المسلم" و"هل نحن مسلمون" و"العقائد"، وكتب عدة من بينها لأبي الحسن علي الندوي وشكيب أرسلان. أما الموضوع الثاني، فكان تحليلاً تاريخياً سياسياً يجزم بعض من اطلعوا عليه انه النص الذي كان يحمل عنوان "خيوط خطة"، وهو النص الذي لم يظهر في القضية. وطبقاً لما يفهم من أقوال اسماعيل الهضيبي، فإن هذا النص يتناول تحليلاً لوضع الاسلام والمسلمين في عالم ستينات القرن الماضي وينطلق مما كان شائعاً قبل ذلك، وبخاصة في تفكير عباس محمود العقاد الذي تأثر به سيد قطب لسنوات طويلة، وهو تصوّر يفسر أصحابه تاريخ العالم باعتباره صراعاً بين أديان وليس بين أمم - كما يذهب القوميون - أو بين طبقات كما يذهب الماركسيون. وفي تتبعهم لتطور هذا الصراع يركز الذين يأخذون بهذه الرؤية على دور مميز للحركة الصهيونية العالمية التي يرون انها تطبق خطة قديمة وبعيدة المدى للسيطرة على العالم قائمة على التسلل الى مراكز النفوذ داخله وتحريكها لتعمل لحسابها... والصهيونية العالمية هي التي خلقت الشيوعية من طريق كارل ماركس، وبذلك سيطرت على المعسكر الشيوعي... أما المعسكر الغربي فتحكم فيه الصهاينة من طريق السيطرة على الاقتصاد، وبهذه السيطرة حشدوا المعسكرين للتعاون على إقامة دولة اسرائيل. لكن ذلك لا ينفي، في رأي قطب، ان الحركة الصهيونية تعمل على تأجيج العداء بين المعسكرين لأنها صاحبة مصلحة في ذلك، حتى ينتهي الصراع بإنهاك الطرفين ليتاح لها تحقيق هدفها في السيطرة على العالم. ويذهب قطب الى أن الأطراف الثلاثة الشيوعيون والصليبيون والصهاينة على رغم ما بينهم من صراع، يلتقون في العداء للاسلام وإضعاف المسلمين، ويعملون منفردين ومجتمعين لتحقيق هذا الهدف. فالمعسكر الشيوعي بطبيعته لا يقبل الأديان وبالذات الإسلام... والمعسكر الغربي المسيحي يخشى من قيام دولة يكون الاسلام عقيدتها لئلا يتكرر ما حدث في التاريخ، حين غزته هذه الدولة ووصلت جيوشها الى أبواب أوروبا من طريق الأندلس، وحتى يثأر لهزيمته في الحروب الصليبية، أما الحركة الصهيونية فهي تعمل على تحطيم الاسلام كامتداد لسعيها الى تحطيم كل الأديان في ما عدا اليهودية. ودللت ورقة "خيوط خطة" على ذلك بالدور الذي لعبه يهود الدونما في تركيا في التمهيد لإسقاط الخلافة العثمانية، وحشد التأييد الأوروبي لأتاتورك، والهدف هو اسقاط الحكم بالقرآن في تركيا وفي الدول التي كانت تابعة للامبراطورية العثمانية بصرف النظر عن ان الحكم العثماني لا يمثل حقيقة الحكم بالقرآن لأنه كان يحكم "اسمياً" باسم القرآن. وبعد القضاء على الحكم العثماني زحفت محاولات السيطرة الصهيونية على مصر وعدد من البلاد العربية، عبر واجهات أوروبية صليبية، اذ تعمدت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر ان تقصر المناصب القيادية في مختلف القطاعات وتولي الوزارات على الأشخاص الذين تلقوا تربية غربية وتعلموا في الخارج وتشربوا الثقافة والقيم الغربية بهدف غرس قيم الغرب في المجتمع وإحلالها محل القيم الاسلامية، لئلا يبقى من الاسلام وشعائره الا الاسم والشكل لا غير، ويتحول الجوهر الى القيم الغربية. واستمراراً لهذا المخطط الذي بدأ بتفكيك الخلافة الاسلامية سعت القوى الى تسليم الحكم في الدول العربية والإسلامية لعسكريين ينفذون أهدافها في تحطيم القيم الاسلامية واستبدال القيم الغربية بها وتثبيت هذه القيم المستوردة لينتهي ذلك كله بالقضاء على الاسلام. وهو ما يفسر في رأيه تتابع وقوع مجموعة من الانقلابات العسكرية في دول مثل مصر وباكستان وأندونيسيا وسورية والعراق. وفي التدليل على ذلك أشار سيد قطب الى أن القوات البريطانية التي كانت تعسكر في قاعدة قناة السويس عندما قامت ثورة 23 تموز يوليو 1952، لم تتحرك لإجهاض الثورة أو للدفاع عن النظام الملكي، كما أشار الى أن القضاء على الحركات الإسلامية النشطة في تلك البلاد ومنها الحملة التي شنها عبدالناصر ضد الاخوان المسلمين عام 1954 كان الهدف المشترك للحكومات العسكرية التي تولت الحكم في أكثر من بلد اسلامي في الخمسينات. وفي سياق البرهنة على تنفيذ حكومة عبدالناصر المخطط الغربي - الصهيوني بالقضاء على القيم الاسلامية، أشار الى محاولات ثورة يوليو تحويل المجتمع الريفي الزراعي مجتمعاً صناعياً ثم مجتمعاً حضرياً، وهو ما يقضي في رأيه نهائياً على العادات الموروثة وإحلال قيم جديدة بعيدة من الريف الاسلامي، فعندما ترتفع الدخول ومستوى المعيشة ويتسع تشغيل النساء تتفكك الأسرة وتتخذ مظهر الأسرة المتحررة، وهو اتجاه تدفع فيه أجهزة الإعلام التي تبث برامج مستوردة من المعسكرين الشرقي والغربي تشيع القيم المستوردة وغير الاسلامية. ويضيف بعض الذين لخصوا ورقة "خيوط خطة" انها استندت الى ذلك لتشير الى ما عرف بعد ذلك من آراء سيد قطب حول أهمية السعي لبناء "طليعة اسلامية مؤمنة" تتصدى لهذا المخطط وتسعى لإفشاله، بالتركيز على اعادة بناء فهمهم للعقيدة استناداً الى الفكرة المحورية التي كان يبشر بها، وهي أن نظام الحكم في الاسلام، ليس من مسائل التنظيم، بل من أساسيات الاعتقاد. ويغلب على ظننا ان الهضيبي شعر على نحو ما بأن ابنه اسماعيل كان على صلة بمحاولات تأسيس تنظيم جديد ل"الاخوان"، وكان اسماعيل بالفعل، في تلك المرحلة، أحد قادة هذه المحاولات قبل أن يختلف مع الآخرين وهو ما يفسر حرص المرشد العام على أن يسرّب اليهم - من طريق ابنه - اوراقاً ذات طبيعة تنظيمية محضة، سواء في التحليل السياسي والايديولوجي الذي حملته أو في البرنامج الدراسي المرفق به واثقاً انها ستخرجهم من حيرتهم. وبسبب حذره البالغ، اتبع هذا الاسلوب الذي يبدو في الظاهر مجرد توجيه من أب لابنه ينطوي اذا ما نقل الى قادة التنظيم على موافقة ضمنية من المرشد العام على اعتماد "خيوط خطة" كأساس يبنى عليه التنظيم، وإشارة مبطنة للاتصال بصاحبها سيد قطب لعله يحل لهم أزمة القيادة التي كانت وصلت آنذاك الى ذروتها. ويغلب على الظن كذلك ان "خيوط خطة" كانت من بين الأوراق والبرامج التي يعدها قطب للذين تحلقوا حول أفكاره من مسجوني القناطر الخيرية. فالظاهر من النص، بقسميه، انه ليس من فصول كتابه "معالم في الطريق" التي بدأت تصل الى التنظيم بعد ذلك. وحدث ما توقعه الهضيبي الأب، اذ لم يقتصر ابنه اسماعيل على قراءة النص لنفسه بل عرضه على عدد من قادة التنظيم الذين كان لا يزال يتصل بهم من دون أن يعلم أنهم كانوا اتخذوا قراراً بإبعاده من التنظيم، وما كاد أحدهم يراه، حتى أعلن انه بخط سيد قطب الذي يعرفه، واستأذن اسماعيل في أن يطبعه على الآلة الكاتبة من نسخ عدة فأذن له على أن يسلِّم له الأصل وكل النسخ... لكن الآخر لم يف بوعده، واحتفظ بنسخة طُبعت وعُممت على أعضاء التنظيم. في مواجهة الأزمة التي أثارها اسماعيل الهضيبي بسبب تعميم النص على أعضاء التنظيم، طلب عبدالفتاح اسماعيل من زينب الغزالي أن تكلف حميدة قطب أن تحمل لشقيقها رسالة بأن هناك شباناً من "الاخوان المسلمين" يقرأون له ويعجبون بآرائه في الاطلاع على رسائله المخطوطة. وهكذا كان حسن الهضيبي - بقصد أو من دون قصد - المصدر الذي أوصل أفكار سيد قطب الى قادة التنظيم عام 1963، كما كان هو الذي أضفى مشروعية عليها واعتمدها، واعتبرها صحيحة الاسلام، حين ثار حولها الخلاف بين مسجوني الاخوان عام 1962. وكان منطقياً أن يستجيب سيد قطب لطلب القادة الميدانيين للتنظيم وأن يفوّض شقيقته في أن تسلم اليهم - عبر زينب الغزالي - الرسائل التي كان يكتبها، والتي كانت - طبقاً لأقواله وأقوال شقيقته - الأساس الذي بني عليه بعد ذلك كتابه "معالم في الطريق". وخلال ما يقرب من عشرة شهور تلت ذلك - بين منتصف 1963 والافراج عن سيد قطب بعفو صحي في أيار مايو 1964 - بلغ عدد رسائله التي وصلت الى القادة الميدانيين للتنظيم، طبقاً لأقوال زينب الغزالي، التي كانت تسلمها لهم، ثلاث أو أربع رسائل، كانت كل منها تبقى لديهم لمدة يومين، يجرى خلالهما نسخها وتوزيعها على أعضاء التنظيم، وتعود بعدها الى شقيقته حميدة لتحتفظ بها. وفي محاولة لتصوير الصلة بين قادة التنظيم الميدانيين وبين سيد قطب باعتبارها مجرد صلة بين مفكر اسلامي وفريق من القراء المعجبين به، قالت حميدة قطب - في أقوالها أمام النيابة العامة - ان شقيقها كان كتب هذه الرسائل قبل ان تحمل اليه طلب قادة التنظيم بالاطلاع عليها، وانها سلّمتها لهم - عبر زينب الغزالي - مرة واحدة، وهو تصور لجأت اليه حميدة قطب، في ما يبدو، لتدفع الاتهام الموجه اليها بأنها كانت تقوم بدور ضابط الاتصال بين سيد قطب وقادة التنظيم. لكن محمد يوسف هواش يقول ان قطب، الذي كان يصاحبه في السجن آنذاك، نقل اليه في حدود عام 1963 معلومات أكثر تفصيلاً عن وجود التنظيم بما في ذلك أسماء بعض قادته والصلة التي تربطهم بكل من زينب الغزالي وعبدالعزيز علي والاخوان الهاربين في السعودية، وأسرّ اليه بأنه يرسل اليهم رسائل من السجن تتضمن أفكاره التي غيّرت أفكارهم، وبعد أن كان هدفهم اغتيال بعض المسؤولين، اتجهوا نحو الأخذ بفكرته عن أهمية بناء عقيدة الأفراد من جديد. أما المهم فهو أن ظهور سيد قطب على شاشة التنظيم الاخواني الجديد ساهم في حسم مسألة قطع صلة التنظيم بعبدالعزيز علي، ليس فقط لأن المقارنة بين الشخصيتين لم تكن لمصلحة الأخير، ولكن كذلك لأن الأفكار التي كان يبشر بها قطب كانت تدعو لتشكيل تنظيم وتضع له تحليلات سياسية وايديولوجية وبرامج للدراسة والتدريب. ولعلها كانت صدفة ان قطب غادر السجن في أيار 1964، بعدما تدخل الرئيس العراقي آنذاك، عبدالسلام عارف - الذي كان قرأ كتابه "في ظلال القرآن" وتأثر به - لدى الرئيس عبدالناصر للعفو عن بقية العقوبة التي حكم بها عليه، في وقت كان القادة الميدانيون للتنظيم، قطعوا صلتهم بعبدالعزيز علي، وبعد أقل من شهرين على مغادرته السجن، كانوا يلتقون بسيد قطب ويعرضون عليه أن يتولى رئاسة التنظيم، وكان طبيعياً أن يقبل العرض من دون تردد. وبعد الجلسات الأولى التي خصصها سيد قطب لشرح أفكاره لهم، بدأ يستمع منهم الى تاريخ التنظيم الذي تطرق الى قصتهم مع فريد عبدالخالق وشكواهم من أنه لا يزال يشهِّر بهم، فطلب اليهم ان يتركوا له هذا الموضوع ليعالجه بنفسه، قائلاً انه طالما قبل رئاسة التنظيم فلا بد من أن يقابل الهضيبي ليستأذنه في ذلك وليفاتحه في موضوع عبدالخالق. وكانت هناك، كما ورد في أقوال قطب وآخرين، ثلاثة أسباب لذلك: الأول: هو ان "الاخوان" جميعاً، بمن فيهم قطب، كانوا لا يعترفون بقرار حل الجماعة ويعتقدون انها في حال تجميد موقت، وبالتالي فإن الأوضاع القيادية التي كانت قائمة قبل قرار الحل لا تزال قائمة ومستمرة بعده، وأن الهضيبي - الذي بايعوه على السمع والطاعة، في المنشط والمكره - لا يزال يتمتع بصفته والبيعة لا تنحل الا بموته او استقالته أو عزله، وهو ما لم يحدث، وبمقتضى هذه البيعة كان لا بد من استئذانه في كل نشاط يتم باسم الجماعة. الثاني: ان قطب لم يكن يرغب في تكرار الضجة التي حدثت حين بدأ يدعو مسجوني الاخوان في مستشفى سجن ليمان طره الى أفكاره، بأنه يثير الفتنة في صفوف الجماعة. الثالث: انه، كما يضيف في أقواله، كان يرى ان الجماعة لا تزال قائمة، والأمل في عودتها الى النشاط غير ميؤوس منه، الا انها ممزقة من الناحيتين التنظيمية والعقائدية، ولأنه يبشر بمنهج جديد كامل من الناحيتين العقائدية والتنظيمية، ويأمل بأن هذا المنهج الواضح ستكون له الغلبة في إعادة بناء الجماعة، كان لا بد من أن يحصل على موافقة من صاحب البيعة الأصلي لكي يباشر بهذا المنهج الى أن تعود الجماعة الى النشاط. وهكذا عاد الهضيبي ليظهر مرة تاسعة على شاشة التنظيم عبر سماحه لسيد قطب بأن يبشر بأفكاره بين مسجوني الاخوان، وإذنه لعبدالفتاح اسماعيل وعبدالفتاح الشريف بالنشاط لتجميعهم خارج السجون، ولعبدالعزيز علي لكي يتولى قيادته، وتسريبه - عبر ابنه اسماعيل - كتابات سيد قطب، وأخيراً ترشيحه حلمي عبدالمجيد ليتولى قيادته. ويتفق كل من سيد قطب وحسن الهضيبي على أنهما التقيا ثلاث مرات فقط خلال الفترة بين الافراج عن الأول في أيار 1964، والقبض عليه في آب اغسطس 1965. وفيما لم يهتم الهضيبي بتدقيق تواريخ هذه اللقاءات، مكتفياً بالقول انها جرت جميعاً عام 1965، يحدد قطب تاريخ أول لقاء في تشرين الأول أو تشرين الثاني نوفمبر 1964، وتاريخ اللقاءين التاليين في شهر واحد هو نيسان ابريل 1965. وعلى عكس ما يقوله القادة الميدانيون الخمسة للتنظيم، الذين يؤكدون ان سيد قطب أخطرهم في أحد لقاءاته "الأولى" بهم، عزمه على أن يستأذن الهضيبي في توليه رئاسة التنظيم، وأبلغهم بعد ذلك بأنه حصل على هذا الإذن، فإن قطب يذكر انه لم يقبل رئاسة التنظيم إلا في آذار مارس 1965، وبعد حوالى عشرة شهور من اجتماعه الأول بهم، مؤكداً ان صلته بهم قبل ذلك كانت تعليمية توجيهية، شرح لهم خلالها منهجه في فهم القرآن، وان الحديث لم يتطرق الى المسائل التنظيمية الا في شباط فبراير أو آذار 1965 عندما قال لهم انه اذا كان سيتولى قيادتهم، فلا بد من أن يحصل على إذن بذلك من المرشد، ولأنه كان يعرف عن الهضيبي، كما يضيف، انه لا يريد أن يكون له دور ايجابي في تلك المرحلة، تراخى في مفاتحته في الأمر لئلا يحرجه، ولم يحدثه عنه الا في شكل عام، وفي لقائه الأخير، أو قبل الأخير به، في نيسان 1965. وهي رواية متناقضة يبدو اللعب في التواريخ فيها واضحاً ومقصوداً، فإذا كان صحيحاً ان سيد قطب قبل قيادة التنظيم في آذار 1965، وفاتح الهضيبي في الأمر في الشهر التالي، فإن القول بأنه تراخى في عرض الأمر على المرشد، يبدو غير منطقي، والغالب أن قطب أراد أن يتخفف من قدر كبير من مسؤوليته الجنائية بالتقليل من المدة الفعلية التي قاد فيها التنظيم بصفته تنظيماً، ليقصرها على الشهور الأربعة الأخيرة التي سبقت اكتشاف أمره. أما الهضيبي فيقول ان قطب حدثه خلال الزيارات الثلاث التي قام بها له في شأن صلته بمجموعة شبان يدرس لهم أفكاره، وهو ما يؤكد ان هذه الصلة كانت معروفة للمرشد العام منذ تشرين الأول أو تشرين الثاني 1964، تاريخ أول لقاء لهما، ما لم يكن قد عرف بها منذ بدايتها الأولى، حين بدأ أعضاء التنظيم يتلقون رسائل سيد قطب التي كان يرسلها اليهم من سجنه. ولعل تدقيق تاريخ صدور الطبعة الأولى من كتاب "معالم في الطريق" يساهم في تحديد التاريخ التقريبي الذي فاتح فيه قطب المرشد العام في شأن التنظيم، ويحسم الغموض المتعمد في أقوال كل منهما، لأسباب تتعلق بالرغبة في التنصل من المسؤولية الجنائية. وكان الكتاب صودر عند اكتشاف التنظيم، كما صودرت بقية كتب سيد قطب وسُحبت من ايداعات المكتبات العامة ومكتبات المدارس التي كانت تقتنيها باعتباره كاتباً إسلامياً ومعروفاً، فضلاً عن انه من كبار الموظفين السابقين في وزارة التربية والتعليم. وبسبب اختفاء الطبعة الأولى للكتاب، ذهب معظم الذين ترجموا لسيرة قطب الى انه صدر عام 1965 قبل شهور من اكتشاف أمر التنظيم، وبنوا تحليلاتهم لتطور الحوادث انطلاقاً من هذا الأساس، أما الحقيقة فهي أن الطبعة الأولى صدرت في تشرين الثاني 1964 - رجب 1384 - عن "مكتبة وهبة"، في القاهرة، طبقاً لما هو مسجل بوضوح على الصفحة الثانية من نسخة نحتفظ بها من هذه الطبعة. ويلفت النظر ان الهضيبي حرص أمام النيابة على أن يقول، من دون مناسبة ظاهرة، ان قطب يطبع كتبه من دون أن يأخذ رأي أحد فيها، ما يدعو الى الظن بأنه كان يكذِّب مقدماً واقعة يعلم بها آخرون، ويخشى أن يكونوا اعترفوا بها في التحقيقات، وهي انه اطلع على الكتاب، وأذن بطبعه، وهي واقعة يبدو انها صحيحة، إذ يقول فريد عبدالخالق - في شهادته التلفزيونية ل"قناة الجزيرة" - ان مسودات الكتاب عرضت على الهضيبي قبل طبعه، وانه أقر بنشرها. وهي رواية تؤكدها زينب الغزالي التي تقول في مذكراتها انها اطلعت على تجارب طبع الكتاب حين أُرسلت الى بيت المرشد العام لاستئذانه في طبعه، وتضيف انها علمت ان الهضيبي "اطلع على ملازم الكتاب وصرح بطبعه"، وانها حين سألته عن رأيه فيه قال لها: "على بركة الله... ان هذا الكتاب قد حصر أملي كله في سيد... ربنا يحفظه... لقد قرأته... وأعدت قراءته... ان سيد قطب هو الأمل المرتجى للدعوة الآن... ان شاء الله". والغالب، استناداً الى هذه الحقائق، أن يكون قطب فاتح الهضيبي في شأن الشبان الذين يتحلقون حوله لدرس أفكاره، في تشرين الثاني 1964، وهو تاريخ أول لقاء لهما طبقاً لأقوال قطب، وتاريخ صدور الطبعة الأولى من كتاب "المعالم" ما لم يكن فاتحه في الأمر قبل ذلك عند تقديم تجارب طبع الكتاب للمرشد، أو استردادها منه. ومن الاشارات الاضافية لذلك ما ورد في اعترافات القادة الميدانيين للتنظيم الذين يجمعون على أنهم استأنفوا اجتماعاتهم معه - بعد لقائهم الأول به في مصيفه في رأس البر صيف عام 1964 - في أيلول سبتمبر من العام نفسه، ومع انهم يدعمون روايته بأن اللقاءات الأولى كانت فكرية أساساً ولم تتطرق الى الأمور التنظيمية الا في ما بعد، الا انهم يؤكدون انه كان مفهوماً بين الطرفين انهم يشكلون تنظيماً، وكان سيد قطب يعرف بذلك منذ اتصلوا به في السجن صيف 1963، طبقاً لما ذكره لزميله آنذاك في السجن محمد يوسف هوّاش. وكان الانطباع الذي خرج به الهضيبي من لقائه الأول به أن قطب، ومن دون ان يقول ذلك صراحة، جاء ليعتذر له عن شهادته ضده اثناء محاكمات 1954، حين نقل عنه، على غير الحقيقة، قوله ان هناك مجموعة من العسكريين سيقومون بانقلاب ضد مجلس قيادة الثورة وأن "الاخوان" سيدعمون هذا الانقلاب شعبياً، وانه في الزيارة الثانية حدثه عن كتاب "في ظلال القرآن" لمناسبة اعادة طبعه وطلب اليه أن يقرأه في فترة الصيف، فيما قدم له في الزيارة الثالثة كتابه "معالم في الطريق". وفي التفاصيل يقول الهضيبي ان قطب حدثه خلال زياراته الثلاث عن أنه يعقد ندوة في منزله كل يوم جمعة يتردد عليها كل الناس تحت سمع رجال الاستخبارات وبصرهم، لتدريس الأفكار التي وردت في كتابه "معالم في الطريق"، فلمّا سأله عن عدد الذين تعلموا على يديه، أخبره بأنهم حوالى 320 شاباً، فاستكثر الهضيبي العدد واعتبره فوق الكفاية. ويضيف انه كرر له في اللقاءات الثلاثة رأيه الذي سبق أن أبداه في هذه الأفكار حين اتهم قطب بأنه أحدث بترويجها بين مسجوني الاخوان "فتنة" في الجماعة، وهو "انها حق... ولكنها تعتبر سابقة لأوانها من الناحية السياسية". وهو رأي لم يشر قطب على الاطلاق الى انه سمعه من الهضيبي، ولكنه يقول ان الحوار الذي دار بينه وبين المرشد العام حول كتاب "معالم في الطريق" تطرق الى تخوف بعض الاخوان من نشر الكتاب وان الهضيبي علّق على ذلك قائلاً له: "هذا كتاب مطبوع ومنشور وان من يقرأه ويحب أن يأتي اليك ليتزيد أو ليفهم ما غمض عليه، فطبعاً تفهّمه... واللي ما يجيش... ما يجيش"! ويضيف قطب انه فهم من هذا الكلام ان ليس لدى المرشد العام مانع في أن يتصل بمن يريد ان يتزود بأفكاره، لكنه، كما أضاف رداً على سؤال من المحقق، لم يستأذنه صراحة في قيادة المجموعة ويستبعد أن يكون الهضيبي فهم مما قاله له أن هناك تنظيماً يؤمن بالأفكار الواردة في كتاب "معالم في الطريق" وانه يرأس اجتماعهم... ولكنه يعتقد انه فهم ان هناك افراداً من "الاخوان" ومن غيرهم يترددون عليه للتزود بأفكاره. وطبقاً لرواية نقلها أحمد عبدالمجيد عبدالسميع، أحد القادة الميدانيين الخمسة، عن لسان سيد قطب، فإن الهضيبي استكثر ان يكون هناك 200 أو300 شاب يتلقون أفكار قطب، وقال له: "كفاية... انت عاوز ايه اكتر من كده؟... اهتم بتربيتهم... أنا مش متصوّر ان فيه في مصر 300 راجل... فما بالك اذا كان دول 300 راجل مسلم". وينقل صبري عرفة الكومي عن قطب قوله ان المرشد سأله عما اذا كان الشبان الذين يلتفون حوله من الطراز الذي أشار اليه في كتاب "معالم في الطريق"، فردّ عليه قطب قائلاً: "إن شاء الله يكونوا كده"... فرد الهضيبي: "سيروا على بركة الله". وتتقارب رواية عبدالفتاح اسماعيل مع رواية سيد قطب، فهو يقول انه أبلغهم بأنه سيتصل بالمرشد ليستأذنه في رئاسته للتنظيم، ثم عاد ليقول لهم في الاجتماع التالي: "أنا قابلت المرشد... واعتبروني واحداً منكم"... من دون أن يشير صراحة الى ان المرشد وافق. وهو ما يقترب كذلك من رواية مجدي عبدالعزيز الذي يقول ان قطب ذكر لهم انه لم يبلغ المرشد إلا انهم مجموعة من الشبان يلتقون على برامج اسلامية. وربما كان أوضح وأصرح ما نقله القادة الميدانيون الخمسة عن لسان قطب في شأن موقف الهضيبي من التنظيم، ما ذكره احمد عبدالمجيد - في مذكراته التي نشرت عام 1991 في عنوان "الاخوان وعبدالناصر/ القصة الكاملة لتنظيم 1965"، وهو يقول ان سيد قطب اشترط قبل أن يوافق على رئاسة التنظيم ان يعرف قصته الكاملة وأن يستأذن من المرشد، فلما أبلغوه ان لديهم إذناً مسبقاً منه، قال لهم: ان هذا الاذن خاص بي شخصياً لا بكم... وأنا لا أفعل شيئاً من دون مشورته ولا بد من استئذانه أولاً قبل البدء معكم... وسأكتب له مذكرة بما سمعت منكم، وأرسلها له أولاً حيث ان وقته وصحته لا يسمحان بذلك". ويضيف، نقلاً عن قطب، انه أرسل للمرشد مذكرة وافية بالموضوع في صفحات عدة قبل أن يلتقي به ليناقشه في أمر التنظيم، وان الحديث تطرق الى الدور الذي يقوم به فريد عبدالخالق في مناوأة التنظيم وفي التنديد بكتاب "معالم في الطريق"، فقال الهضيبي في ما يصفه عبدالمجيد انه نص الكلمة: "جماعة ايه اللي انتو خايفين عليها، ما انتو موتوها طول العشر سنين بين 1954 و1964، هوّا انتو فاكرين اللي قدمتوه ده هو كل شيء... دا المسيحيين على خلاف بينهم ماتوا منهم ييجي ستين ألف... إذا كنتوا خايفين على نفسكم... سيبوا الشباب اللي عايز يعمل ويستشهد في سبيل الله... ناس عايزين يستشهدوا... ما تسيبهم يستشهدوا". ويضيف عبدالمجيد ان ما نقله اليهم سيد قطب أثلج صدورهم وأراح قلوبهم، إذ أكد لهم ان المرشد يوافق على استمرار تنظيمهم ويكذِّب ادعاءات خصومهم في "الاخوان" بأنهم خارجون عن الشرعية، ومنذ ذلك الحين أصبحوا يعتبرون كل من يعارضهم لا شرعية له. ... وربما كان هذا هو موقف حسن الهضيبي الحقيقي من أفكار سيد قطب ومن تنظيم 1965. * كاتب مصري.