للأصولية والطائفية في الهند أكثر من وجه وأكثر من تنظيم. ومنذ بداية بروز الهندوسية كأيديولوجية للهيمنة على شتى مناحي الحياة الهندية في نهاية القرن التاسع عشر اتخذت من الاسلام أو بالأصح مسلمي الهندي عدوها الرئيس ونشأت تنظيمات عدة مثل المنظمة الهندوسية العالمية VHP، والمنظمة الوطنية للمتطوعين RSS وجند الله Shiv Sena والحزب الشعبي البهاراتي BJP وغيره. وفي غمرة كفاح الهند من أجل الاستقلال نأت الأصولية الهندوسية بنفسها عن هذا الكفاح ولكنها لطخت أياديها وبسرعة بدماء المسلمين فور الاعلان عن تقسيم شبه القارة الهندية الى دولتين، الهند وباكستان. وظلت هذه الأصولية على هامش الحياة السياسية للهند لقرابة أربعة عقود. وفي أوائل الثمانينات لم يكن لها في البرلمان سوى حفنة من الأعضاء. ومع ضعف حزب المؤتمر الهندي الذي دبت فيه الشيخوخة ونخره الفساد لجأت هذه الأصولية الطائفية الى استخدام الهندوسية في مواجهة كل من حزب المؤتمر الحاكم ومسلمي الهندي، ولكن مع عدم المناداة بهدم الدولة الديموقراطية العلمانية التي أرسى أسسها جواهر لال نهرو العام 1947. كان حزب المؤتمر في نظر ال"بي جي بي"حزباً علمانياً مزيفاً ومسلمو الهند ليسوا اكثر من بنوك أصوات لحساب حزب المؤتمر. ونقل ال"بي جي بي"معركته ضد الطرفين من المرحلة السلمية الى مرحلة المواجهة. فطافت مواكب الحزب يتقدمها لال كرشنا عدواني تطالب بإزالة العار الذي لحق بالهند منذ الغزو الاسلامي الذي تجسده بعض المساجد التاريخية، عن طريق هدمها ابتداء من مسجد بابري الذي نجح الحزب مع قوى أصولية أخرى في هدمه في 6 كانون الأول ديسمبر 1992. ولم يشعر المسلمون حينها بالمرارة من هذا الحزب وحده بل من حزب المؤتمر الحاكم وزعيمه رئيس الوزراء نارا سميها راو الذي اتهم بأنه تواطأ مع هذه القوى ولم يوفر الحماية اللازمة للمسجد وبأن له صلة قديمة مع منظمة المتطوعين RSS المتطرفة قبل التحاقه بحزب المؤتمر. والواقع ان رد فعل مسلمي الهند فاق المرارة. فبعضهم قال ان الهند لم تعد الوطن الذي يطمئنون للعيش فيه. وقد خفف من شعورهم بالمهانة والضعف استنكار القوى الديموقراطية والعلمانية لهدم المسجد وتنظيمها لقاءات جماهيرية في شتى أنحاء الهند لعزل القوى الأصولية الطائفية والتعبير عن التضامن مع المسلمين وتأكيد ان الهندوسية كانت على مر التاريخ رمزاً للتعايش والتسامح والاستيعاب وأنها ليست ديانة وانما اسلوب حياة. ومع هذا واصل ال"بي جي بي"حملته الطائفية الى حد مناداة بعض زعمائه للمسلمين والمسيحيين بالتخلي عن ديانتيهم والعودة الى الهندوسية لأن أجدادهم أجبروا على التحول اليها. ووصل الأمر بالسيد مورلي ماناهور جوشي أحد زعماء ال"بي جي بي"الى أن يقول ان على الذين يعيشون في هذا البلد أن يسموا أنفسهم أسماء هندوسية. فالمسلمون يجب أن يسموا أنفسهم الأحمديين الهندوس والمسيحيون، المسيحيين الهندوس، وطالب المسلمين والمسيحيين بسرعة القيام بذلك. وليس من قبيل التفصيل الممل القول بأن هذه القوى الطائفية طالبت المسلمين بأداء آذانهم باللغة الهندية وأن يسموا أنفسهم بأسماء هندوسية وبتغيير الأسماء الاسلامية لبعض المدن مثل مدينة الله اباد الى اسماء هندوسية. وفي حملتها طالبت بألا يدعى المهاتما غاندي بأبو الأمة، وأن يدعى بابن الأمة. والأمثلة كثيرة، ولكن الأهم منها أن المسلمين في كثير من المناطق عانوا من ارهاب العصابات الطائفية التي كانت تقوم بما يشبه أعمال البلطجة حتى فنان الهند الاول مقبل فدا حسين لم يسلم من ارهابها المادي والمعنوي. هذا هو الوجه الأول للعملة الطائفية لهذه الأحزاب، أما وجهها الثاني فإنه بعد أن استطاع ال"بي جي بي"أن يحكم مع تحالف مكون من عشرين حزباً منع أتباعه وأتباع التنظيمات الشقيقة من أن يجددوا الدعوة الى هدم المساجد لأن تلك الدعوة كانت برنامجاً سياسياً وليست ايديولوجياً وأن البرامج السياسية تتغير، ولكسب أصوات المسلمين قام أتباعه في ولاية أندرا برادش بجمع تبرعات لبناء مساجد فيها وشمروا سواعدهم للمشاركة في بنائها. لكن الحقيقة ان الايديولوجيا لم تتغير برغم استعانة ال"بي جي بي"بنفر من المسلمين الذين يعتبرون في نظر المسلمين مرتدين لم يعد لبعضهم إلا اسماؤهم الاسلامية وترشيحه ستة منهم في انتخابات العام 1998 لم يفز منهم إلا واحد. ان ال"بي جي بي"يحاول جاهداً الفوز بأصوات المسلمين كي ينفي عن نفسه تهمة الطائفية، وهو في الحقيقة ليس هدفه الرئيسي، فهذا الهدف هو القوى العلمانية الرافضة لايديولوجيته والذي يعتقد بأن تنعيم خطابه السياسي ازاء المسلمين كفيل بكسبها الى صفه وعزل حزب المؤتمر وغيره من القوى العلمانية. والحقيقة ان ال"بي جي بي"لا يهتم بتطوير أوضاع المسلمين واخراجهم من حال البؤس المزمنة والعزلة التي يعيشونها منذ العام 1947 والتي أسهم فيما حزب المؤتمر نفسه. وتنبئ الانتخابات الأخيرة بأن ال"بي جي بي"فشل وأن ذاكرة مذبحة ولاية قوجرات قبل عامين ضد مسلمي الولاية وتواطؤ حكومة الولاية ورفض الحكومة المركزية إقالة رئيس وزرائها لا تزال حية. والأكثر بقاء في الذاكرة احساس المسلمين القوي بالافتقار للأمن والتهميش ووجود سياسة غير مكتوبة لإدامة وتقوية هذا الاحساس الذي عبر عنه أحد الكتاب بقوله ان على المسلمين التعايش مع وضعهم كأقلية. وهنا تجدر الاشارة الى ان الاحزاب الاصولية الطائفية هي نفسها أحزاب أقلية في اطار الطائفية الهندوسية المتعددة الطوائف والأعراق، وأنها تستعين لتقوية نفوذها بالمال الذي تمده بها فئة من رجال الأعمال وتحصل على بعضه من بعض أفراد هذه الفئة الذين يعيشون في أوروبا وأميركا والخليج. والمثير للدهشة ان صعود الطائفية في الهند لم يقلق احداً في الغرب لان مصالحه الاقتصادية والتجارية تعززت. ولذلك لا يطلق الاعلام الغربي على ال"بي جي بي"تسميات التطرف والاصولية والطائفية ويسميه بالحزب القومي فقط، اشارة الى تعصبه الوطني. ان فشل الحزب في هذه الانتخابات يشكل نكسة لمشروع الهندوتفا الذي يقوده اتحاد كل التنظيمات الطائفية الاصولية"سانغ باريفار"Sangh Parivar الذي ينادي بانشاء دولة هندوسية تقود أمة هندوسية"هندو راشتر"ذات بُعد ديني وثقافي واحد لبناء أمة واحدة وثقافة واحدة وسن قانون مدني موحد يعبر عن الغالبية. وكل ذلك مبني كما تعلن بوضوح على تفوق هندوسي. ان اتحاد السانغ باريفار والمنظمات التابعة له القديمة منها والجديدة تريد احداث تغيير جذري يطيح أسس الجمهورية التي اعلنها جواهر لال نهرو العام 1947، وهي الفلسفة الوطنية العلمانية والليبرالية والديموقراطية. وقد قبل اعداء هذه الأسس نتائج الانتخابات ولم يقبلوا بأن تتولى زعيمة حزب المؤتمر عضو البرلمان سونيا غاندي السلطة رغم ان الدستور لا يحرمها هذا الحق بعد ان منحت الجنسية الهندية قبل عشرين عاماً وعاشت في الهند اكثر من اربعة عقود. وقاد المنظّر الايديولوجي لل"بي جي بي"قوفيد اشاريا زعيم منظمة المنتطوعين عن الفاشية"ار اس اس"حملة ضدها بدأت بتجاهل ذكر اسمها الهندي واعادة الحياة الى اسمها الايطالي، سونيا ماينو، هذه الحملة كانت مرشحة للاتساع قد تستخدم فيها منظمات لها خبرة في الارهاب والتخريب والاغتيال مما يفقد حكومتها القدرة على العمل في ظل اوضاع طبيعية ومستقرة، مع احتمال ان يتحول الاستقطاب الحاصل بين التيارين العلماني والاصولي الطائفي من السياسة الى العنف والمواجهات الدموية. ولقد بدأ الشحن الايديولوجي الاصولي باتهام سونيا غاندي بما ليس فيها عندما قال زعيم المنظمة الهندوسية العالمية VHP ذات الصلة القوية بالصهيونية العالمية ان السيدة سونيا لن تكون متشددة ضد الارهاب بما فيه الكفاية لان حزبها متحالف مع احزاب اصولية. ان عهداً جديداً في الهند سيخلق الطمأنينة لدى الاقليات ويعيد الامل لدى اولئك الذين ازداد تهميشهم بسبب سياسة الانفتاح التي اهتمت بمصالح قوى السوق وتجاهلت مصالح الشعب. ان اضفاء وجه انساني لليبرالية الاقتصادية هو الذي يجعله مقبولاً لدى الشعب الهندي الذي لا تختلف مشاكله ومعاناته عن مشاكل دول الجنوب كلها حيث تخدم سياسة الانفتاح فئات محدودة فيه في ظل غياب الضوابط والقوانين المعمول بها في الدول الليبرالية الغربية المتقدمة التي هذبت توحش الرأسمالية وحدت من جشعها وأنشأت مجتمعات فيها توازن مقبول للمصالح ورقابة ومنظمات وآليات تجعل كل فئات المجتمع صاحبة مصلحة في سياسات تتسم بالاستمرار والعدالة النسبية. ان الذين أعادوا حزب المؤتمر الى السلطة هم الفقراء الذين اعاودا السيدة انديرا غاندي اليه العام 1979 والذين قالوا للاخيرة عندما لجأت اليهم للنجاة من بطش اليمين ان بطونهم لم تشبع يوماً واحداً طوال حياتهم، هؤلاء لم يتحسن وضعهم كثيراً ولا تهمهم الاحصاءات التي تتحدث عن زيادة مستخدمي التلفون المحمول او العولمة او بهرجتها، انهم يريدون سياسات تحترم آدميتهم وتوفر لهم الحد الأدنى من الأمان والكرامة. واذا لم ينجح حزب المؤتمر في إحداث تغيير ولو متواضع في حياة هؤلاء فقد تكون هذه آخر فرصة له في النجاح. وطبيعي ان السياسات الجديدة تحتاج وجوهاً جديدة نظيفة وليس تلك التي تتحمل مسؤولية فشل الحزب في السنوات العشر الماضية والمهتمة بمصالحها الخاصة اكثر من اي شيء آخر. ان للذين جاذبيته في بلد لا تزال الأمية من نصيب 40 في المئة من السكان ويوظف توظيفاً سياسياً بقيادة منظمات واحزاب طائفية تمتلك من امكانيات الحركة والتجنيد والتحريض ما لا يمتلكه حزب المؤتمر وجبهة اليسار. ولن يأتي المطحونون كل مرة للانقاذ الا اذا انقذوا من براثن الفاقة والفقر والطائفية والاصولية. وقد اكدت هذه الانتخابات ان التعصب الديني غريب وجديد على الهند بلد التسامح، واذا كان قد حيل بين السيدة سونيا غاندي وبين الحكم بسبب اصلها الاجنبي او بسبب خوفها على ابنتها وابنها من التصفية الجسدية فان تولي السيد مانموهان سينغ الذي ينتمي الى الطائفة السيخية التي لا يتجاوز عددها الخمسة عشر مليوناً في بلد يقطنه اكثر من بليون نسمة مؤشر ايجابي لعودة الهند الى روح غاندي وجواهر لال نهرو والسيد سينغ اول شخص من الاقليات يتولى منصب رئيس الوزراء منذ الاستقلال، وهذا الامر غير مريح لل"سان باريفار"وال"بي جي بي"جناحه السياسي ولمشروع الهندوتفا والهند وباشترا. ان الرئيس الهندي الآن مسلم وقبله تولى مسلمان وسيخي الرئاسة، لكن السلطة الحقيقية بيد رئيس الوزراء لذلك يطمئن هذا التطور المثير الاقليات كلها التي تتفاوت حروب التمييز والتهميش ضدها، ويعيد روح الاستقلال ومبائه الى الحياة العامة في الهند. * كاتب وديبلوماسي يمني رئيس بعثة الجامعة العربية السابق في الهند.