مبدعون وكتاب ومؤلفون.. فنانون ومتقاعدون وإعلاميون.. شريحة واسعة من المجتمع بفئاته المختلفة ذكوراً وإناثاً، وهم في وجهة نظر عدد من المختصين في علم النفس مصابون بأمراض نفسية دون أن يشعروا، وفي الوقت الذي يدرك البعض منهم أن عارضاً نفسياً اعتراه ؛ فيعترف بذلك ويبحث عن العلاج في العيادات النفسية، إلا أن الغالبية يتجهون إلى التحفظ بما اعتراهم خشية "وصمة المرض النفسي" الذي ارتبط بالجنون في ثقافة المجتمع. ويجمع مختصون في علم النفس التقت بهم "الوطن" على أن 50% من أفراد المجتمع يعانون من عوارض نفسية؛ بل إن البعض منهم ذهب إلى أن النسبة قد تصل إلى 80%، بحجة أن المرض النفسي عارض قد يستمر مع الإنسان فترة طويلة ويعيقه عن ممارسة حياته الطبيعية، وقد يتلاشى بسرعة دون أن يؤثر على حياته الطبيعية نتيجة زخم الحياة وإفرازاتها اليومية، أو نتيجة تربية أو صحبة سيئة أو طموح لم يتحقق. أصناف المرضى يصنف المستشار القضائي عضو الجمعية العربية للصحة النفسية بدول الخليج العربي والشرق الأوسط الشيخ صالح اللحيدان المرضى النفسيين في المملكة إلى خمسة أصناف قابلة للتزايد، وقال اللحيدان "الصنف الأول يمثل المرض النفسي التلقائي، ويحدث نتيجة عدم حصول الشباب على وظيفة، وتعجل الشاب من 16 25 سنة في طفولته المبكرة للنتائج، فهو يريد الوظيفة والمال والزواج ولا تتوفر له، ويسمى "الارتداد النفسي اللاواعي"؛ لأنه يسقط اللوم على الوزارات أو الوالدين، وهذا المرض شفاؤه ممكن عن طريق التقادم العمري . وأضاف اللحيدان "الصنف الثاني يمثل أصحاب المرض النفسي الانتقالي، ويحدث هذا بسبب انفصال الوالدين أو انحراف أحد الوالدين الخلقي أو السلوكي، وتجد أن الأبناء غالباً ما يتكتمون على انحراف الأبوين وخاصة البنات لأن العاطفة تجبرهن على ذلك؛ ونتيجة لذلك يحدث "التراكم المرضي" للشخص بمعنى أنه ينظر للمجتمع على أنه منحرف، أو أن بالمجتمع خللاً ثقافياً أو نقدياً أو علمياً أو تاريخياً أو شرعياً، وهذا علاجه صعب جداً ؛ ولاسيما أن أغلب أفراد هذه الشريحة يكونون من المتعلمين، وتجد البعض منهم يكتب الرواية وله اهتمامات بالثقافة ونحو ذلك، والبعض الآخر من النقاد الكبار الذين يسقطون ماعاشوه وعانوه في كتاباتهم" مستشهداً ببعض كتاب الرواية الذين تمر بهم ظروف المعاناة النفسية، خاصة ممن يكتبون القصص القصيرة ويضيفون في سيرتهم الذاتية أن هناك من مدحه ومن كتب عنه فيجعل المقدمة مدحاً وتمجيداً لنفسه، أو يجعل أحد الكتاب الكبار هو من يكتب له المقدمة، معتبراً كل هذه إسقاطات نفسية علاجها صعب جداً؛ لأنهم لا يدركون أنهم مرضى مطلقاً، بل يرون أنهم هداة ومنظرون للمجتمع بينما هم يعانون من المرض، في حين أن هناك من يكتب الزوايا الصغيرة في الصحف وينتقد المجتمع والجهات الرسمية وبعض الأمور الشرعية بلغة تكشف المرض الذي يعاني منه. الكآبة المزمنة ووصف اللحيدان الصنف الثالث بالأشخاص الذين لا يدركون أنهم مرضى أبداً ولا يقرون بذلك، ولكن من خلال المجالسة والمصاحبة والتعامل والرؤية يتبين أن لديهم مرضاً، وخاصة المرض المنتشر الآن في دول الشرق الأوسط والمعروف ب " الكآبة المزمنة والحادة "، وقد تتحول هذه الأمراض إلى أمراض عصيبة جداً مثل الانفصام في الشخصية، وهؤلاء غالبهم يشعرون تلقائياً أنهم مرضى ولكنهم لا يذهبون للمستشفى، ولها ظواهر واضحة مثل الشعور بالبكاء وجلد الذات، فيما ينضم الصنف الرابع والمعروف ب "مرض الانتكاسة" إلى القائمة، وهذا النوع يصاب به كبار الأدباء أو المسؤولين الذين أُحيلوا للتقاعد وسبب مرضهم أنهم عاشوا في عزة وجاه ومال ثم فجأة أحيلوا إلى التقاعد، وأصبحوا يواجهون صعوبة في الحياة والتعامل مع فئات المجتمع. نصيب النساء وقال اللحيدان "الصنف الخامس يختص بالنساء، فهناك شريحة منهن يعانين نوعاً من الإحباط، و80% منهن لا يعترفن بالمرض النفسي؛ وخاصة الإحباط الذي يلازمهن لأنهن يجهلن المرض فيعبرن عنه بأوضاع أخرى، مثل ضيق الصدر والهم والقلق؛ بحيث يأتين بعناوين أخرى مكتسبة بينما هو شعور نفسي أو مرض نفسي؛ وأسباب هذا المرض تعود إلى عدم الموافقة الزوجية وانقطاع الحيلة". ووجه اللحيدان نداء للمختصين في علم النفس العام والاجتماع لعلاج هذه الظواهر النفسية المختلفة، وأن يراعي الأطباء المتخصصون ماهية المشكلة وأسبابها وأفضل الحلول والنتائج المنبثقة، وكيف يمكن تطبيق هذه النتائج على الشرائح. نسب متداولة إلى ذلك، أوضح استشاري الطب النفسي الدكتور عدنان عاشور بأنه ليست هناك دراسات مخصصة لنسبة المصابين بالأمراض النفسية في المملكة؛ إلا أن هناك نسباً متداولة على مستوى العالم العربي لايمكن الاستناد المباشر عليها. وأضاف عاشور "هناك فئتان من المرضى في المجتمع، الأولى مرضها واضح بحيث لا يعتقد أنه مريض أبداً، وتشكل هذه الفئة مشكلة لنفسها وللمعالج النفسي لأنه يعتقد أنه الصواب والبقية هم المرضى، أما الفئة الثانية فتعلم أنها مريضة ولكنها لا تعلم أين تذهب، ولا تريد أن تعرف أو تعترف أن لديها مرضاً نفسياً وتعتقد أن مرضها جسماني". ويقسم استشاري الطب النفسي بمستشفى الحرس الوطني بجدة الدكتور رجب بريسالي الأمراض النفسية إلى قسمين، الأول "الأمراض النفسية العصابية " المتمثلة في القلق والخوف والاكتئاب، مشيراً إلى أن 70% من هذه الفئة لديهم استبصار بحالتهم ويطلبوا العلاج من الأخصائيين النفسيين، أما القسم الثاني فهم أصحاب الأمراض الذهانية ويأتي في مقدمتها الانفصام والاضطراب الوجداني. وصمة العار واتفقت اختصاصية الصحة النفسية بجامعة الطائف الدكتورة حنان عنقاوي مع الدكتور بريسالي في أن المرض النفسي قسمان نفسي وعقلي، وقالت.. في حالة المرض العقلي لا يدرك المريض أنه مريض مطلقاً، ويعتقد أن الناس مرضى وهو السليم، أما النفسي فيدرك أنه مريض ولكنه لا يذهب للطبيب وفي حال ذهابه فهو يكون خائفاً ووجلاً حتى لا يُقال عنه أنه مجنون، وأشارت إلى أن الفرق بين الإنسان الطبيعي والمريض النفسي أن كلا الصنفين يشعر بنفس الأعراض كالخوف والاضطراب والقلق؛ ولكنها تأخذ زمناً طويلاً مع المريض النفسي وتسيطر عليه وتعوقه عن أن يعيش حياته الطبيعية؛ بينما في الإنسان الطبيعي تكون عارضة ولا تعيق الإنسان عن حياته الطبيعية. وكشفت عن أن هناك تخوفاً في المجتمع من أن يُطلق على الفرد أنه إنسان مريض أو مجنون، وأن نسبة المرتادين للعيادات النفسية من خلال عملها وتجربتها قليل جداً خاصة في المستشفيات الحكومية؛ إذ يتجه نسبة كبيرة من المرضى النفسيين للعيادات الخاصة تحت أسماء مستعارة. الحاجة لطبيب وفي شأن متصل، يلفت عضو هيئة التدريس لقسم علم النفس بجامعة أم القرى الدكتور إلهامي عبد العزيز إمام إلى أن العلاقة بين العلاج النفسي والمريض النفسي تكاد تكون منقطعة، وإن كان هناك درجات بسيطة من الوعي، إلا أن أفراد المجتمع ينظرون للمعالج النفسي نظرة شك وريبة وعدم اقتناع، ويرتبط ذلك بدرجة الخرافة ونحوها في المجتمع العربي. وأشار إمام إلى أن عدد المترددين على العيادات النفسية ضعيف جداً لأن الإنسان يحتاج للطب النفسي . وأضاف " إذا كنا نريد التأسيس للعلاج النفسي وفكرته فإن ذلك يتم بأن يكون لكل طفل مرشد نفسي خاص به، إضافة إلى ارتباط المدرسة بتعاقدات مع المرشدين النفسيين المعترف بهم؛ بحيث تنشأ أهمية الاعتراف بالطب النفسي منذ الصغر ومن مراحل أولية في التعليم، والوضع الآن بالمدارس يحتاج إلى المرشد النفسي المؤهل، وعلى الرغم من الاعتراف الرسمي من الدولة بالمرشد إلا أن دوره في المدارس لا يزال ضعيفاً جداً". عوارض نفسية وأمام ما يواجهه الشخص من ضغوطات في الحياة تشير الأخصائية النفسية رئيس مجلس إدارة جمعية حماية الأسرة بجدة سميرة الغامدي إلى أن هناك عوارض نفسية متعددة في الحياة قد تعترض الإنسان في أي وقت؛ منها القلق الشديد والحزن والاكتئاب والانتكاسة وخاصة عند فقدان أحد أفراد الأسرة، وكذلك التوتر الشديد والفزع واضطراب السلوك وحوادث السيارات التي تؤثر على الدماغ وتحدث نوبات من الصرع، مؤكدة على أن كل إنسان يحتاج للمرشد النفسي والاجتماعي أو لمستشار نفسي مثلما يحتاج للمستشار القانوني. وبينت أن الهوس بالتسوق وبشراء بعض الملابس لا يكون مرضاً نفسياً بقدر ما هو اضطراب نفسي يحتاج إلى علاج. الخوف الاجتماعي يعد مرضا الخوف الاجتماعي والاكتئاب هما المرضان الأكثر انتشاراً في المملكة وفقاً لاستشاري العلاج النفسي بمستشفى الهدا الدكتور محمود أبو رحاب، والذي أشار إلى أن هناك عدداً من الأمراض النفسية التي يُشرف عليها ويتابعها من خلال عيادته وخبرته في هذا المجال. واعتبر أبو رحاب العنف ضد المرأة والإدمان لدى شريحة المراهقين من الأمراض النفسية التي ينبغي أن يتم تداركها وعلاجها العلاج النفسي الصحيح؛ مستشهداً بأنه كثيراً ما يواجه في عيادته من المرضى من يكونون أصحاب مراكز اجتماعية مرموقة؛ ولكنهم يشكون من مرض الخوف الاجتماعي وعدم القدرة على مواجهة الجمهور في أي مكان؛ نتيجة "الكبت" الذي يتعرضون له منذ الطفولة، محذراً من الخلط بين مسميات "الطبيب النفسي" و"المعالج النفسي" و"الأخصائي الاجتماعي" إذ أن كلاً منهم يختلف في علاجه وتعاطيه مع المرض النفسي .