تزعم إسرائيل أن الجدار الذي تبنيه في عمق الضفة الغربيةالمحتلة سياج أمني يهدف الى حماية مواطنيها من الهجمات الإرهابية. ولكن الجدار الذي شرعت في بنائه في الثالث والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 2003 يسلب المزيد من الماء والأرض، ويجعل حياة أهلها لا تطاق. دمر الجدار حتى الآن 16 قرية، يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، كما دمر عشرات الآلاف من أنابيب الري، وتسبب في إتلاف 200 ألف شجرة زيتون. إسرائيل تقتلع أيضاً مئات من أشجار الزيتون العتيقة لتبيعها لتجار إسرائيليين، ويذكر الصحافي الأميركي - الفلسطيني راي حنانيا أن كل شجرة من هذه الأشجار التي تعود إلى العصر الروماني تبيعها إسرائيل ب10 آلاف دولار أميركي. أما مدينة قلقيلية سلة غذاء المجتمع الفلسطيني التي تنتج 42 في المئة من حاجاته الزراعية فقد طوقها الجدار بالكامل، الأمر الذي دفع أكثر من 10 في المئة من سكانها إلى هجرها بحثاً عن لقمة العيش. هذه أرقام أخرى: يبلغ طول الخط الأخضر350 كلم، لكن طول الجدار يبلغ 600 كلم، وارتفاعه 8 أمتار جدار برلين كان طوله 155 كلم، وارتفاعه 3،6 من المتر. يتراوح عمق الحاجز المحاذي للجدار بين 60 و100متر، ويشمل خنادق وأسلاكاً شائكة وسياجات كهربائية وأبراج حراسة ومواقع لتسجيل البصمات. عندما يكتمل تشييد الجدار ستكون 54 في المئة من الضفة الغربية في أيدي إسرائيل، ما يعني ضمها إلى الأرض المحتلة عام 1948. قرابة 80 في المئة من المستوطنات اليهودية ستصبح في الجانب الشرقي الإسرائيلي. عشرات الأراضي الزراعية فصلها الجدار بهمجية وفظاظة، وأصحابها محشورون في الجانب الشرقي لا يجدون وسيلة للوصول إليها والعناية بها. لكن ذلك ليس كل المشهد، فإسرائيل - كما ذكرت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية 23 آذار/ مارس 2003 - تعد لبناء جدار آخر من الشرق على طول غور الأردن ليطوق الفلسطينيين من الخلف، ويتوقع أن يزيد طوله على 400 كلم. أكثر ما يميز هذا الجدار - كما يقول يوري أفنيري الناشط في حركة "السلام الآن" الإسرائيلية - أنه "غير إنساني، إذ تجاهل مصمموه تماماً وجود بشر غير يهود. لقد أخذوا في اعتبارهم التلال والوديان والمستوطنات ومسالك الطرق الجانبية، لكن تجاهلوا في شكل مطلق الأحياء والقرى الفلسطينية، وسكانها وحقولها، كما لو أنها غير موجودة". ويضيف أفنيري: "يقف الجدار بين الأطفال ومدرستهم، بين الطلاب وجامعتهم، بين المرضى وطبيبهم، بين الوالدين وأبنائهما، بين القرى وآبارها، وبين الفلاحين وحقولهم. إنه أشبه ما يكون بجرافة مصفحة تقتحم قرية، فتسحق وتدمر كل شيء في طريقها بلا تردد. يقطع الجدار آلاف الخطوط الرقيقة التي تنظم نسيج الحياة اليومية للمجتمع". هذه الحياة لا تعني شيئاً لمصممي الجدار، لأنها "ببساطة غير موجودة". الضفة الغربية - كما يقول أفنيري - "خالية من غير اليهود" ولذا فهي خالية من الناس، وتنطبق عليها الأسطورة التي روجتها الصهيونية عن فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". تبدو هذه المقدمة ضرورية للحديث عن أهداف ودلالات أخرى للجدار، تعشعش في المخيخ الاسرائيلي وتضرب أطنابها فيه. الجدار تجسيد لحال الانفصال الدائم بين اليهود والأغيار، ونزعة التقوقع على الذواة في معزل أو غيتو يرجع بعض الباحثين أصل كلمة "غيتو" إلى حي إيطالي كان يسكنه اليهود في القرن السادس عشر. ويشير عبدالوهاب المسيري في كتابه موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية إلى هذه الحال بالقول: "الدارس للصهيونية يلاحظ الآثار العميقة التي تركتها حياة الغيتو ونظمه في عقلية ونفسية اليهودي، حيث أصبح الأغيار شراً مطلقاً، وأصبحت الدولة الصهيونية هي مركز الحياة والتاريخ، وقد جاء الاستيطان على أرض فلسطين تجسيداً لذلك الغيتو، وتكريساً لطريقة التفكير السائدة والناجمة عنه، وقد كرس هذا التفكير الخوف والطمأنينة معاً، الخوف من الأغيار، والطمأنينة للعزلة حيث لا أمن ولا سلم إلا في إطار النقاء اليهودي...". حرص اكثر اليهود منذ القدم على العزلة انطلاقاً من إيمانهم بأسطورة الشعب المختار والتفوق على البشر، والنقاء العرقي. وبعد شتاتهم وانتشارهم في أوروبا اختاروا الإقامة في أحياء خاصة بهم حرصاً على النقاء المزعوم وأداء الشعائر بعيداً من أعين الأغيار والغرباء. لكن الغيتو الذي بدأ اختيارياً تحول عام 1555 إلى غيتو إجباري عندما أصدر البابا بولس الرابع مرسوماً يلزم اليهود الإقامة في حي خاص بهم، يغلق في المساء ولا يفتح إلا مع بزوغ الفجر. وظل نظام الغيتو سارياً في إيطاليا حتى ألغي في أواسط القرن التاسع عشر، لكن اسم الغيتو انتشر، وأُطلق على معظم الأحياء اليهودية في أوروبا. عاش معظم اليهود في أوروبا القرون الوسطى معزولين خلف أسوار الغيتوات، وفي القرن التاسع عشر ظهرت جماعات يهودية تطالب اليهود بالخروج من العزلة والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية، مستلهمة ذلك من حركات التنوير الأوروبية التي اشتد عودها وارتفع صوتها. وظهرت الحركة الصهيونية بصفتها مشروعاً يناقض هذه المطالب، ويدعو اليهود إلى العودة إلى أرض الميعاد، والانعزال مجدداً، ولكن في غيتو كبير هذه المرة يلم شتات اليهود من كل أنحاء العالم. كثير من اليهود تحمسوا لمشروع اغتصاب فلسطين لأنه في نظرهم سيمنع ذوبان اليهود، وسيمنحهم مزيداً من النقاء والسمو. وبهذا فإن فكرة إسرائيل برمتها كانت مشروع غيتو، ومشروع جدار. وقد عبر عن ذلك ثيودور هيرتزل في كتابه الدولة اليهودية حيث قال: "في فلسطين سنشكل جزءاً من جدار أوروبا ضد آسيا... قاعدة أمامية للحضارة ضد الهمجية". ويوضح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان فكرة الغيتو في كتابه صوت إسرائيل فيؤكد أن هدف إسرائيل يجب ألا يكون الاندماج في الفضاء العربي والإسلامي لأن الوطن اليهودي في رأي الصهيونية "يجب أن يخلو تماماً من العرب". بعيد انتفاضة الأقصى وازدياد وتيرة العمليات الاستشهادية التي نقلت الصراع إلى أرض فلسطينالمحتلة عام 1948 انهار وهم الغيتو الآمن. انسكب الدم اليهودي في طرقات أرض الميعاد وشواطئها وملاعبها وأسواقها التي لم تعد واحات تفيض لبناً وعسلاً. هنا قفز مفهوم الجدار إلى العقل الصهيوني الذي لم يفتأ يقدس لغة الجُدر والأسوار. مارتن فان كريفليد خبير استراتيجي إسرائيلي أشار في آذار 2002 إلى أن الصراع مع الفلسطينيين هو "صراع خاسر منذ اليوم الأول، وسيؤدي إلى القضاء علينا". ولمواجهة هذا الخطر اقترح كريفليد إقامة جدار يفصل الفلسطينيين فصلاً تاماً، فلا جسور مفتوحة، ولا علاقات اقتصادية، ولا زيارات سياحية، مضيفاً: "إنني أتحدث عن سور حجري كسور برلين، أو عن سور أكبر إن أمكن، بحيث يكون شديد الارتفاع إلى حد أن الطيور لا تستطيع اجتيازه". هذا الكلام يحمل في طياته الخوف من القادم. كريفليد وغيره من الصهاينة يعرفون أنهم ارتكبوا جريمة اغتصاب الأرض وإرهاب مواطنيها العرب على مدى قرن من الزمان، ويدركون أن الضحايا يمكن أن يثأروا إذا استطاعوا، ولذا فهم يرفضون أي تسوية تضمن بقاء هؤلاء الضحايا في أرضهم واستعمارهم لها. الحل في نظر الصهيونية هو العنف، القتل، الطرد الجماعي، تجفيف منابع الحياة من ماء وشجر، بناء الجُدر الخرسانية التي تعزل الضحايا لكن لا تعطيهم سنتيمتراً واحداً من الأرض. الجدار دلالة على الشعور بالجريمة، والخوف من العقاب، والإيمان بحتمية الصراع وديمومته. عبر عن ذلك الحاخام مائير كاهانا بقوله في مقابلة أجراها معه مؤلفا كتاب "آيات الله الإسرائيليون" Israel's Ayatol lahs: "ستكون هناك حرب سرمدية، بكاهانا أو من دونه. ليس لأن كاهانا يريدها، بل لأن العرب يؤمنون بأن اليهود لصوص، وأستطيع أن افهم وجهة نظر العرب هذه". يؤكد كاهانا أن الحل ليس في استيعاب العرب أو شرائهم، بل في تهجيرهم قسراً، لأن العربي عزيز بطبعه، ولا يقبل أنصاف الحلول. يضيف كاهانا: "عندما يقول بعض اليهود للعرب: انظروا ماذا صنعنا لكم... وجدنا هنا صحراء، وحولناها إلى جنة، يجيب العربي من منطلق مفهوم: ربما كان ما تقوله صحيحاً، لكنها كانت صحرائي، وأصبحت الآن جنتك. ولذ فأنا أفهم العرب تماماً. من الجنون الاعتقاد بأنه يمكن شراؤهم... إن لدينا شعوراً عميقاً بالذنب يدفعنا إلى القول "دعونا نشتريهم". لهذا السبب أقول إن على العرب أن يرحلوا عن إسرائيل". لكن في ظل تراجع احتمالات التهجير، أو عدم توافر الظروف المناسبة له، تشعر إسرائيل أن عليها أن تعيش في معزل، وتحيط نفسها بجدار متوحش يتوغل كالأفعى في الأرض الفلسطينية، يلتهم الزرع والضرع، يمتص الماء سر الحياة، ويقهر الضحايا علّهم يختنقون أو يرحلون. من خلال الجدار تقول إسرائيل للفلسطينيين: موتوا بغيظكم، لن تنالوا خيراً، أرضكم لنا وإن ضرب بيننا بسور. إنه يفصل بيننا وبينكم، لكنه لا يعطيكم حق امتلاك مخيماتكم وبياراتكم وشمسكم وهوائكم. وحدنا من يملك غربي الجدار وشرقيه. الجدار فقط يحجبكم عن أبصارنا، يغيب وجوهكم فلا نراها، يعطينا شعوراً بالأمن. يؤكد أسطورتنا التي تقول أنكم غير موجودين أصلاً عبرت عن ذلك بوضوح غولدا مائير بقولها إنه "لا يوجد شعب فلسطيني... وكأننا نحن الذين جئنا لإخراجه من دياره... فهم - الفلسطينيون - لا وجود لهم". الجدار يجسد شعور الإسرائيليين بالغربة عن هذه الأرض وهذه المنطقة. إنهم لا يمكن أن ينصهروا هنا لأنهم ليسوا جزءاً من الجغرافيا والتاريخ والدين والثقافة واللغة، ولذا فلا بد من انكفائهم وعزلتهم، إنهم هنا في المشرق، لكنهم ليسوا جزءاً منه. الجدار يحكي أيضاً عقدة التفوق والعلو، فهو في نظرهم يحجب الهمجية والعنف واليأس، ويتيح لهم حرية العيش بسلام. لكن أي سلام؟ هناك مثل أميركي يقول: "بإمكانك أن تركض، لكن ليس بإمكانك أن تختبئ". لن تحمي إسرائيل متانة الأسوار وبراعة التحصينات، ولن تجعلها تفلت من نقمة الضحايا. يتساءل دان بار - أون الأستاذ بقسم علم النفس في جامعة بن غوريون: "لماذا قررنا فجأة العودة إلى عقلية الغيتوات المحاطة بالأسوار؟ هل كان خطؤنا الوحيد أننا لم نلاحظ أن شعباً آخر يعيش هنا، وأنه قد تضرر من الطريقة التي تجاهلنا بها وجوده". ثم يضيف: "قد يكون هذا السور حجر الزاوية لغيتو كبير ينشأ هنا... غيتو لا يمكن الخروج منه إلا في اتجاه واحد فقط: غرباً نحو البحر". لكن لا يبدو مطلقاً أن إسرائيل قادرة على سماع الحقيقة ورؤية النور في ظل خوفها المسيطر، وشعورها العميق بفداحة الجريمة. ليس بوسعها وهي تصر على قهر العرب واغتصاب حقوقهم إلا تحصين نفسها بالمزيد من الجُدر والخنادق والألغام والأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة، ليس بوسعها إلا الفرار إلى حيث لا مفر، إلى غيتو على الأرض يجسد الغيتوات الكامنة في النفس الصهيونية القائمة على النفي والاستئصال. ما يثير السخرية أن الجدار ينتصب في زمن تتهاوى فيه الجُدر، وتتلاشى الحدود، ويصبح الكون قرية معولمة، أو هكذا يقال. ومع هذا يشمخ الجدار الذي ينقطع نظيره في التاريخ المعاصر، ويحظى بتفهم الدول المتحضرة بينما المصطلحات تقصر عن وصف تخلفه وبشاعته. جدار الفصل ليس بدعاً إذاً... لكنه ربما كان الفصل الأخير من قصة الجُدر والغيتوات. * أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الملك سعود.