تكتب هنرييت عبودي روايتها "خماسية الاحياء والاموات" دار المدى، 2004 من دون أي استعراض تقني أو ثقافي، أو استطرادات فكرية أو فلسفية، أو رومانطيقية "تأملاتية" لا طائل من ورائها غير أن توقع القارئ في جُبّ الملل والضيق. اختارت الأديبة أن تغيب تماماً كساردة للرواية، ظلّت بعيدة، حتى إننا نشعر كأن لا حضور لها لولا اسمها المدوّن على الغلاف. فقد حطّتْ بشخصياتها في مركب روائي، ثم أطلقتهم في خضمّ السرد مبحرين الى مصائرهم، بعدما أسلمتهم دفّة القيادة. الشخصيات الرئيسة خمس، تشكّل لوحة مسرحية مقسمة إلى خمسة أجزاء، لكل جزء فصوله ومشاهده، ولكل شخصية سردها وحكايتها الخاصة. وقد عنونت الفصول بأسماء سارديها، لتتناوب، وتتجاور، تتشابك، تتصارع وتتناثر ما بين الواقع والخيال والحلم. شخصيات خمس جمعتهم العلاقات الاجتماعية، الاختيارية هنا: الصداقة والحب. كما انها خمس شخصيات تنتمي الى الفئة المتعلمة والمثقفة. خمسة أحياء، لكل منهم حكايته، هواجسه، أحلامه، انكساراته. يعيشون الحياة باحثين عن سبل لتحقيق انسانيتهم واستقلالهم الفردي. قد يبدون منعزلين عن المجتمع، لكنهم غير مفصولين عن واقعنا وإنسانيتنا. إذاً، لدينا خمسة أصوات حملت عبء السرد ولوّنته، وكسّرت نمطية السرد المألوفة وثباته. ومعه أيضاً تعددت الحكايات، وتوالدت شخصيات أخرى، وتداخلت أزمنة. المكان في الرواية مكانان. مكان غير مسمى جغرافياً، لكنه يلقي بظلاله القوية على الشخصيات، وما من شك في انه مكان ما في الوطن العربي. أما المكان الآخر الحاضر بقوة فهو الذات الانسانية. الزمان هو زمنان أيضاً. الأول، والسيد هو الحاضر. وعبره يحضُر الزمن الآخر الذي يبدو متوارياً، لكنه قابع خلف السطور، مستورٌ يولّدُ لدى القارئ أسئلة، ويدفعه لسحب خيوط من ذاك الماضي رابطاً إياها بخيوط الحاضر. فتتكون لديه قضية أخرى، أجادت الكاتبة بطرحها مُظلّلة خلف سرد رشيق وممتع، ليجد ان استحضار هذا الماضي لم يكن مجانياً في سرده لحكايات أخرى وتقديمه لشخصياتها، وإنما سنقرأ خلف السطور تطور المجتمع، وتغيير ملموس آل اليه نمط العلاقات الاجتماعية ونمط الحياة عامة. وسيتساءل القارئ، ربما، عن مدى حقيقة وجوهر هذا التطور، وما مدى جدية الجيل الجديد بالفعل والنضال لتحقيق فردانيته ووجوده الانساني عامة. وعن علاقته بالماضي ومدى هيمنة هذا الماضي على الحاضر؟ هذا ما سنجده كامناً أو ظاهراً لدى بعض الشخصيات. بهاء صافي أحد الأصدقاء الخمسة، يتقدّم المشهد الروائي، وهو الذي عهدت اليه الكاتبة استحضار الماضي، وشخصياته، وحكاياته، الأمر الذي يسهله أن مهنة بهاء هي الكتابة. وها هو منذ البداية، يعلن إفلاسه التام. لقد بارَ خياله الخصيب، في اللحظة التي انفتحت امامه بعض ملفات من الماضي. ماضٍ لا يعنيه شخصياً، وإنما يعني العجوز التي يسكن عندها. وسيغرق بهاء في هذا الماضي حتى الاستلاب الذهني والنفسي والعاطفي أيضاً. ولكن هذه الشخصية المسؤولة والواعية كاتب، ظلت مستلبة وسلبية، وبهاء لا يشعر بأي صراع حيال ذلك. وظلت علاقة الحاضر بالماضي مغيبة هنا. ولكن ما يلفت الانتباه أيضاً هو ما أرادته هنرييت عبودي من تبيان لرؤية بهاء الخاصة الى الكتابة والتي سيدلي بها في النهاية، ومفادها تفضيله الرواية الشفهية على المكتوبة. فما هو شفهي لا بد أن تتبدل ألوانه كتلوّن شفاه سارديه، وبهذا التلوّن حياة دائمة للرواية، أما كتابتها فتجميد وموت لها. ولعل ما يبرر هذه الرؤية أيضاً، أن بهاء عاطل عن العمل، يعيش على حساب أصدقائه، مقابل أن يقدّم لهم منتوجات خياله الخصيب، يسردها عليهم شفهياً. لا يني الماضي يحضر ويلقي ظلاله أيضاً على شخصية أخرى هي نجلاء صبري التي تُقدّم نفسها كامرأة مثقفة، مسؤولة، معنية بقضية تحرر المرأة، فضلاً عن كونها استاذة جامعية تدرّس الفلسفة. تجسد نجلاء صبري بامتياز وإقناع جميل صورة المرأة الجديدة. المرأة التي تعمل دائماً على حسم علاقتها مع الماضي. تنظر الى ذاتها وقناعاتها ومبادئها بالقدر المستطاع من الثقة والجدية. مشبعة بالحياة وبحقها في أن تحيا حرة. تستميت من أجل هذه الحرية. إنها ليست مُطْلق امرأة. وإنما هي من تلك النساء المشبعات بإحساسهن الأنثوي، المشبعات بالقلق والألم والإحباط والتحدي. نجلاء صبري الحاضر مقابل عفيفة أو مريانا والعجوز الماضي. فإن تسنّى للمرأة، في الماضي، النزر اليسير من الحرية، فإن ذلك كان منوطاً ببنات الذوات وبالعائلات ذات الوجاهة. أما حرية المرأة اليوم فهي منوطة بتوفير الشرط والظرف التعليمي، ودخول المرأة ميدان العمل، مما يفضي الى الاحساس بالاستقلال والكرامة. ولكن ثمة ضريبة لا بد من دفعها، ماضياً وحاضراً، ونجلاء صبري مستعدة لدفع الضريبة. تزوجت باختيارها، وطلِّقت باختيارها، وترفض الخيانة الزوجية. ونحن، هنا، إزاء شخصية أُجيد بناؤها روائياً الى حد بعيد، بعالمها الداخلي والخارجي، وتطورها الروائي. اننا ازاء تصوير دقيق لصراعها، لتشتتها الواضح وقلقها، لحوارها مع ذاتها وصراعها معها، لحوارها مع الآخرين وصداميتها، لرافضها لأمها المجتمع ولجوئها إليها في أوقات الضعف وعدم التوازن، ولانفصامها ما بين العقل والقلب، وعدم توازنها الخارجي، بلبلتها وصخبها ازاء هزيمتها. بيد أن تخفي الكاتبة لم يَحُلْ دون أن ترينا هنرييت عبودي تلك النظرة العادلة والمتسامحة التي تنظر بها الى علاقة الرجل بالمرأة، التي تبدو حيادية، تعطي ما لزيد لزيدٍ وما لعمرو لعمرو. من دون أي تطرف، من دون تحميل المسؤولية على طرف دون آخر، ومن دون ضجيج أو إطلاق شعارات. لكن الإخفاء الذي ينكشف لنا تعوضه عملية إخفاء متقنة تخفي هذه النظرة وراء أفعال الشخصيات وردود أفعالها المصطرعة المختلفة. وهذا ما يمكن رصده من اختلاف النماذج النسائية في الرواية وتنوعها. فالصديقة الثالثة في الرواية غدير، فتاة شابة رسامة. لا تشعرنا أبداً اثناء سردها انها انثى بالمعنى الايديولوجي للكلمة، كما أشعرتنا به نجلاء. فغدير، ببساطة، انسانة تبحث عن ذاتها عبر لوحاتها، فهي تَخلُقُ على أملِ أن تُخلَقْ. هي لم تعرف الحب بعد. ليست متزوجة. صديقة بامتياز. وهي تجسد أيضاً صورة المرأة الجديدة، الفعالة، المثقفة، والباحثة عن ذاتها أبداً. قلقها الوجودي يدفعها الى عوالم هادئة او صاخبة، مفاجئة، لكنها تظل على إيمان بأن في الفن خلاصها. بل ان في سرد غدير قصصاً وشخصيات أخرى، وماضياً هيمن عليها بعض الوقت، ثم أطلقها الى نقطة البداية. لتمثل بهذا الصورة الايجابية المقابلة لصورة بهاء وعلاقته بالماضي. الماضي سيبدو أقل تمثلاً لدى شخصية أخرى هي مازن: رجل الحاضر الجديد، محام، مثقف، يؤمن بتحرر المرأة وبمساراتها مع الرجل في كل شيء ما عدا الجنس. وإذا ما كان الماضي يبدو أقل هيمنة على مازن الطموح، إلا أنه يحمل في أعماقه رواسب وإشكاليات تؤدي به الى أزمة وتناقض، مثلما رأينا لدى نجلاء. رواسب تختلف نوعيتها وحجمها لدى كل منهما، لكن ظلالها كانت تنعكس على الدوام في سوء التفاهم بينهما، وفي سوء تفاهم كل منهما مع ذاته. مع الشخصيات الأربع الآنفة الذكر، نحن حيال أجساد من لحم ودم وحياة، وهو ما لا نجد سوى القليل منه لدى حليم الشخصية الخامسة. فهو دائماً الصديق عند الضيق حتى لنكاد نشعر به أنه مجرد أُذن للآخرين. لا نعرف عنه سوى القليل. كما لو أن أصدقاءه لم يكونوا الوحيدين الذين بخلوا عليه بأذن صاغية، وإنما بخلت عليه الكاتبة أيضاً بحبرها. مع أن الفصول التي قام بسردها كان يمكن أن تشرِّح حالته النفسية الرهيبة، وتضعنا في خضم لافت للشخصية، لكن الفصول سردت أغلب الأحيان قصص الآخرين وليس غير. وما يبقى في الذهن مع نهاية الرواية هو أسلوبها الدوراني الذي اعتمدته، بدأنا بشلّة الأصدقاء، رحلنا معهم رحلة ممتعة، عشنا معهم تفاصيل وحكايا، تلوّن زمنها، وتعدد رواتها، وخطابها، وأساليبها السردية، وتشويقها الذي بلغ حدّ اعتماد الحبكة البوليسية أحياناً، وتصاعد أحداثها وتأزمها أحياناً أخرى، مونولوجاتها، حواراتها، ضروب من الحضور والغياب والظلال. وفي النهاية يغادرنا هؤلاء أو نغادرهم، شلة أصدقاء يبحثون، ويمضون راغبين في لعبة الحياة.