"اليوم أرفع رأسي عالياً أقترب من الضياء بعد الليل الطويل" قالت أمل جراح قبل موتها بقليل، والقول من قصيدة في مجموعتها "بكاء كأنه البحر" التي صدرت بعد غياب الشاعرة. ولن نتناول المجموعة على رغم انها شهادة أخيرة على الانتقال من مرحلة ما يمكن تسميته "أدب البوح" الى الشعر معبراً عنه بقصيدة النثر، ما يهمنا الإشارة اليه هو وضع أمل جراح كإنسانة وشاعرة في سياق نهضة بيروت الثقافية التي شارك فيها، الى اللبنانيين، عرب وعدد من الأجانب المقيمين. لكن الوجود السوري كان لافتاً باعتبار بيروت العاصمة الثقافية للمثقف السوري حتى خلال المتغيرات السياسية والاجتماعية الحادة في سورية خلال الخمسينات والستينات من القرن الفائت، ففي هذين العقدين استقبلت بيروت الرأسمالية السورية الهاربة التي حلّ بعض أعلامها في قمة النشاط الاعماري والصناعي وتوصّل عدد منهم الى الجلوس على مقاعد في البرلمان وفي مجلس الوزراء، وترافق مع توافد الرأسمالية وقبلها وبعدها وجود عمالة سورية معظمها موسمي وأقلها مقيم، لكن اللافت هو الوجود الكثيف للسوريين في المؤسسات الثقافية اللبنانية على اختلافها صحافة وجامعات، ونذكر من الأسماء مثلاً لا حصراً يوسف الخال، أدونيس، فؤاد رفقة، رياض نجيب الريّس، نزار قباني، محمد الماغوط، توفيق المقدسي، انعام الجندي. كانت حداثة بيروت تجذرت في تجربة مئة سنة 1860-1960 ونزعة التنوّع والاعتراف انطلاقاً من الطائفية المعلنة والشفافة والقوانين التي تسمح بالتبادل والسفر نمو الطبقة الوسطى وضعف الدولة وقوة المجتمع الآتية من رحابته وحيويته، هذه الحداثة هي ما كان يجذب سوريين راح مجتمعهم يتشنج في متاهات شعارات الاشتراكية والوحدة واستيلاء الدولة على وجوه الحياة. وقد وجد المثقفون السوريون في بيروت متنفساً لهم وأدواراً، في صحافة كانت منبر التيارات والأنظمة العربية المتصارعة، وفي منتديات كانت محل حوار الأفكار الكبرى، القومية والاشتراكية والليبرالية والإسلاموية، وصداماتها، وفي دور نشر استطاعت منافسة مصر وإنتاج الكتاب العربي الذي كان يجد أسواقه في سهولة من المحيط الى الخليج، وفي جامعات خاصة استقبلت فضلاً عن الأساتذة طلاباً من الداخل العربي والآسيوي وصولاً الى أفغانستان. رفعت أمل جراح رأسها عالياً، اقتربت من الضياء بعد ليلها/ ليلنا الطويل. والفتاة الدمشقية التي فتحت عينيها على وردة أغمضتهما على وردة أيضاً. ابنة أقدم مدينة في العالم رأت في نهوض روحها وعقلها وجسدها ان المرأة قارورة طيب يفوح عطرها على الأقربين، لكنه يحفظ خصائصه للحبيب، وكان حبيبها ياسين رفاعية شاعراً وقصاصاً وروائياً شجع شعريتها منذ الكلمة الأولى وترافقا معاً، عائلة صغيرة، الى بيروت حيث اختلطت حياتهما بحيوات أهل الفن والأدب، ودخلا نادي الابداع حتى يمكن القول ان بيت أمل وياسين الضيق كان يتسع لأصدقاء الكلمة على وفرتهم لبنانيين وعرباً. ولم تكن حياتهما مجرد رحلة في الجمال واقتناصاً للحظات الكتابة العابرة، إنما، وهذا قدر الانسان، كانت أيضاً زمناً مطاطاً من العذاب، لأمل التي أصابها المرض باكراً، فبقيت ما بقي العمر تخضع لعلاج وابتسامتها لا تغيب، لكن المرض كان حاضرً في ثنايا كلماتها وفي مدى التأمل، ولياسين يعيش آلامها/ آلامه لحظة بلحظة لكنه يتعزى بالعمل الصحافي ويجد السلوى في تدوين الهزيع الأخير من الليل. تبلورت شاعرية أمل جراح في تجربتها البيروتية الأساسية في اختصار الاسترسال الرومانسي الى اشاراته الأولى الموحية، وفي تدريب اللغة والروح على الاختزال والاشارة، والابتعاد ما أمكن عن سرد لا يلائم أي شعر. لكن أمل جراح لم تمعن في الاختزال الى التجريد أو الى شاعرية الفكرة، بقيت أمينة لأصول أولى طورتها فلم تجاوزها أو تخنها، هذه الأصول هي الوضوح والصورة الموحية والمشهد المتحرك، ذلك ان تعبيرها نابع من حركة العالم لا من صمت الباطن، ففي الأشياء تحت الضوء وفي الكائنات التي تطوحها رياح الانفعال، تتأسس خطابات التعبير الشعري ورسائله الداخلية والخارجية. ولا بد من ملاحظة تيمتين رئيسيتين يتمحور حولهما شعر أمل جراح: الحب والموت، وفي تفاصيلهما تقع موضوعات ومشاهد لا تحصى. عاشت وقالت ولم تندم على جماليات هي والبراءة صنوان: "لست نادمة / إذ يبحر شراعي بعيداً / متأبطة أوراقي في ظلمة الليل / متكئة على عمر كشمعة تذوب. / كل ما قد أتركه سيندثر مع الريح / ولن تبكي من ورائي شجرة ولا طير. / ليأت المغيب متى شاء / لتقرع الأجراس بين البيوت القديمة / ليقرأ الشعراء قصائدهم / لينكسر على روحي البيضاء / لحن الشجن الظمآن... / كم الساعة الآن؟ / اللون أبيض / زلت قدمي / اللون أحمر / عصفور على شجرة التفاح / ويتأملني / صمت. / أسمع ورقة سقطت. / ترنحت وهي تلامس العشب / ونامت". رأيت ياسين رفاعية في مقهى بيروتي بصحبة شابين وفتاتين من الأقرباء، غادر المقهى معهم لفترة ثم عاد وحيداً الى الطاولة. وحدته مختلفة هذه المرة. قال ان المنتدى الاجتماعي في دمشق أقام لقاء حاشداً لتذكّر أمل جراح. تكلم أصدقاء وبعثت غادة السمان بالكلمة الآتية: "مع امرأة متعددة مثل أمل جراح يحار المرء أيهن يرثي؟ مع امرأة غزيرة وكثيرة مثل أمل لا يدري المرء بمن يبدأ... أربعة عقود ونيف وهي تتحدى الموت وتستمر راكضة بقلب معطوب، منذ صباها قيل لها ستموتين، بقلب مثل قلبك ستنهارين، أجابت بلا صوت: كلكم مثلي. كلكم ميت مؤجل، وسأستمر ما وسعني الى ذلك سبيل. واستمرت أمل وهي تشاكس الموت بشجاعة وتراوغه وتداوره، ومثل شهرزاد تقرأ عليه حكاياها وقصائدها كي يدعها وشأنها ولا يقص سيّافه رأسها. ثمة شيء لفتني في أمل جراح التي جعلت من حياتها فعل مقاومة يومية للموت، انه ارادة الصمود والقدرة على مواجهة ما يرعب البشر جميعاً: الموت والفناء. وأعتقد ان الصديق ياسين رفاعية دفن أمل في قلبه، فالقلب الحي هو قبر الحبيب الميت". أتكون استغراقاً في الرومانسية شهادة غادة السمان؟ لكن الكاتبة الكبيرة تعرف جيداً العلاقة بين المرأة والوردة في البيت الدمشقي، وتعرف ان أمل جراح حملت هذه العلاقة الى بيروت ولندن، وعبر عذاب المرض ونبضات الابداع حتى الذبول، أو لنقل حتى "الاقتراب من الضياء".