العام 2003 يقف علامة وحده بحيث لا يحتاج الى وصف أو تعريف وستتذكره الأجيال المقبلة بذاته لأنه دلالة تشهد لنفسها ولا تحتاج الى حال أو وصف ولا تستلزم أن تكون كلمة في جملة اسمية كانت أو خبرية. فهو العام الذي شهد سقوط بغداد واحتلال القوات الأميركية للعراق. وكان هذا الحدث كافياً بذاته لتعريف العام 2003 ليس بالنسبة إلينا نحن العرب وحدنا بل بالنسبة إلى أميركا وللعالم كله. ولنرصد لماذا كان سقوط بغداد حدثاً فارقاً وكافياً بامتلاء ليشغل عاماً بأكمله. فعلى كثرة أحداث العام لا يكاد موضوع أو قضية تقف الى جنب أو بعد أو قبل هذا الحدث وكأن إناء العام كله فاض بهذا الحدث وحده. ويكفي أن هذا العام شهد انبثاق ثورة مدنية عالمية ضد الغزو الأميركي للعراق. ففي الخامس عشر من شباط فبراير من هذا العام شهدت ستة آلاف مدينة في نحو سبعين دولة يعيش فيها نحو ثلثا البشر مسيرات وتظاهرات احتجاجية وكأن الكون اتحد فى قضية واحدة وصار كتلة مشاعر متحدة وصيرورة وعي ونهوض عارم متلازمة ومتعانقة. وإذا قدر للمجتمع المدني العالمي أن ينمو ويتطور ليصير أحد أهم مستويات ما يسميه الليبراليون بالقرية الكونية فسيكون الخامس عشر من شباط عيد ميلاده. وكانت الشهور التسعة السابقة على هذا اليوم شهدت الحمل العظيم إذ تدفقت المسيرات في الولاياتالمتحدة وأميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا بل وشرق أسيا وأستراليا وهما منطقتان لم تتحركا من قبل من أجل أية قضية عالمية على النحو الذى تدفق في ميادين كل مدنها الكبرى ربما باستثناء الصين. ولو أن هذه الأخيرة شاركت لكانت البشرية كلها قامت قومة رجل واحد ضد هذا الرجل الواحد: أي الرئيس الأميركي جورج بوش أو حفنة الرجال والنساء الذين خططوا وأشعلوا تلك الحرب الجنونية معه. وبذلك تكون الولاياتالمتحدة أو القوة العظمى الوحيدة التي تهيمن على النظام الدولي الرسمي خسرت تلك الحرب أخلاقياً وسياسياً حتى قبل أن تبدأ. ولا يمكن التقليل من أهمية هذه الواقعة في التاريخ العالمي لأنها تعد حدثاً فريداً لا يضاهيه أو يشبهه حدث آخر منذ فجر التاريخ المكتوب. وفعلاً انتصرت الولاياتالمتحدة عسكرياً ولكنها سريعاً أدركت أن خسارتها تحسب بميزان العقل والأخلاق والسياسة أضعاف ما كسبته سياسياً. فالاستطلاعات التي مسحت الرأي العام في عشرات من دول العالم والتي أجرتها المؤسسات البحثية الأميركية ذاتها مثل "غالوب" و"زغبي" و"البي اي دبليو" أكدت ما كانت المسيرات الشعبية أظهرته فعلاً وهو أن مقبولية الولاياتالمتحدة في العالم كله هبطت بصورة مفزعة للأميركيين في جميع مناطق العالم بخاصة فى الوطن العربي. وحتى في أكثر المناطق قرباً لها وهي أوروبا التي تحسب معها باعتبارهما معاً العالم الغربي أو "الغرب" الثقافي لم تهبط مقبولية الولاياتالمتحدة فقط بل ويحسبها أكثر من نصف الأوروبيين التهديد الأول للعالم. وإذا أضفنا أن نحو 60 في المئة من الأوروبيين، وفقاً لاستطلاع المعهد التابع للمفوضية الأوروبية، يعدون إسرائيل التهديد الأول في العالم لأدركنا أن خسارة أميركا للرأي العام الأوروبي والعالمي تعد فادحة بأي مقياس. ولربما نستطيع أن نعبر عن الحقيقة نفسها بلغة الأيديولوجيات السياسية فنقول إن الأصولية المسيحية والصهيونية السياسية وهما الأيديولوجيتان الأكثر مسؤولية عن الحروب التي تقع في منطقتنا بما فيها الحرب ضد العراق صارتا - من وجهة النظر الشعبية الأوروبية - الأكثر تهديداً للسلام العالمي. وهو ما يتفق تماماً مع الرؤية العربية للوحة التهديدات والمخاطر التي تدهم منطقتنا وقريتنا الكونية عموماً. وشهد العام 2003 كذلك انهيار الآمال التي عقدتها الإدارة الأميركية والقوى الصهيونية واليمينية المتطرفة على احتلال العراق. وبدلاً من أن يصير العراق كما وعدت الإدارة الأميركية "جنة الديموقراطية" الأميركية ومركزاً لإشعاعها في المنطقة أصبح كابوساً حقيقياً. وحتى قبل أن ينتهي العام تقر غالبية الأميركيين أن الأمل في استعادة الأمن والسلام في العراق في ظل الاحتلال الأميركي وحتى بعد أن خصصت له الإدارة 5،87 بليون دولار تبخر وأن التدابير كافة التى أتخذت لقمع وانهاء العنف ضد نظام الاحتلال فشلت. وحتى الآن لم يتوج هذا الفشل من خلال مبادئ المحاسبية الديموقراطية بمساءلة الرئيس بوش وإدارته على جملة الأكاذيب التي فضحها الاحتلال ذاته. فلم يجد الأميركيون أسلحة الدمار الشامل التي برروا بها الحرب. ولم يستقبل الشعب العراقي المحتلين بالأحضان ولا سجل الاحتلال أدنى درجات الإعجاب والثقة بالأميركيين. وبدلاً من إثبات العلاقة المزعومة بين نظام صدام حسين وتنظيم "القاعدة" ثمة علامات قوية للغاية بأن الاحتلال هو الذي جاء بهذا التنظيم لكي يستنزف الأميركيين فى العراق. ولو أجبرت الولاياتالمتحدة على الانسحاب المبكر من العراق وهو أحد السيناريوهات المحتملة بقوة، ستكون اعترفت بهزيمتها أمام "الإرهاب الدولي" ومزقت العراق ارباً وربما دفعته الى حرب أهلية وأوقعوا به دماراً لم يحدث لدولة أخرى مماثلة فى التاريخ الحديث سوى فيتنام. ومن المرجح أن يشكل هذا الفشل محنة حقيقية للمجتمع الأميركي قد لا تقل فداحة عن محنة فيتنام بل وقد تزيد لأن ما سيكون قد وقع ليس مجرد انكشاف عدم عدالة تلك الحرب العقيمة والمكلفة بل ستفضح أيضاً بؤس الفكر السياسي الأميركي الرسمي والحاكم والذي اقره الكونغرس الأميركي بحزبيه الكبيرين وستتحطم أيضا سياسة "الحرب ضد الإرهاب" التي نالت مشروعية داخلية كبيرة بسبب أحداث 11 أيلول سبتمبر. لكن كل ما وقع في العراق لم يكن محنة للأميركيين وحدهم بل وكان ولا يزال محنة أشد للعرب. والواقع أنها محنة رسمية ومجتمعية معاً، أو لنقل محنة حضارية بامتياز. فالحرب الأميركية ضد العراق ذكرت العالم بالطبيعة الدموية بالغة القسوة للنظام العراقي والذي لا يفوقه في القسوة غير نظام بول بوت في كمبوديا. وهو في الوقت نفسه النظام المسؤول عن الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988 وعن غزو الكويت العام 1990. وهو لم يكن نظاماً شمولياً ومدمراً للمجتمع فحسب، بل إنه نظام ملك رئيسه العراق وما فيها وعليها. ثم أن هذه الحرب ذكرت العالم أيضا بما سمي في الأدبيات الديموقراطية ب"الاستثناء العربي": أي فشل الحركة العالمية نحو الديموقراطية فى مجرد تحريك الركود السياسي القاتل في المنطقة العربية. فغالبية النظم العربية هي نظم قمعية باطشة حتى لو كانت أقل توحشاً من النظام العراقي. وقد حكمها رؤساء أو ملوك وأمراء استمر بعضهم لفترة تربو على عقدين ولا يبدو أنهم في سبيلهم الى ترك مواقعهم لأي سبب غير الوفاة على رغم أدائهم البائس في الحكم. ولا يشكل الاستبداد أو أي عذر آخر مبرراً للغزو الأميركي للعراق. ويشكل هذا الغزو جريمة قانونية دولية هي جريمة العدوان واحتلال أراضي الغير بالقوة. ولكن الاستبداد بذاته كان سبباً وراء السهولة الواضحة في التصدي للعدوان من جانب النظام العربي أو من جانب النظام العراقي ذاته. ويهمنا الإشارة الى هذه القضية بوضوح لأنها تمثل أحد أهم الالتباسات في العقل السياسي العربي. فعلى المستوى الداخلي أنهك الاستبداد المجتمعات العربية وأتلف نسيجها الحي وأجبر قطاعات وأقساماً كبيرة منها - كما حدث في العراق ذاته - على التنكر لقيمة الاستقلال الوطني التي دفعت أجيال عدة من العرب ضريبة باهظة في النضال من أجلها. إذ لا تقارن جرائم الحكومات المستقلة ضد شعوبها حتى بما فعله الاستعمار الأوروبي والعثماني بها. فلم يحدث أبداً في التاريخ العربي الحديث أن تمكنت ثقافة الخوف من نفوس الشعوب العربية كما تمكنت منه في ظل نظم الحكم هذه. ولم يحدث أبداً أن أخليت هذه المجتمعات من حيويتها السياسية ومن قدرتها أو حتى رغبتها في المشاركة مثلما وقع في ظل أنظمة الحكم تلك. ولم يحدث أن أتلف النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي لتلك المجتمعات مثلما حدث بسبب القمع الوحشي الذي مارسته تلك الأنظمة. وتكشف أحداث النهب المعمم التي طاولت كل شيء في العراق حتى المتاحف والجامعات والمساجد والآثار التاريخية في ما بعد سقوط بغداد عن تلك الحقيقة. وكأن هذا المشهد المريع لخص النتائج المروعة لعقود من الحكم الشمولي العنيف والاعتباطي. وهنا يكمن السر في التوازن الركودي الممتد الذي يفسر الأوجه المتعددة للفشل والمحنة التي تعيشها المجتمعات العربية اليوم. فنظم الحكم الشمولية القاسية ضمنت استمراريتها لأنها جردت المجتمعات العربية لا من أسلحتها النضالية مثل النقابة والجمعية الأهلية والحزب السياسي والمنتدى الفكري والصحافة المستقلة فحسب، بل وأهم من ذلك من شعورها بالمواطنة ومن ثم من دافعيتها الوطنية وقدرتها على المقاومة. ومن ناحية أخرى فغالبية تلك النظم نجحت بالقمع والرشوة في توظيف الهياكل الأهلية العضوية والتاريخية لمصلحة استمرارها. وفي ظل الافتقار الى أدوات النضال الاعتيادية الحديثة اندفعت الأجيال الشابة الغاضبة لتبني أيديولوجيا الإسلام السياسي بما في ذلك الاتجاهات التي جعلت العنف بذاته نبراسها. وساهم ذلك بدوره في دفع المجتمعات الى مزيد من التآكل والركود بل والتراجع والردة. كما أن أيديولوجيا العنف السياسي ذات الأفاق القومية أتلفت أيضا علاقات العرب والمسلمين بغيرهم من أصحاب العقائد والثقافات الأخرى الكبرى في العالم وهو ما يهدد باحاطة الهلال السكاني الاسلامي العريض الذى يمتد من ساحل الأطلنطي الى حدود الصين بسياج من الحصار الثقافي. بل وقد يتحول هذا التطويق الثقافي الى "احتواء سياسي وعسكري" في أية لحظة لو استمر وتصاعد تيار العنف الأصولي في المجتمعات العربية والإسلامية. ويرتبط هذا بدوره بفشل مشروع النهضة كما طرح على العالم العربي والإسلامي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. فكما يظهر تقرير التنمية البشرية لعام 2002 وعشرات غيره من التقارير الإحصائية المقارنة ومئات من الأعمال الفكرية الجادة فان أداء منطقتنا من العالم في مؤشرات التقدم والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي كان الأسوأ على المستوى العالمي بعد أفريقيا جنوب الصحراء. بل إن تقرير العام 2003 أقر بأن أداء أفريقيا جنوب الصحراء صار خلال هذا العام أفضل مما تم في العالم العربي ربما للمرة الأولى منذ عقود على رغم الفارق الهائل لمصلحة المنطقة العربية في ما يتعلق بتدفق الموارد المالية. ودفعت تلك النتيجة عشرات من الباحثين والمفكرين العرب لمراجعة التفسيرات التاريخية والاجتماعية لهذا الفشل الممتد والبحث عن تفسير بديل في ثقافتنا ذاتها. فالفشل العربي امتد لأكثر من قرنين على رغم أن بعض التجارب العربية سبقت حتى اليابان بأكثر من نصف قرن في التحرك نحو الأخذ بالمعارف العلمية والتكنولوجية الحديثة وأساليب التنظيم الإداري والسياسي الحديث. وبينما تحقق لبعضها تقدم كبير في مجال التنظيم الاجتماعي الحديث بخاصة في ما يتعلق بقضايا ومكانة المرأة فان هذا التنظيم ما زال الأقل تطوراً والأكثر منعة على الإصلاح من مثيله في أي مكان آخر في العالم. ويقر بعض المفكرين الإسلاميين ذوي التوجه الإصلاحي بأن العرب والمسلمين يعاملون نساءهم بصورة تدعو الى الفزع. ومع ذلك فإن الأيديولوجيات الإسلامية السياسية خصوصاً العنفوي منها تنادي بمزيد من الردة في هذا المجال. وهذا هو ما يدعو عدداً من أبرز مفكرينا الى التفكير ملياً في مسؤولية الثقافة عن هذا الفشل الممتد والذي ظهر بصورة فضائحية عام 2003. ويعود البعض الى ما استنتجه مفكرون عرب منذ عقد الستينات من أن المسلمين لم يشهدوا مثل غيرهم حركة إصلاح ديني قوية. أما آخرون فيركزون على افتقاد الثقافة العربية - بحسب رأيهم - إلى احترام وتقدير مفهوم الحرية أو مفهوم المحاسبية أو للفصل بين المجال العام والخاص أو الى مفهوم ايجابي للاجتهاد والتجديد أو لثنائية التقشف - المشاريع كما وقع بالنسبة الى الثقافات البروتستانتية. ويركز آخرون على بعض جوانب الإرث الثقافي، مثل مفهوم المستبد العادل أو القدرية والاتكالية والنظرة المتشككة للجديد وغير المألوف ولأساليب النظر العقلي بالمقارنة بالعقلية البيانية أو للتعددية والأحزاب السياسية ومؤسسات المواطنة. والواقع أن السياسة التسلطية والشمولية لم تكن وليست حكراً على ثقافة ما دون غيرها، وأن في تضاعيف كل الثقافات الكبرى في العالم - بما فيها ثقافتنا العربية الإسلامية - ميول ونزعات قوية ومواتية تماماً للتحرر الديموقراطي. وأن تدهور الثقافة في ما يتعلق بتلك الجوانب والميول يعود الى تفضيل الطبقات الحاكمة للاستبداد وفشلها في إنجاز الانطلاق الاقتصادي، حتى أن غالبية المجتمعات العربية لم تشهد ولو بوادر الثورة الصناعية الأولى. وأدى تكريس النظم تلك للنزعة اللاعقلية وأساليب الإدارة الفردية والتعسفية وتسامحها وتشجعيها للفساد عكست نفسها لا في أداء هذه النظم على المستوى الداخلي فحسب بل وفي أدائها على مستوى النظام العربي ككل. لقد كان أبرز دروس سقوط بغداد هو فشل النظم العربية مجتمعة في قطع الطريق على قيام الولاياتالمتحدة بغزو العراق في سياق عام جعلها هي ذاتها مستهدفة أميركياً على رغم الخدمات الاستراتيجية المجانية التي أدتها للإمبريالية الأميركية على نحو لا ينقطع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى بعضها. وهنا يسطع التناقض المخجل بين العنف اللابطولي الذي تمارسه نظم الحكم العربية ضد شعوبها من ناحية وفشلها المخزي في إظهار أي قدر من الشجاعة في الدفاع عن نفسها هي - ولا نتحدث هنا عن الأوطان- ضد الهجوم الأميركي المتصاعد عليها منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر. ولكن التناقض يظهر في صورة أكثر إيلاماً إذا ما أضفنا حقيقة أن شعوب العالم أجمع كانت راغبة وقادرة على الاحتجاج ضد مشروع الغزو الأميركي للعراق بأكثر من الشعوب العربية ذاتها. ولا يفوتنا هنا التأكيد من جديد على أن تثبيت تلك النظم لامتيازاتها واحتكارها للحكم هوى الى الأرض بالثقافة وبالمجتمعات العربية على السواء والى الحد الذي لم تتمكن فيه هذه المجتمعات من مجرد الاحتجاج الرمزي ضد غزوها القوة ذاتها الذي احتجت ضده مجتمعات وشعوب أخرى. وتظهر هذه المفارقة نفسها ربما بقدر أقل من الأسى في حال إسناد النضال الفلسطيني. فبينما ذهب مئات وآلاف من المناضلين المدنيين للمساهمة بالنضال من أجل حماية الشعب الفلسطيني لم تتمكن الشعوب العربية من إبداع أشكال عملية لمؤازرة الانتفاضة فى معركتها الجبارة ضد نظام الاحتلال الاسرائيلي! لقد شهد العام 2003 الى جانب سقوط بغداد عاصمة الرشيد تثبيت وتصعيد الهجوم الشاروني المضاد في جميع مدن وقرى الضفة والقطاع. وعلى خلفية التدمير العاصف الذي أحدثته عملية إعادة غزو الأراضي المحتلة في نهاية آذار مارس من العام الماضي انقلبت من دون شك موازين القوى بين نظام الاحتلال الاسرائيلي والحركة الوطنية الانتفاضية الفلسطينية لمصلحة الأول. ولم تتمكن الدول العربية فرادى أو مجتمعة من القيام بأي عمل من شأنه منع الحكومة اليمينية الشارونية المتطرفة من الشعور بزهو الانتصار ومواصلة أعمال البطش والتدمير ضد هذا الشعب الأعزل. ولا شك أن لهذا الضعف المخزي علاقة وطيدة بالجهود المستميتة التي تبذلها النظم العربية المؤثرة في المنطقة للإبقاء على تحالفها مع الولاياتالمتحدة على رغم تعرضها للابتزاز والطعن. إن تأمل مسار النضال ضد نظام الاحتلال الإسرائيلي خلال سني الانتفاضة يقودنا أيضاً الى تحميل النظام الفلسطيني نفسه جانباً مهماً من المسؤولية. إذ فشل هذا التحالف البيروقراطي العسكري الحاكم في الوفاء بواجبه في القيادة السياسية الذكية للشعب وسد الفراغات التنظيمية الواضحة في نضاله المدني البطولي والعمل على تصحيح الخلل الشديد في نمط القيادة الميدانية للانتفاضة وتوحيد صفوف الشعب وضمان التناسق في الفعل النضالي الفصائلي الذي غلب في النهاية على النضال المدني. وتعود هذه الظواهر كلها الى العلل التاريخية نفسها التي عانت منها الحركة الوطنية الفلسطينية منذ العام 1967 مثل سيادة الذهنية البيروقراطية العسكرية واستملاح الأساليب الزبونية في اختيار القيادات السياسية والعسكرية وانتشار الفساد والدور المدمر للمال وللاحتكار السياسي والمالي والانفصام بين الأداء الاحترافي والنضال الشعبي ... الخ. وكانت أمام القيادة الفلسطينية فرصة تاريخية لاستكمال عملية بناء الأمة وتجاوز أمراض الحركة النضالية الاحترافية أثناء مرحلة تطبيق اتفاق أوسلو وعبر مفهوم ديموقراطي نهضوي ومستنير لبناء نظم السلطة الوطنية. وهي لم تأخذ بهذا الاختيار بل واصلت النمط البدائي نفسه للقيادة، بل وأضافت إليه البطش والتعسف السياسي الذي هدّ في كيانية المجتمع الفلسطيني. ومن الواضح أن هذه الأساليب تتناقض أشد التناقض مع الانبثاق المدهش للنضال الشعبي الفلسطيني منذ 1967 وأنها تعد امتداداً ثقافياً وسياسياً للنظام العربي العام الذي تسيطر عليه الأوليغاركية النفطية لا امتداداً متطوراً لهذا التدفق الكفاحي ذاته. ويظهر الصراع حول قضية "توحيد الأجهزة الأمنية" والإصرار على احتكار السيطرة على المال والأمن من جانب القيادة العليا خلال الربع الأخير من العام 2003 الأمراض نفسها التي هدت حيل المجتمعات العربية المستقلة سياسيا. ولعلنا لا ننهي هذه المعالجة للمحنة الشاملة التي انبسطت أمام ناظرينا خلال 2003 قبل أن نلفت النظر الى تناقض صارخ في أداء ومواقف المجتمعات العربية ذاتها. ففي العراق وفلسطين برزت فجوة مذهلة بين نشاطية، بل بطولية المقاومة التي أبدتها أقسام واسعة من الجماهير للعدوان الأجنبي من ناحية واستكانتها العجيبة أمام نظم الحكم القمعية والباطشة في الداخل. ويناقش العراقيون ما إذا كانت أعمال العنف الهائلة خلال الشهور الخمسة الماضية تعد ظاهرة مقاومة أم إرهاب مدفوع بعوامل مذهبية وطائفية وولائية. وبغض النظر عن الموقف من هذه المناظرة في العالم العربي خارج العراق فان ما نلفت النظر اليه هو ما يلي. أياً كان توصيف تلك الأعمال التي تهز استقرار نظام الاحتلال الأميركي هزاً عنيفاً فإنه لا يمكن تفسيرها بعوامل مصلحيه ضيقة. فإذا كانت تنطلق من مبادئ ما مثل مفهوم ما للوطنية والكرامة، فلماذا لم يظهر ولو جانب يسير منها في الحيز الجغرافي نفسه الذي تنشط فيه الآن لتحريك النضال الديموقراطي ضد النظام الشمولي لصدام حسين أو على الأقل لوقف أسوأ جوانب هذا البطش؟ والسؤال نفسه يمكن طرحه مع الفارق في الحالة الفلسطينية. فلو أن جانباً يسيراً من الاستعداد للتضحية والنضال المنظم الذي انبثق ضد الاحتلال الاسرائيلي أثناء الانتفاضة الأولى والثانية كرس في الوقت الملائم لتصحيح الانحرافات التسلطية للسلطة العسكرية البيروقراطية الفلسطينية أثناء مرحلة أوسلو لما كان الوضع الفلسطيني ساء على النحو الذي وقع فعلاً ولما تمكن تحالف شارون- بوش من إسكات المعارضة العالمية للبطش الاستعماري في الأرض المحتلة. ان السؤال الذي نطرحه هو في الواقع هكذا: لماذا لا يلفت البطش الداخلي نظر الجماهير العربية ولو بنسبة صغيرة مما يلفته البطش والقهر الخارجي حتى لو كان الأخير أقل فداحة من حيث ضحاياه من الأول؟ إننا نطرح هذا السؤال لأن هذا النضال الشعبي لو كان برز وتدفق فى أي وقت من أجل تصحيح ممارسات ومفاهيم وأساليب الحكم في البلاد العربية لما كان بعضها على الأقل وقع ضحية الاستعمار ولما كانت كلها تعيش وضعاً لا تحسد عليه بعد الاستعمار أو الاستقلال. هناك بالطبع إجابات متنوعة وقد تكون متناقضة. ومن الممكن قبول التفسير الذي يقول إن العرب ما زالوا يعيشون في عصر الوطنية ولم يدخلوا بعد عصر النضال المدني الديموقراطي. وقد يكون هذا هو المفتاح المرجو لحل عقدة الركود التاريخي الممتد للمجتمعات العربية. أظن أن مسؤولية المثقف العربي الآن هي تنبيه مجتمعه الى أن الوطنية الحق لا تزدهر أو حتى تعيش من دون ديموقراطية وأن الحرية لا تزدهر أو تعيش من دون استعادة النهضة. إن النضال الحقيقي من أجل الاستقلال والعدالة الدولية صار مرهوناً بحركة قوية لبناء النهضة على قاعدة الحرية التي لا تتجزأ والديموقراطية التي تسخر لمصلحة الشعوب. * كاتب مصري. نائب مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية.