ليست الأمور في السياسة دائماً كما تبدو في الظاهر. فقبل زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للندن هذا الأسبوع اعتقد الكثيرون بأن مُضيفه رئيس الوزراء توني بلير سيسعى إلى تجنيده في الحرب المقبلة ضد العراق. ألم تكن سورية من ألد أعداء العراق خلال عقود عدة؟ أولم تنضم عام 1990 إلى التحالف الدولي ضد العراق؟ أوليس في الإمكان أن تفعل ذلك ثانية؟ لكن الواقع كان على ما يبدو خلاف ذلك تماماً. فتوني بلير بحاجة إلى سورية لا من أجل شن حرب ضد صدام حسين، بل على العكس، من أجل تأجيل الحرب إذا أمكن أو للحيلولة دونها نهائياً. ذلك أن توني بلير يواجه مأزقاً صعباً. فهو من ناحيته يعتبر أن من مصلحة بلاده أن يُنظر إليها كحليف ذي ولاء شديد لأميركا، كما كان عليه الوضع منذ الحرب العالمية الثانية. ولقد عانى بلير الكثير من المتاعب في سعيه للحفاظ على صداقة جورج بوش، إلى حد أن قطاعات واسعة من الرأي العام البريطاني والعالمي صارت تصفه بأنه "كلب بوش". فهو كرر تهديداته لصدام في وقت أخذت الصحافة البريطانية تُفرد صفحاتها للحديث عن استعداد القوات لخوض الحرب. ولكن يبدو واضحاً، من ناحية أخرى، سواء بالنسبة للحكومة أو للرأي العام، أن لا مصلحة لبريطانيا في محاربة العراق. بل على العكس تماماً: فإذا ما انضمت إلى الولاياتالمتحدة في حرب غير مبررة ضد العراق، فقد تصبح هدفاً لهجمات إرهابية. وقد تؤدي الحرب إلى الحاق الأذى بالعلاقات السياسية والاقتصادية مع العالم العربي. كذلك، قد توجه صفعة قوية لمصداقية بريطانيا في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا والمانيا، اللتين تعارضان عملاً عسكرياً ضد بغداد. وهي أيضاً قد تتسبب في انقسام صفوف حزب العمال وتشكل خطراً على مستقبل بلير السياسي. وهي أخيراً قد تسفر، لا محالة، عن وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين فضلاً عن الدمار الكبير. ذلك إذاً هو المأزق الذي يواجهه بلير: كيف يبقى على صلة وثيقة مع أميركا ويتجنب محاذير الحرب الخطيرة في الوقت ذاته؟ في هذه الظروف جاءت زيارة الأسد. في تقدير الانكليز أن الدكتور بشار، بعد مضي سنتين ونصف السنة على تسلمه الحكم، رجل واقعي ومعتدل وحذر تزداد سلطته قوة باضطراد… وهو فعلاً عازم على الاصلاح والتحديث من دون أن يجازف في التسرع ويواجه محاذيره. وقد أثبت الدكتور بشار صحة هذا التقرير خلال زيارته الناجحة جداً لبريطانيا هذا الأسبوع. ولقد كتب بلير نفسه مقالاً نشرته "الفايننشيال تايمز" يوم الثلثاء وصف فيه سورية بأنها دولة رائدة في الشرق الأوسط، لها دور أساسي في أي عمل سلمي شامل مع إسرائيل، وهي فوق ذلك عضو في مجلس الأمن. ومن المهم بالنسبة لبلير أن يكون في وسعه أن يقول لبوش إنه على رغم السمعة الراديكالية التي تتمتع بها سورية، فإن بشار رجل معتدل يريد إقامة سلام مع إسرائيل، وهو يمثل الاتجاه السائد في الرأي العام العربي ويعارض تماماً الحرب على العراق. توني بلير في الواقع يحتاج إذاً، الى بشار، كي يبعده عن شفير الحرب. ولكن الحقيقة أن بلير في حرصه على ارضاء بوش وارضاء اللوبي الإسرائيلي القوي في بريطانيا، ذهب بعيداً في الطريق إلى الحرب. وهو الآن بحاجة الى التراجع من دون أن يخسر أميركا ومن دون أن يكف، في الوقت نفسه، عن مطالبة صدام بنزع سلاحه. ولقد ترك الدكتور بشار الأسد وزجته أسماء الأخرس انطباعاً في بريطانيا لم يكن بوسع أحد أن يتوقعه. فلقد كانا ساحرين ومتواضعين ودافئين، إضافة إلى مسحة من عدم التكلف يقدّرها الانكليز تماماً. كانت الابتسامة لا تفارق ثغريهما طيلة أيام الزيارة الثلاثة. وقد استقبلتهما الملكة مدة 50 دقيقة، كما استقبلهما الأمير تشارلز ل45 دقيقة. ووعد الأخير الرئيس بشار بأن يلبي دعوته لزيارة دمشق في أقرب فرصة. كذلك اجتمع بشار بعدد من أعضاء البرلمان ورجال الأعمال ورؤساء التحرير والسفراء وعدد كبير من المثقفين والشخصيات النافذة… ووجد مع ذلك كله الوقت ليقوم بزيارة الأساتذة والزملاء في المستشفى الذي كان يتخصص فيه بطب العيون، وبذلك أقام وزوجته علاقات صداقة مع العديد من البريطانيين. ويبدو أن الدكتور بشار كان يدرك أنه كلما بدا عقلانياً ومعتدلاً، ازداد نفوذه وازدادت حاجة توني بلير إليه في سعيه الى هزيمة الصقور في واشنطن. أجل، ان الولاياتالمتحدة قادرة على التغلب على العراق عسكرياً. فهناك قوات ضخمة جرى حشدها في المنطقة، بما في ذلك أربع ناقلات جنود قادرة على توجيه 700 ضربة للأهداف العراقية يومياً… أما على الصعيد السياسي، فأميركا بحاجة إلى حلفاء. فتفردها في الحرب قد يكون باهظ الثمن بالنسبة إلى مركزها في العالم. ولذا فإن بريطانيا، الحليف الغربي الأول، تتمتع بنوع من الفيتو على العمل العسكري الذي تقترحه أميركا. فإذا ما رفضت بريطانيا المشاركة في الحرب، قد يضطر بوش إلى التراجع. ترى هل بإمكان بلير استخدام حقّه في الفيتو؟ يمكنه ذلك شريطة أن يبين بوضوح أن ثمن تأييده أميركا قد يكون باهظاً جداً، بل قد يكلّفه ضياع مركزه. ولعل أبلغ بيان قدمه الأسد عن سياسة سورية هو ذلك الذي أدلى به في مناقشات المائدة المستديرة أمام جمع من المفكرين في المعهد الملكي للعلاقات الدولية، حيث تحدث ارتجالاً وبثقة تامة لساعة ونصف الساعة. حول الحرب ضد العراق قال بشار بأن لسورية سجلاً حافلاً بالمشاكل مع العراق… فهذا الأخير حشد قواته على حدودها في 1975. وفي 1976 تعرضت سورية لهجمات إرهابية يدعمها العراق. وفي الحرب العراقية - الإيرانية وقفت سورية إلى جانب إيران، وفي 1990 انضمت إلى التحالف الدولي ضد العراق. وأضاف أن الوضع تغير تماماً اليوم. فالعراق لا يشكل حالياً أي تهديد لجيرانه. فالولاياتالمتحدة تعلن عزمها على محاربة العراق، غير أن مزاعمها بأن هدفها نزع أسلحة الدمار الشامل غير مقنعة، بل ان هنالك اقتناعاً سائداً بأن الهدف الحقيقي لأميركا هو السيطرة على النفط. وتابع الدكتور بشار قائلاً: "إن الحرب على العراق سيكون لها تأثير كبير على اقتصادنا… بل إنها ستوسع الفجوة بين العرب والغرب وتعيدنا عشرات السنين إلى الوراء وتؤدي في الوقت نفسه إلى تنشيط الإرهاب". وفي حديثه عن تصويت سورية على قرار مجلس الأمن رقم 1441، قال الدكتور بشار: "نحن كسياسيين لا بد لنا من التعامل مع الواقع لا مع الشعارات. فلقد كنا أمام احتمالين: إما حرب فورية أو حرب مؤجلة. لم يكن لدينا خيار ثالث يقضي باستبعاد الحرب كلياً. ولذا، وبالتعاون مع فرنسا وروسيا والصين وغيرها من الدول، وجدنا أن التأجيل هو الخيار الأفضل الذي قد يؤدي إلى تجنب الحرب نهائياً". وأضاف: "ولم نكن واثقين بداية بأن العراق سيتعاون مع المفتشين. وفي مشاوراتنا مع بغداد ضغطنا باتجاه قبول المفتشين، وفشلت محاولتنا في المرة الأولى. ولكن حين نجحنا في مساعينا، أخذت أميركا من جانبها تعرقل المساعي وتعارض عودة المفتشين. وأنا متفائل بأن العراق سيبقى على تعاون معهم، غير اني غير متفائل بموقف أميركا ورد فعلها. فهناك ضغوط محلية محمومة على السياسة الأميركية". دور بريطانيا وانتخابات اسرائيل وأردف الرئيس بشار قائلاً: "لقد سمع العرب التهديدات البريطانية ضد العراق، لكنهم لاحظوا أن الناس عبرت عن معارضتها للحرب سواء في البرلمان أو في الصحافة. وفي ودي شخصياً الاشارة إلى بعض الأمور الايجابية. فلقد قامت بريطانيا بدور فعال في اقناع أميركا بالعودة إلى مجلس الأمن. اما إذا قامت الحرب وانضمت بريطانيا إلى أميركا قبل أن يتاح للمفتشين إكمال مهمتهم، فسأقول عندئذ ان دور بريطانيا سلبي. فبإمكانها أن تقوم بدور ايجابي ضد المتطرفين في الإدارة الأميركية وتدعم العقلاء أمثال وزير الخارجية كولن باول. وعليه فإن من الصعب أن نتنبأ بما سيكون عليه دور بريطانيا في النهاية". وتابع الدكتور بشار الأسد: "لديّ رسالة للإسرائيليين، اننا نريد السلام، وعلى الإسرائيليين أن يختاروا بين مرشح يريد إقامة السلام وآخر يريد شن الحرب. الناس هناك يحاولون تبرير كل ما يحدث في إسرائيل بحجة الخوف. لكن ذلك مرفوض. فالإسرائيليون ليسوا أطفالاً ولا بد لهم أن يقرروا في أي اتجاه يسيرون. إننا نريد حل المشكلة. فهناك ضحايا تسقط كل يوم. وأساس السلام معروف تماماً: تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة... القرارات التي تؤدي إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وازالة المستوطنات، عندها يتوقف القتل. إذ لا بد من الخروج من الحلقة المفرغة للهجمات الفلسطينية والضربات الانتقامية التي تؤدي بدورها إلى هجمات أقسى وحملات انتقامية أوسع. هنالك شكوك عميقة في النيّات الأميركية في العالم العربي. فلئن كان الهدف واضحاً، وهو السلام، فإن محاولة الوصول إليه معدومة. فالولاياتالمتحدة تنتقل من مبادرة فاشلة إلى أخرى...". وختم الرئيس بشار كلمته بقوله: "إن مشروع السلام العربي واضح، فهو يعرض على إسرائيل السلام والعلاقات الطبيعية شريطة انسحابها إلى حدود 1967… هذا المشروع ما يزال على الطاولة". * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.