انها عملية لا تحتاج الى تكنولوجيا أو اراقة دماء، لكنها جريمة تحرم الانسانية من جذور وجودها. في سكون الليل، يسطو لصوص المقابر بانتظام على كنوز أثرية في جنوبالعراق لم يكتشفها أحد منذ آلاف السنين. وعلى ضوء مشاعل الكيروسين وبالمعاول تنقب عصابات مسلحة في الرمال المتحركة على أطراف سهل الفرات جنوب بابل، وتسرق تحفاً مدفونة مع آثار سومرية منذ 5 آلاف سنة. وقبل أن يحدد أثريون مواقع التنقيب في سهل النهر، يكون لصوص عاثوا فساداً في قصور ومعابد ومقابر قديمة، تحمل مفاتيح حضارات تضرب في عمق التاريخ. ولما كان الاثريون لا يعرفون تحديداً ماذا هناك فان أحداً قد لا يعرف اطلاقاً ماذا فقد، ما يعني ان اللصوص يسرقون التاريخ... حتى قبل اكتشافه! عبد الامير حمداني مدير الآثار في محافظة ذي قار قال وهو يتفقد سرقات حديثة في مستوطنة دوبروم السومرية قرب قرية ضاهر: "انها جريمة ضد الانسانية". وزاد وهو يمسك ببقايا اناء من الفخار يرجع الى عام 1800 قبل الميلاد تقريباً، تركها اللصوص لاعتقادهم بأن لا قيمة لها: "نفقد تراثنا وقطعاً من حضارتنا". بدأت عمليات النهب قبل أكثر من عشر سنين، لكنها تفاقمت اثناء القلاقل والحرب التي أطاحت نظام صدام حسين العام الماضي. وباتت تلك العمليات الآن أكثر تنظيماً ومهارة. ويشير محققون الى سلسلة تبدأ بأوامر تصدر الى اللصوص لنهب مواقع معينة وتسلم التحف الى تجار يهربونها الى أصحاب مجموعات في الشرق الاوسط وآسيا واوروبا والولاياتالمتحدة. وأكثر التحف طلباً ألواح الكتابة المسمارية وأخرى من الصلصال تحتوي على اصل الكتابة وأختام رسمية وتماثيل صغيرة وحلي برونزية. وقال حمداني ان اللصوص، هم عادة فقراء من الريف، يعرفون مواقع الآثار ويحصلون على النزر اليسير من قيمة هذه التحف، بحيث لا يزيد ما يتقاضونه عن اللوح الواحد على 13 دولاراً. وأضاف وهو يهز رأسه آسفاً: "سيباع الواحد بآلاف الدولارات، لكنها لا تقدر بمال". في العام الذي انقضى منذ الحرب على العراق، تركز الاهتمام على محاربة تمرد مناهضين لاحتلال بلادهم، وعلى اقرار الامن، لكن الاهتمام بدأ يتركز تدريجاً على وقف نهب الآثار. وأرسلت ايطاليا اقرب حلفاء الولاياتالمتحدة في العراق، والتي لها تاريخ في محاربة الجريمة المنظمة، وحدات أمنية للحفاظ على مواقع الكنوز العراقية القديمة وحمايتها من اللصوص. لكن حماية كل المواقع الأثرية مهمة صعبة على بضع مئات من الجنود الايطاليين. انهم يركزون على حماية أكثر المواقع أهمية، ويحاولون تنظيم دوريات في أكبر عدد منها. لكنها لعبة القط والفأر، إذ يعرف اللصوص تكتيكات الايطاليين، وأحياناً يتلقون تحذيرات بأنهم آتون بخاصة ان اكتشافهم ليس صعباً بمركباتهم المدرعة في الصحراء. وباستخدام طائرات هليكوبتر، وشن غارات مباغتة، استطاع الايطاليون اعتقال لصوص وهم يسرقون. وغالباً ينشط هؤلاء ليلاً، ويسطون على مواقع خارج المناطق المحددة للوحدات الايطالية. ومنذ بدأت هذه الوحدات عملها قبل ثمانية شهور، ضبط 47 لصاً فقط، لكنها تمكنت من انقاذ آثار ثمينة. وأكد حمداني ان هناك "أكثر من 700 موقع، حوالى مليون لص محتمل، ومهما كانت جهودنا ليست كافية". قبل سنة، اثر سقوط صدام بقليل، ركز مختصون بالآثار اهتمامهم على متحف بغداد الوطني الذي سرق منه اللصوص مئات من تحف قديمة لا تقدر بثمن، منها تماثيل قديمة ونقوش بارزة وحلي أكادية وأختام سومرية اسطوانية. وأكثر التحف قيمة مثل كنوز نمرود الاسطورية استعيدت أو وجدت مكدسة في خزائن البنك المركزي العراقي. ولأن معظم الآثار مسجل، أمكن استعادتها من الخارج. وستنظر محاكم في الولاياتالمتحدة وسويسرا في دعاوى قضائية لاستعادة كنوز عراقية هربت الى الخارج. لكن هذا بالنسبة الى تحف معروفة، فماذا عن قطع لا يعرف أحد بوجودها؟ انها خسارة لا تقدر بثمن، ويصعب ان يتحملها مؤرخون أو علماء آثار. ماريو بونديولي أوسيو كبير المستشارين في وزارة الثقافة العراقية الرئيس السابق للجنة الايطالية لاستعادة الفنون المسروقة اعتبر ان "فقدان هذه الأشياء يعني فقدان مصدر هويتنا. انه مثل فقدان أم الحضارة". ويشعر بونديولي أوسيو بالاحباط لأن قوات الغزو بقيادة اميركا لا تولي اهتماماً لهذه المشكلة، وتركز على قتال ثورة عمرها سنة.