بعد مرور سنة على الحرب الاميركية على العراق تتكشف في صورة متسارعة اسرار المؤامرة الاميركية لغزو العراق واحتلاله تمهيداً للهيمنة على المنطقة وإعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة لها وفق ما اعلن رسمياً وما جاء في كتاب وليام كريستول ولورانس كابلان وهما من ابرز المحافظين الجدد من "ان قرار الحرب على العراق مهم جداً لأنه يتجاوز العراق ومستقبل الشرق الاوسط والحرب على الارهاب ويتناول الدور الذي تنوي الولاياتالمتحدة لعبه في العالم في القرن الحادي والعشرين". عندما سيؤرخ لهذه الحرب لن يكون في الإمكان تجاهل دور وسائل الاعلام الاميركية، اذ باتت الصورة والأخبار التي تنقلها وسائل الاعلام هذه جزءاً من استراتيجية الحرب الاميركية التي تعمل على بلورة رأي عام اميركي دام للحرب ورأي عالمي مؤيد لهذه الحرب، لأن الاعلام في الولاياتالمتحدة يصنع الرأي العام وليس الرأي العام الذي يختار إعلامه. وفي هذا السياق كُشف دور وسائل الاعلام الاميركية في التحضير للحرب على العراق وتغطية وقائعها وتسويق عمليات التضليل وتلفيق الادلة. اذ لم يلعب الاعلام في تاريخ الحروب الماضية دوراً مهماً كالذي لعبه ويلعبه اليوم، لم يسبق ان عاش العالم حدثاً مهماً من هذا النوع كما لم يحصل ان احتل البث المباشر هذه الاهمية التي توفر الصلة بالحدث مع توسع تكنولوجيا الاعلام والاتصالات الذي انتشر وامتد عبر العالم مستفيداً من التقدم الحاصل في تكنولوجيا الرقميات ومن التداخل بين جميع انشطة الاتصالات المترابطة. تطور الاعلام ووسائله بدرجة سريعة ادت الى الظهور المتزايد للفضائيات ولوسائل الاتصالات المتطورة واستخدام واسع للانترنت. ومن هذا المنطلق يمكن القاء الضوء على الدور الذي قامت به معظم وسائل الاعلام الاميركية التي شكلت جزءاً من الاستراتيجية التي وضعتها الادارة الاميركية بواسطة صقورها في خطة الحرب على العراق تحضيراً وغزواً واجتياحاً واحتلالاً. عملت الادارة الاميركية على وضع يدها على وسائل الاعلام الاميركية بتزويدها المعلومات والأخبار وإصدار الاوامر. وظهرت في وسائل الاعلام الاميركية مقالات وتعليقات وأخبار وبرامج معلبة مصدرها البيت الابيض ووزارة الدفاع والأجهزة. وقامت وسائل الاعلام الاميركية في شكل مبرمج ومنظم غير مسبوق بتكوين الرأي العام الاميركي والدولي المؤيد للحرب وذلك بتسويق المعلومات والادعاءات والحقائق المزورة التي كانت توزعها الادارة الاميركية حول خطر العراق الذي يهدد الولاياتالمتحدة والعالم بامتلاكه اسلحة الدمار الشامل وقدرته على انتاج هذا السلاح في غضون ايام او ساعات، وأيضاً باتهام النظام العراقي بالارهاب ودوره في احداث 11 ايلول سبتمبر وتعاونه مع تنظيم القاعدة وتظهير ديكتاتورية صدام حسين وخطره. وبلغ التضليل الاعلامي الاميركي ذروته عندما ساهم في نشر ثقافة الخوف بين الاميركيين من خطر الاسلام وعلاقته بالارهاب وإثارة موجة من الوطنية الاميركية ذات منحى عنصري وشوفيني والتزام موجبات الدفاع عن الوطن وإلصاق تهمة "الخيانة" مدعياً ان كل من يعارض الحرب على العراق ضد اميركا. وقفز الاعلام الاميركي فوق حرب فيتنام ونتائجها وموقف الاميركيين السلبي منها. ففي حرب فيتنام عكست التغطية الاعلامية الاميركية عداء الصحافيين الاميركيين للتورط الاميركي في الحرب كما ساعدت تغطية محطات التلفزة آنذاك على تبسيط حرب معقدة ونقلت وقائعها بأسلوب نقدي مما ساهم في تكوين رأي عام اميركي رافض للحرب وشكّل حالة ضغط شعبي على الادارة الاميركية. اما حرب الخليج الثانية "عاصفة الصحراء" فتحولت مع تلفزيون "سي أن أن" الى مشهد سينمائي اشبه بعملية بوليسية دولية تخللها إبراز قدرة الآلة العسكرية الاميركية. ومع ان كل الحكومات تقريباً تستخدم في الحروب التضليل الاعلامي، لكن غالبية وسائل الاعلام الاميركية بدل ان تلتزم الموضوعية والنقد وقعت في فخ التضليل والوقائع المزورة والمعلومات المعلبة وانخرطت فيها طوعاً في شكل غير مسبوق. وشكلت ابرز المحطات التلفزيونية والفضائيات وكبريات الصحف الاميركية جزءاً من استراتيجية الحرب. وأبرز هذه الوسائل: قناة "فوكس نيوز كوربورايشن" وهي واحدة من اهم وسائل بث الترويج الأيديولوجي للادارة الاميركية وسياستها وهي تضم 26 محطة تلفزيونية محلية ومتخصصة يملكها البليونير الاميركي روبرت مردوخ. و"فوكس نيوز" هي الابنة المدللة للحرب الاميركية على العراق نظراً الى ارتباط المصالح السياسية والاقتصادية لامبراطورية مردوخ الاعلامية مع مصالح صناع القرار في الادارة الاميركية. كما انها القناة المفضلة لدى الرئيس جورج بوش وصقوره. قناة "أن بي سي" التلفزيونية التي تملكها شركة "جنرال الكتريك" ورئيسها التنفيذي جاك ويتش من المحافظين. قناة "سي بي سي" التي تملكها شركة "وستنكهاوس" ومديرها مايك جوردن وهو محافظ متشدد. صحيفة "وول ستريت جورنال" وهي نموذج للاعلام المكتوب المؤيد من دون تحفظ لسياسة الادارة الاميركية في حربها، وهي صحيفة محافظة ساعدت على استنفار رأي عام وعصبيات أنكلو-ساكسونية، وغالت في الرؤية الدينية المتزمتة في مواقفها ضد العرب والمسلمين الذين هم "مصدر الارهاب والشر". صحيفة "واشنطن بوست" وهي وسيلة اعلامية تجردت من التوازن والموضوعية وأسهمت في بلورة رأي عام اميركي داعم للحرب على العراق، وشكلت مقالاتها مادة قوية في تأييد الرئيس بوش وسياسته. وهاجمت مع زميلتها "وول ستريت" معارضي الحرب من اميركيين وأوروبيين. هذا الى جانب وسائل الاعلام الاخرى التي تعيش في وضعية تنافس بامتداداتها الاعلامية والتجارية والعسكرية. اما الصحافة المكتوبة فانها تمايزت نسبياً عن المحطات التلفزيونية وبخاصة "نيويورك تايمز" الجريدة الوحيدة تقريباً التي كان لها موقف نقدي ورافض للحرب. وهذه النماذج تعطي الدليل على علاقة الشركات الصناعية والعسكرية العملاقة مع معظم وسائل الاعلام الاميركية ودور هذه الشركات العنكبوتية في دعم الادارة الاميركية وسياستها. وحسمت وسائل الاعلام هذه السباق لمصلحتها على سواها في الترويج والتغطية على الحرب الاميركية على العراق لأنها اكثر التصاقاً بتعليمات الادارة الاميركية وأكثر التزاماً بمعطيات وأيديولوجية الحرب والأكثر قرباً من الادارة فكراً وممارسة. تلاعبت ادارة الرئيس بوش بالمعلومات لتبرير الحرب على العراق وشنت دوائر المخابرات والبنتاغون حملة تسريبات لمعلومات خاطئة ووقائع مزورة واستخدمت مفاهيم جديدة وأساليب ملتوية ومارست التضليل والخداع لتضخيم المخاطر من اجل استقطاب الرأي العام الاميركي وزج الاعلام الاميركي في خدمة حربها. وتجاوبت وسائل الاعلام الاميركية مع حملة التلاعب والتضليل الاعلامي وانحياز غالبيتها العمياء لتعليمات وأوامر سلطة الادارة الاميركية في شكل لم يسبق له مثيل في تاريخ التغطية الاعلامية لأي حدث او حرب حصلت ما أفقد الاعلام الاميركي استقلاليته وموضوعيته وحسه النقدي ليتحول اعلام حرب. الحريات والحقوق المدنية وفي اطار الحرب على العراق وعلى الارهاب اصدر الكونغرس الاميركي قوانين ضد الارهاب التي وفرت للسلطة قبضة خانقة وحديد على حياة الاميركيين وحرياتهم المدنية وسمحت لادارة بوش وصقوره وبخاصة وزير العدل المتشدد جون آشكروفت الانقضاض على الحريات الفردية الاساسية والحريات المدنية التي يكفلها الدستور الاميركي وإخضاع حقوق الفرد الاميركي لسلطة وقوة الدولة وأجهزة استخباراتها. وعلى رغم اصدار الادارة الاميركية قوانين مناهضة للحريات والحقوق المدنية للأميركيين وبشكل خاص للأميركيين المسلمين والعرب في الولاياتالمتحدة الذين اعتقل الآلاف منهم من دون مبرر وأدلة وإثبات، تخلت غالبية وسائل الاعلام الاميركية عن مهمتها في نقد التشريعات القانونية التي صدرت تحت عنوان محاربة الارهاب ولم تلعب دور الناقد والرافض لمصادرة الحريات وقمع الحقوق وسياسة التمييز العنصري. وفي مجال حقوق الانسان وحرية التعبير استخدمت الادارة الاميركية التقدم التكنولوجي في قمع حرية التعبير والبحث، اذ قامت الاجهزة وفي شكل واسع بالتنصت اللادستوري على الهواتف والانترنت حتى لم تستثن الجامعات التي تشكل تاريخياً الموقع الصعب لكل من يحاول التعدي على حرية الفكر والتعبير مما دفع بعض الجامعيين والأكاديميين الى وضع مشروع قانون حماية حرية المطالعة. من جهة اخرى ساهم الاعلام الاميركي في طمس ما تعرضت له ثقافة العراق وحضارته وتعامل بسلبية باردة مع النهب المنظم الذي وصل الى حد التدمير لآثار العراق وسرقة موجودات المتاحف تحت نظر قوات الاحتلال الاميركي، وأبرزت حديث وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد معلقاً على عملية النهب قائلاً: "ان الحرية غير منظمة... وان اموراً تقع ولا احمل اي احساس بالندم والأسف". النظام الاميركي والأزمات الدورية اقترنت الحرب الاميركية على الارهاب وعلى العراق بالحد من الحرية للأفراد والصحافة وخروجاً على الدستور. وحدث هذا التحول الخطير في بلاد يطلق عليها "أم الديموقراطية المعاصرة". وفي المقابل تخلت وسائل الاعلام الاميركية عن مهمتها ومسؤولياتها ولم تعالج الاوضاع لا بالجدية ولا بالعمق لا بل ساهمت باستغلال الديموقراطية والحرية كقناع لتشويه الحقائق وخداع الاميركيين والسكوت على ضرب حرية التعبير. وتحول مأزق النظام الاميركي في الضغط على الحريات وقمع ومصادرة الحقوق المدنية للأميركيين الى ازمة فعلية ودورية يعاني منها المجتمع الاميركي عند منعطفاته ومحطاته التاريخية. كما حصل في الحرب العالمية الثانية إثر الهجوم الياباني على بيرل هاربر من اصدار القوانين التي صادرت الحريات والحقوق المدنية ووضع جميع اليابانيين الموجودين في اميركا في معتقلات جماعية وغيتوات، وفرض تدابير وإجراءات بحق الالمان والايطاليين الاميركيين واصدار مراسيم ضد الغرباء في اميركا ووضع 600 ألف ايطالي و250 ألف الماني يعيشون في اميركا منذ اكثر من 20 سنة تحت المراقبة اليومية ومنعهم من التنقل من مدينة الى اخرى وتجميد حساباتهم. وشهد المجتمع الاميركي في مطلع الخمسينات عمليات واسعة من قمع الحريات العامة والفردية والتصدي للحقوق المدنية وحرية التعبير في ما اطلق عليه مرحلة المكارثية والتي ما تزال آثارها اللاديموقراطية ظاهرة في الحياة الاميركية. وشهد المجتمع الاميركي موجة واسعة من جرائم الكراهية والتمييز العنصري امتدت لسنوات طويلة ضد الاميركيين السود تميزت بالقمع والقتل والاضطهاد وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الاميركيين السود، وهي صفحة سوداء في التاريخ الاميركي الحديث، اعترف الرئيس بوش في السنغال اثناء جولته الافريقية في تموز يوليو 2003 بأن العنصرية لم تنته في الولاياتالمتحدة. وفي مرحلة حرب فيتنام ورفض تلك الحرب من غالبية الاميركيين مارست الادارة ابشع انواع القمع في حق الشباب والمثقفين والصحافيين الاميركيين الذين رفضوا الحرب واستمرارها، ووجهت تهمة العداء لأميركا لكل من حاول الاعتراض على الحرب. وأصيب الاعلام الاميركي بنكسة في صدقيته بنقل الاخبار وبنكسة التحاقه بأهل القرار السلطة وتحويله الى اعلام حرب متناسياً دوره الاعلامي الموضوعي المستقل. * كاتب وسياسي لبناني.