حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الأخدود والشباب    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشكلة أميركا في مرآتها غير الأمينة وفي هامشية عناصرها الحركية المنفتحة على العالم
نشر في الحياة يوم 27 - 03 - 2003

في نبأ مختصر حملته الصحف قبل أيام أن الأمير السعودي الوليد بن طلال منح الجامعة الأميركية في القاهرة عشرة ملايين دولار لإنشاء قسم أو مركز للدراسات الأميركية. ولنا ان نتذكر ان البليونير الشاب أهدى مدينة نيويورك غداة هجمات 11 / 9 مبلغ عشرة ملايين دولار، مرفقاً خطوته برسالة قال فيها ان المبلغ السخي أتى تعبيراً عن تقديره للمدينة، ومشيراً في السياق نفسه الى أنه ربما حان الوقت لأن تعيد أميركا النظر في سياستها تجاه الشرق الأوسط. ولا شك في ان ما كان في ذهنه وقتها هو دعم أميركا المطلق لاسرائيل. لكن، بدا أن موقفه، الذي صاغه بكل لباقة وتلطف، يغطي أيضاً السياسة الأميركية عموماً في الانتقاص من الاسلام أو على الاقل عدم التعامل معه باحترام.
الرد الغاضب الفوري من رودولف جولياني، عمدة نيويورك حيث الجالية اليهودية الأكبر في العالم كان اعادة الشيك الى الأمير وليد، وذلك بفجاجة تشي باحتقار شديد، وأيضاً عنصريّ كما أرى، تمتزج الاهانة فيه بالتبجح. فقد أكد نيابة عن المدينة، بحسب تصور معيّن لها، أنه شخصياً من يعبر عن شجاعة المدينة ومقاومتها المبدئية لأي تدخل خارجي. وهو بالطبع موقف يرضي لكنه لا يساهم في توعية الجالية اليهودية، التي يفترض انها كتلة متجانسة موحدة.
تصرف جولياني النزق يتماشى تماماً مع موقفه قبل سنوات في 1995، أي بعد زمن على التوقيع على أوسلو عندما رفض السماح لياسر عرفات بالدخول الى صالة "فيلهارمونيك هول" لحضور عرض موسيقي دعيت اليه كل الأطراف في الأمم المتحدة. هذا النوع من الحركات المسرحية الرخيصة التي اعتادها جولياني، تلك الشخصية دون المستوى في سياسات المدن الأميركية الكبرى، جعلت رده على الأمير السعودي امراً متوقعاً تماماً. لقد كان الغرض من الهدية المساهمة في المساعدات الانسانية المطلوبة في شدة للمدينة التي دهمتها تلك المجزرة البشعة. لكن النظام السياسي الأميركي واللاعبين الرئيسين فيه يضعون اسرائيل قبل كل شيء، بغض النظر عمّا اذا كانت اللوبيات الاسرائيلية الثرية والمحكمة التنظيم ستقوم بالرد نفسه. في أي حال، لا نعرف ماذا كان سيحصل لو لم يرجع جولياني المبلغ، لكن تبين بالنتيجة ان عمله استبق في شكل ملحوظ اللوبي الاسرائيلي. وكما قالت الروائية والمعلقة المرموقة جوان ديديون في مقال نشرته أخيراً في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، فإن العنصر الثابت في السياسة الأميركية كما عبّر عنه للمرة الأولى الرئيس ف. د. روزفيلت هو أن تسعى أميركا دوماً، عكس أي منطق، الى الجمع بين نقيضين كاملين: ادامة الدعم للمملكة العربية السعودية من جهة وإسرائيل من الجهة الثانية. وتقول ان ذلك أوصل الى وضع "أصبحنا فيه لا نستطيع مناقشة أي شيء يبدو وكأنه يمس علاقاتنا بحكومة اسرائيل الحالية". 16 كانون الثاني/يناير، ص 56.
الحدثان عن الأمير الوليد مترابطان في شكل كامل، ويبرزان تواصلاً في الموقف الأميركي يندر ان يلحظه المنظور العربي للولايات المتحدة. ذلك ان القادة والسياسيين العرب ومستشاريهم وهم غالبا أميركيو التعليم عبر ثلاثة أجيال على الأقل يصيغون لبلدانهم سياسات تقوم على فكرة متوهمة تماماً عن طبيعة أميركا. جوهر هذه الفكرة المفتقرة تماماً الى التماسك هو أن "الأميركيين" يديرون كل شيء، لكن التعبير عن ذلك الجوهر يأتي في خليط من الأشكال البالغة التضارب، في طيف يمتد من الرأي القائل إن أميركا مؤامرة يهودية، الى ذلك الذي يراها نبعاً لا ينضب من حسن النية والعون الى المسحوقين، الى الاعتقاد ان حاكمها المطلق في كل صغيرة وكبيرة شخص أبيض يجلس في البيت الأبيض متعالياً على الميول والتيارات.
وأتذكر أنني خلال السنين العشرين من معرفتي الوثيقة بياسر عرفات حاولت مراراً أن أوضح له أن أميركا مجتمع معقَّد يتصارع فيه الكثير من التيارات والمصالح والضغوط، وهو بذلك أبعد ما يكون، على سبيل المثال، من الوضع في سورية وقتها، ويتطلب لدراسته نموذجاً مختلفاً. واستعنت لهذا الغرض بصديقي الراحل، الباحث والناشط السياسي اقبال أحمد، بمعرفته الدقيقة بالمجتمع الأميركي وربما كان أيضاً أفضل منظّر ومؤرخ في العالم لحركات التحرر الوطني للتكلم مع عرفات وجلب المزيد من الخبراء لتطوير منظور أغنى بالتمايزات يستعمله الفلسطينيون خلال اتصالاتهم الأولى بالأميركيين أواخر الثمانينات. وذهب كل هذا الجهد سدى. وكان أحمد قام بدراسة معتنية للعلاقات بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية وفرنسا خلال حرب التحرير من 1954 الى 1962، اضافة الى دراسة لموقف الفيتناميين الشماليين خلال مفاوضاتهم مع هنري كيسنجر خلال السبعينات.
ان هناك تبايناً فاضحاً بين المعرفة التفصيلية الدقيقة لدى الثوار الجزائريين والفيتناميين بالبلد الذي كانوا يصارعونه ومعرفة الفلسطينيين بالولايات المتحدة، تلك المعرفة التي قامت على الأقاويل وقراءات متعجلة لمجلة "تايم". وكان الهوس الأكبر لدى عرفات ان يدخل شخصياً الى البيت الأبيض ليحادث هناك أكثر البيض بياضاً، الرئيس بيل كلينتون! وربما كان يعتقد ان التوصل الى اتفاق معه يشابه الاتفاق مع الرئيس حافظ الأسد أو الرئيس حسني مبارك. لكن، لسوء حظ عرفات ورجاله، أن كلينتون، الذي كان أبرز خلال ذلك استاذيته في السياسة الداخلية والخارجية وقدرته على التلاعب، سرعان ما أغرق الفلسطينيين وأضاعهم في بحر من المجاملات والتكتيكات. مع ذلك فقد بقي منظورهم الساذج لأميركا على حاله، ولا يزال معنا الى اليوم. أما عن المقاومة أو معرفة كيفية ممارسة اللعبة السياسية في عالم تسوده قوة عظمى وحيدة لا مردّ لها، فالوضع لا يزال على ما كان عليه منذ ما يزيد على نصف قرن. ولا يستطيع الكثيرون جرّاءه سوى التعبير عن الاحباط، مثل محبّ خائب الأمل، والقول إن لا أمل في أميركا وقد كرهنا حتى زيارتها غير اننا لا نزال نرى اقبالاً كبيراً على بطاقات الاقامة الدائمة في أميركا، والحرص على التعليم الجامعي للأبناء.
الوجه الآخر للقصة، وهو أكثر مدعاة للتفاؤل، يتصل بالتغير اللاحق في موقف الأمير الوليد، الذي لا يمكنني سوى التكهن بدوافعه. لكن الذي اعرفه هو أن ليس هناك في جامعات العالم العربي سوى عدد قليل من الدورات والندوات البحثية المتناثرة عن الأدب والسياسة الأميركيين، من دون معهد أو مركز للتحليل المنظم والعلمي لأميركا شعباً ومجتمعاً وتاريخاً، ولا حتى في مؤسستين أميركيتين مثل الجامعتين الأميركيتين في بيروت والقاهرة. وربما نجد الافتقار نفسه في كل العالم الثالث، وحتى في بعض البلدان الأوروبية. النقطة التي اريد اثباتها هي الحاجة الملحة في عالم تقبض على زمامه قوة احادية لا حدود لها الى معرفة أكثر ما يمكن عن دينامياتها المتضاربة. ويشمل هذا بحسب ما اعتقد اتقاناً ممتازاً للغة، وهو على سبيل المثال ما لا يتوافر للكثيرين من القادة العرب. نعم، أميركا هي بلد مكدونالدز وهوليوود والجينز وكوكا كولا وسي أن أن، وتصدّر هذه المنتجات الى كل مكان بفضل العولمة والشركات المتعددة الجنسيات وما يبدو من نهم العالم الى الاستهلاك السريع السهل. لكن علينا في الوقت نفسه أن نعرف مصدر هذه المنتجات وفهم العمليات الثقافية والاجتماعية التي تكمن خلفها، خصوصاً مع المحاذير الجلية الوضوح المترتبة على التفكير التبسيطي والاختزالي أو الجامد بأميركا.
أكتب هذه السطور فيما لا يزال الكثير من دول العالم يتعرض لضغوط هائلة للخضوع على مضض أو التحالف الانتهازي مثل ايطاليا واسبانيا للولايات المتحدة في حربها المرفوضة عالمياً على العراق. ولولا تفجر التظاهرات وشتى أعمال الاحتجاج في انحاء العالم ضد هذه الحرب، قبل اندلاعها ومتزامناً معها، لم يكن هناك من سيتحدى هذا العدوان الاستحواذي المستهتر. وتشير هذه المعارضة الواسعة التي تشمل الكثيرين من الأميركيين، اضافة الى الأوروبيين والآسيويين والأفارقة والأميركيين اللاتينين الذين خرجوا الى الشوارع وكتّاب وسائل الاعلام الى اننا نجد في الأخير ادراكاً متزايداً بأن الولايات المتحدة، أو بالأحرى تلك الحفنة من المسيحيين - اليهود الأميركيين البيض الذين يحكمونها حالياً، منطلقة نحو الهيمنة على العالم.
ما العمل اذاً؟
سأحاول في ما يأتي تقديم توصيف سريع للمشهد العجائبي لأميركا اليوم، وذلك من منظور داخلي لمواطن وفرت له أميركا عيشاً مريحاً سنين طويلة، لكن أيضاً من منظور خارجي لحد ما بحكم جذوره الفلسطينية. ويقتصر هدفي من إلقاء هذه النظرة المزدوجة اقتراح سبل لفهم هذا البلد - الأبعد ما يمكن أن يكون كتلة صلبة واحدة كما يراه الآخرون عادة، خصوصاً في العالمين العربي والاسلامي - ومن ثم كيفية التأثير فيه أو حتى مقاومته، ان صح التعبير. ماذا يمكننا ان نرى؟
هناك فارق تمكن ملاحظته بين الولايات المتحدة والامبراطوريات الكلاسيكية السابقة: فهي تشترك مع الامبراطوريات السابقة في تأكيد كل منها أصالته التامة وتصميمه على عدم تكرار الطموحات المنفلتة لدى سابقيه، الا ان أميركا تقوم بذلك مع اصرار عجيب على البراءة وحسن النية المطلق وانكار الذات الذي يصل الى حد القدسية. انه وهم عصابي مقلق يقوم بخدمته فريق جديد من المثقفين اليساريين او الليبراليين سابقاً، الذين لهم تاريخهم في معارضة حروب أميركا الخارجية، لكنهم اليوم يدافعون عن "الامبراطورية الفاضلة" هذه، بأساليب كثيرة تمتد من الزعيق الفج باسم الوطنية الى التبريرات الملتوية اللاأخلاقية في جوهرها. لقد كان لأحداث 11 / 9 دورها في هذا الانقلاب، لكن الغريب أن تلك الأحداث الرهيبة تعامل وكأنها أتت من لا مكان، وليس من عالم وراء البحار دفعه الى الجنون التدخل الأميركي والحضور الأميركي في كل مكان. ان هذا بالطبع لا يعني تبرير الارهاب الاسلامي، وهو مستنكر من كل النواحي. لكنه يشير الى الغياب التام للبعد التاريخي والاتزان عن كل التحليلات المتظاهرة بالجدية لردود فعل أميركا في أفغانستان أولاً والآن في العراق.
لكن العنصر الأهم الذي لا يشير اليه الصقور الليبراليون هو اليمين المسيحي المشابه الى حد كبير للتطرف الاسلامي من حيث الحماسة والقناعة المطلقة بالأحقية وحضوره الهائل والحاسم التأثير في أميركا اليوم. هذه الرؤية للعالم تستقى في أكثرها من مصادر في العهد القديم، وتتطابق الى حد كبير مع تلك التي تستقيها اسرائيل، شريكة هذا اليمين المسيحي ومثيلته. ويقوم التحالف العجائبي في أميركا بين أوساط المحافظين الجدد النافذة والداعمة لاسرائيل والمتطرفين المسيحيين على دعم الأخيرين للصهيونية، باعتبارها وسيلة لتجميع اليهود في الأراضي المقدسة تمهيداً لعودة المسيح المنتظر، حيث يواجه اليهود وقتها خيار اعتناق المسيحية أو الابادة. لكن يندر أن نجد اشارة الى هذه الثيولوجيا الدموية اللاسامية، خصوصاً من جانب الأوساط الأميركية اليهودية المؤيدة لاسرائيل.
إدعاء التدين
أميركا هي البلد الأكثر ادعاء بالتدين في العالم. ويندرج ذكر الله في كل مظاهر الحياة، من العملة الى المباني الى التعابير اليومية العادية: شعار "ثقتنا بالله" على العملة، وأميركا ك"بلد الله"، و"ليبارك الله أميركا" الخ. وتتكون القاعدة الشعبية لسلطة بوش من الستين مليوناً الى السبعين مليوناً من الأصوليين المسيحيين الذي يؤمنون مثله بأنهم اهتدوا الى المسيح وأنهم هنا ليقوموا بما يريده الله في بلد الله هذا. ويرى بعض علماء الاجتماع والصحافيين من بينهم فرانسس فوكوياما وديفيد بروكس أن التدين الأميركي المعاصر يأتي نتيجة التوق الى التلاحم المجتمعي والى الشعور بالاستقرار المفتقد منذ زمن طويل، خصوصاً أن ما يقرب من عشرين في المئة من السكان يتنقلون من سكن الى سكن في كل وقت. لكن الأدلة على هذا التوق لا تصح الا جزئياً. لأن العنصر الأهم هو طبيعة ذلك التدين بما هو اشراقي نبوئي بيقين لا يتزعزع برسالة ذات طابع قيامي أحياناً، مع تغييب دائم للوقائع التفصيلية والتعقيدات. العنصر الآخر هو المساحة الشاسعة للبلد وبعده من العالم وتقلباته، وعدم قدرة البلدين المجاورين كندا والمكسيك على الحد من جماح أميركا.
كل هذه العناصر تلتقي حول فكرة عن أميركا تعتبرها تجسيداً للحق والخير والحرية والوعد الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، تلك الفكرة الأيديولوجية، التي يبلغ من عمقها في نسيج الحياة اليومية أنها لا تظهر كأيديولوجيا بل كحقيقة واقعة: أميركا = الخير = كامل الولاء والحب. ويتوافق هذا مع تقديس مطلق ل"الآباء المؤسسين" والدستور، وهو فعلاً وثيقة مدهشة، لكنه لا يتجاوز أن يكون من عمل البشر. ويشكل تاريخ أميركا المبكر أساس ما تعتبره أصالتها. ولا أعرف بلداً آخر في العالم يلعب فيه التلويح بالعلم الوطني ذلك الدور الرمزي الأساسي لشخصيتها. اذ ترى تلك الأعلام في كل مكان، على سيارات التاكسي وياقات المعاطف وواجهات البيوت ونوافذها وسطوحها. انه التجسيد الرئيس لصورة الوطن، الرامز دوماً الى الصمود البطولي وشعور المحاصرين الذين يقاتلون أعداء يستحقون الاحتقار. ولا تزال الوطنية تعتبر الفضيلة الأميركية الأعلى، بترابطها مع الدين والانتماء والعمل الصالح في داخل البلاد والعالم عموماً. ويبلغ من اتساع مفهوم الوطنية انه يطاول حتى الإنفاق الاستهلاكي، مثلما في دعوة الأميركيين بعد أحداث 11 / 9 الى الاقبال على الشراء تحدياً للارهابيين الأشرار. واستغل جورج بوش ومعاونوه مثل دونالد رامسفيلد وكولن باول وكوندوليزا رايس كل ما ينطوي عليه هذا المفهوم لتعبئة القوات لحرب على بعد سبعة آلاف ميل من أجل القضاء على صدام هكذا يسمونه دوماً. وتكمن تحت كل هذا آليات الرأسمالية التي تدخل حالياً مرحلة تغير جذري مملوء بالمحاذير كما اعتقد. وقد كشفت الاقتصادية جولي شور أن الأميركيين حالياً يعملون ساعات أطول بكثير، ويكسبون أقل نسبياً مما كانوا يكسبونه قبل ثلاثة عقود. مع ذلك ليس هناك تحد سياسي جدي منظم للايمان الأعمى بحرية السوق. ولا يبدو أن أحداً يتساءل عن الحاجة الى تغيير في منظومة الشركات الكبرى، في تحالفها مع الحكومة الفيديرالية التي فشلت حتى الآن في توفير نظام شامل للضمان الصحي ونظام تعليمي موثوق. ونجد دوماً ان لأخبار البورصة أهمية تفوق أي شعور بالحاجة الى اعادة النظر في النظام السائد.
هذا ملخص مرتجل نوعاً ما للتوافق الأميركي، الذي يستغله السياسيون ويحاولون من دون كلل تبسيطه الى شعارات وتعابير مختزلة برّاقة. لكن ما يكتشفه المرء في هذا المجتمع البالغ التعقيد هو التيارات المتضاربة والخيارات الكثيرة التي تتدافع دوماً حول هذا التوافق وعبره. من ذلك المعارضة المتزايدة للحرب، التي يتغافل عنها جورج بوش أو يحاول التقليل من شأنها. انها تيارات أميركا الأخرى، أميركا غير الرسمية، التي تحاول وسائل الاعلام الرئيسة الصحف الكبرى مثل "نيويورك تايمز"، وشبكات التلفزيون الرئيسة، وغالبية دور نشر الكتب والمجلات طمسها واخفاءها. ولم يشهد البلد مثل التواطؤ الحالي الذي لا سابق له في الوقاحة بين برامج الأخبار على التلفزيون واندفاع الحكومة الى الحرب. اذ لا ينفك حتى أبسط مقدمي النشرات في شبكة "سي أن أن" أو غيرها من الشبكات الرئيسة عن الكلام بحماسة عن شرور صدام حسين وكيف ان "علينا" وقفه قبل فوات الأوان. واذا لم يكن هذا كافياً، فإن كل موجات البث مشبعة بالعسكريين السابقين وخبراء الارهاب ومحللي سياسات الشرق الأوسط الذي يجهلون أياً من اللغات المعنية، ولم يروا الشرق الأوسط في حياتهم، وينقصهم ما يكفي من التعليم لكي يكونوا خبراء في أي مجال وكلهم يردد كالببغاوات وصفات جاهزة عن "حاجتنا" الى أن نقوم بعمل ما تجاه العراق، فيما ينشغل الكل بإحكام اغلاق نوافذ البيوت والسيارات استعداداً للهجوم الكيماوي الوشيك.
ولما كان هذا التوافق اصطناعاً مركّباً، فإنه يعمل في حاضر دائم خارج الزمن. انه يرفض التاريخ في شكل مطلق، الى درجة ان كلمة "تاريخ" في اللغة المتداولة مساوية في المعنى ل"لا شيء" أو ل"اللاإعتبار"، مثلما في التعبير المهين المعروف: "صرتَ تاريخاً!". عدا ذلك، فإن التاريخ هو ما علينا كأميركيين أن نعتقده في ما يخص أميركا، وذلك بولاء، ومن دون انتقاد، أي بلا تاريخية أما بقية العالم فنعتبره "قديماً"، وقد تركناه خلفنا، ولذا لم يعد مهماً. اننا نجد هنا ازدواجية مذهلة. فإن أميركا في المنظور الشعبي تقف فوق التاريخ أو عبره. ولكن، هناك في المقابل اهتمام جارف نراه في كل مكان في البلد بتأريخ كل شيء، من القضايا المحلية الصغيرة الى التواريخ الشمولية لإمبراطوريات العالم. وقد تنامى من هذين النقيضين الموازنَين بعناية الكثير من الطوائف والنزعات، من تلك التي تركز على الوطنية بمعنى كره الأجنبي الى الاهتمام بمخاطبة الأرواح في العالم الآخر والايمان بالتناسخ.
هناك مثال آخر على الصراع على التاريخ يستحق الذكر لارتباطه الأوثق بالواقع، فقبل نحو عشر سنوات نشبت معركة فكرية كبرى في الحيز العام حول نوعية التاريخ المطلوب للتدريس. وسرعان ما ظهر من الأخذ والرد الذي برز عبر أسابيع طويلة أن المدافعين عن التاريخ الأميركي كسردية بطولية وطنية موحدة ذات تأثير ايجابي تماماً في عقول الناشئة، اعتبروا ان التاريخ ضروري ليس للتوصل الى الحقيقة فحسب، بل للأهمية الايديولوجية لتصور للتاريخ يحيل الطلاب الى مواطنين سهلي القياد مستعدين لتقبل منظومة من الأفكار الأساسية كعناصر ثابتة في علاقات أميركا مع نفسها وبقية العالم. وكان المفروض لهذا التصور "الجوهراني" أن ينبذ كل عناصر ما سموه أفكار "ما بعد الحداثة" أو "التاريخ الشقاقي"، أي تاريخ الأقليات والنساء والعبودية الخ. لكن النتيجة كانت فشل هذه المحاولة لفرض مقاييس سقيمة من هذا النوع. وكما تستخلص ليندا سيمكوكس في كتابها "تاريخ من؟ الصراع على المقاييس الوطنية في صفوف المدارس" الصادر السنة الماضية، ف"المؤكد ان المرء قد يرى، مثلما أفعل، أن ... مقاربة المحافظين الجدد للتعليم الثقافي محاولة تمويهيه مفضوحة لزرع منظور للتاريخ يقوم على التوافقية والخلو من الصراع في ذهن الطلاب. لكن المشروع انتهى الى التحرك في اتجاه مغاير تماماً. فقد أصبح تقرير "المقاييس الوطنية للتاريخ" بأيادي المؤرخين الاجتماعيين والمختصين بتاريخ العالم الذين عملوا على اعداده مشتركاً مع مدرسي ك - 12، سبيلاً الى رؤية تعددية كانت الحكومة تحاول مقاومتها. في النهاية تحدى هؤلاء المؤرخون الذين شعروا بأن مواضيع العدالة الاجتماعية وتوزيع السلطة تتطلب رواية للماضي أكثر تعقيداً... من ذلك التاريخ التوافقي، الذي يشكل عملية اعادة انتاج ثقافية". ص 101
هناك اذاً في الحيز العام الذي تسيطر علىه بطرق كثيرة وسائل الاعلام سلسلة مما يمكن تسميته "مواضيع السردية" الهادفة الى تشكيل النقاش وتوضيبه وتقنينه، على رغم كل مظاهر التنوع والتعدد. وسأتناول عدداً قليلاً فقط من هذه المواضيع أو المسلّمات التي تبدو لي مرتبطة بقوة بالوضع الحالي. من بين هذه بالطبع أن هناك "نحن" مشتركة، أي هوية وطنية تتمثل برئيسنا ووزير خارجيتنا في الأمم المتحدة وقواتنا المسلحة في الصحراء ومصالحنا، وهي دوماً لا تتجاوز الدفاع عن النفس وبعيدة عن المآرب الخفية وعموماً في غاية الطهر والبراءة. من المواضيع التي تدور عليها هذه السردية أيضاً نفي اي أهمية للتاريخ وعدم الاعتراف بأي ترابط بين الأوضاع. مثلاً: ان الولايات المتحدة في الماضي سلّحت صدام حسين وأسامة بن لادن وشجعتهما، وأن حرب فيتنام اذا جاء ذكرها أصلاً وما عاناه ذلك البلد من دمار، كانت شيئاً "سيئاً" للولايات المتحدة - أو كما عبّر عن ذلك الرئيس الأسبق جيمي كارتر انها كانت دماراً ذاتياً "متبادلاً". أو الأمر الأصعب على التصديق، انعدام الأهمية على كل الصعد لتجربتين أميركيتين تاريخيتين تدخلان في صلب تكوين الولايات المتحدة، أي استعباد الأميركيين الأفارقة وسلب سكان أميركا الأصليين وتعريضهم الى ما يشبه الابادة. هذه القضايا لا تزال تنتظر تناولاً جديداً لها ضمن التوافق الوطني. هناك متحف رئيس للمحرقة في واشنطن، لكن ليس من نصب تذكاري للأميركيين الأفارقة أو الأميركيين الأصليين في أي مكان في الولايات المتحدة.
الموضوع الثالث الذي لا يتفحصه أحد هو الاقتناع بأن معارضة سياساتنا لا تتعدى أن تكون تعبيراً عن كره الأميركيين، الذي يقوم على حسد الآخرين لديموقراطيتنا وحريتنا وثرائنا وعظمتنا، أو انه كما يبين الهوس ضد فرنسا بسبب مقاومتها الحرب على العراق يعبر عن الشر الكامن في الأجانب. ويجري تذكير الأوروبيين في هذا السياق بأن أميركا أنقذتهم مرتين خلال القرن الماضي، مع التلميح الذي ينطوي عليه ذلك بأن الأوروبيين وقفوا مكتوفي الأيدي فيما تحملت القوات الأميركية عبء القتال الحقيقي. وفي ما يتعلق بتلك الأمكنة التي تدخلت فيها الولايات المتحدة بكثافة خلال العقود الخمسة الماضية، مثل الشرق الأوسط أو أميركا اللاتينية. فالنغمة الدائمة التي لا يتحداها أحد هي أن أميركا ذلك الوسيط النزيه أو الحَكَم المنصف أو القوة الدولية الخيّرة الصادقة النيات. ما لدينا اذاً هو ذلك الخط الفكري الذي يكاد يخلو تماماً من تناول قضايا مثل السلطة، أو المربح المالي، أو الاستحواذ على الموارد، أو ضغوط اللوبيات الاثنية، أو تغيير الأنظمة قسراً أو من طريق التآمر مثلما في ايران وتشيلي على سبيل المثال، ويديم نفسه تبعاً لذلك بعيداً من التساؤل والنقد. ولا نقارب هذا النوع من القضايا الحقيقية الا في التعابير المداهنة في مؤسسات الأبحاث والحكومة التي تتحدث عن قضايا مثل "القوة الناعمة" و"الرؤية الأميركية" و"ممارسة التأثير". كما لا يجد الخط الفكري هذا مكاناً لتلك السياسات الوحشية الحاقدة التي تتحمل أميركا مسؤولية مباشرة عنها، مثل الدعم لحملة شارون على الحياة المدنية الفلسطينية، أو الخسائر الرهيبة بين المدنيين الناتجة من العقوبات على العراق، أو الدعم للنظام التركي أو الكولومبي في قمعهما الوحشي للمدنيين العاديين. كل هذه المواضيع محرمة عند أي نقاش جدي ل"سياسة" أميركا.
أخيراً، هناك مقولة الحكمة الأخلاقية المتعالية على أي اعتراض كما تتمثل في شخصيات سلطوية مثل هنري كيسنجر أو ديفيد روكفلر أو أي مسؤول في الادارة الحالية، وهي المقولة التي تستعاد مراراً وتكراراً من دون أي تشكك. ولم نسمع الكثير من التعليق، ناهيك عن الاعتراض، على تعيين عضوين سابقين في ادارة ريتشارد نيكسون، هما ايليوت ابرامز وجون بوينتدكستر، في مناصب مهمة في الادارة الحالية على رغم تجريمهما من القضاء. ان هذا النوع من التبجيل الأعمى لمن هم في السلطة، ماضياً أو حاضراً، مشبوهين كانوا أم أنقياء، يأتي في أشكال متعددة، تمتد من تعابير الاحترام التي تصل الى حد الخنوع من المعلقين والخبراء الى الرفض الكامل لرؤية أي شيء في الشخصية السلطوية سوى المظهر الخارجي مثلاً، البدلة الغامقة المعهودة، مع القميص الأبيض ورباط العنق الأحمر، الذي لا يلحقه أي تلويث من سجلهم الذي قد يحمل اليهم أخطر الادانات. ويدعم هذا، كما أرى، الاقتناع بالبراغماتية كنظام فلسفي يتعامل مع الواقع في شكل لا تاريخي ولا ميتافيزيقي، بل حتى، وهنا العجب، لا فلسفي. ويجد هذا التوجه حليفه في النظرة الما بعد حداثية اللااسمانية من النوع الذي يختزل كل شيء الى بنية الجملة والسياق اللغوي، وهي اسلوب فكري سائد يتعايش مع الفلسفة التحليلية في الجامعات الأميركية. ونجد في جامعتي نفسها، على سبيل المثال، أن أفكار فلاسفة مثل هيغل وهايدغر تُدرّس في أقسام الأدب والتاريخ، لك نادراً ما تدرّس في قسم الفلسفة.
في هذه المنظومة المذهلة الجمود من المسلّمات الأساسية يتم صوغ الجهد الأميركي الاعلامي الحديث التنظيم والتعبئة لتسويقه بكل طريقة ممكنة خصوصاً للعالمين العربي والاسلامي. وما تتعمد هذه العملية طمسه هو تلك التقاليد المعارضة العنيدة - أي الذاكرة الأميركية المضادة غير الرسمية، النابعة الى حد كبير من أن هذا مجتمع قائم على الهجرة - التي تحافظ على حيويتها جنباً الى جنب مع السرديات الرسمية أو في ثناياها. والمؤسف ان القليل من المعلقين في الخارج يعير هذه الذاكرة المضادة الاهتمام الكافي. وتبرز جملة هذه الموضوعات، التقدمي منها والارتجاعي، الى الفاحص المدرب ترابطات في ما بينها تبقى خفية عادة. فعلى سبيل المثال، ستتوافر لنا عند تفحص عناصر المقاومة القوية والمثيرة للاعجاب لحرب بوش على العراق صورة مختلفة بالغة الحركية لأميركا، كمجتمع قابل للتعاون الخارجي والحوار والعمل المشترك المجدي. وسأضع جانباً لدى تناول هذه النقطة ذلك العدد الكبير من المواطنين الذين يعارضون الحرب لكلفتها البشرية والمالية، اضافة الى تأثيرها الكارثي في اقتصاد متراجع أصلاً. كما لن أتناول تلك الموجة اليمينية المتطامية التي ترى أن اميركا تتلقى اهانات الأجانب الغادرين، والأمم المتحدة، والشيوعيين الملحدين. كما لا حاجة الى تناول التوجه الانعزالي، ذلك الخليط العجيب من اليمين واليسار. وأستبعد من النقاش أيضاً طلاب الجامعات، ذلك المجمع الحاشد المثالي التوجه، بشكوكه العميقة في كل مجالات سياسة أميركا الخارجية تقريباً، خصوصاً العولمة الاقتصادية. ولهذا التجمع المبدئي المهم، الميّال أحياناً الى الفوضوية، دوره الحاسم عبر العقود في ادامة الاهتمام بقضايا مثل الحرب في فيتنام والعزل العنصري في جنوب أفريقيا والحقوق المدنية في أميركا نفسها.
ويترك هذا عدداً من القطاعات القوية ذات الخبرة السياسية والضمير الحي يمكن تقديمها باختصار بالغ. انها مجموعات تنتمي عموماً الى اليسار، اذا اعتمدنا التصنيف الأوروبي والأفرو آسيوي، وليس الأميركي، لأن الولايات المتحدة لم تشهد بعد الحرب العالمية الثانية حركة يسارية أو اشتراكية برلمانية بسبب نظام الحزبين وقبضته الخانقة على الحياة السياسية الحزب الديموقراطي نفسه يعيش مرحلة من التخبط لا يتوقع له الخروج منها قريباً. ولنا بداية أن نعدد في هذا الاصطفاف التيار الناقم، والمحتفظ براديكاليته، في الجالية الأميركية - الأفريقية. ويتشكل التيار من المجموعات المدينية المقاومة لوحشية الشرطة والتمييز العنصري في الأعمال والإهمال في مجالات الاسكان والتعليم، على رأسها شخصيات نافذة مثل القس آل شاربتون ومحمد علي وجيسي جاكسون على رغم تراجع مكانة الأخير، اضافة الى غيرهم من مواصلي السير على خطى مارتن لوثر كنغ. وتترابط هذه الحركة بالكثير من المجموعات الإثنية أو الدينية الناشطة، من ضمنها الهسبانيون والأميركيون الأصليون والمسلمون، التي يحاول كل منها النفاذ الى التيار السياسي الرئيس تطلباً لأدوار مهمة في السلطة على الصعد الفيديرالية والمحلية، اضافة الى حضور في برامج الحوار التلفزيونية المهمة وعضوية في الهيئات الحاكمة لمؤسسات الأبحاث والكليات والشركات الكبرى. لكن غالبية تلك المجموعات لا تزال تحت تأثير الشعور بالظلم والتمييز ضدها أكثر مما هو الطموح الى المشاركة الكاملة في "الحلم الأميركي" وهو في غالبه حلم البيض والطبقة الوسطى. والمثير للاهتمام في شخصيات مثل شاربتون أو رالف نادر ومسانديه في حزب الخضر، الذي يواصل نشاطه الاحتجاجي على رغم انه لا يزال في بدايته، انهم على رغم من بروزهم في الحيز العام وحتى تقبلهم فيه الى حد ما يبقون خارجيين وغير قابلين للاستيعاب، لأنهم أكثر عناداً من المقبول أو ليس لهم ما يكفي من الاهتمام بالمزايا المعتادة التي يقدمها المجتمع.
من العناصر المهمة أيضاً في التيار المعارض في الحياة السياسية الأميركية الحالية ذلك الجناح الكبير من الحركة النسوية الذي يركز على حق الاجهاض وقضايا مثل الانتهاك والتحرش الجنسي. كما تستقي التيارات المعارضة كما أصفها هنا من قطاعات مهنية تركز عادة على مصالحها وتقدمها المعاشي مثل الأطباء والمحامين والعلماء، والأكاديميين خصوصاً، اضافة الى عدد من النقابات العمالية وقطاع من حركة حماية البيئة، على رغم أن طبيعتها كروابط مهنية ترى مصلحتها في استقرار المجتمع وما يفرضه ذلك من أولويات.
هناك أيضاً الكنائس الرئيسة، التي لا يمكن أبداً اغفالها كحواضن لبذور التغيير والمعارضة. ولا بد من التمييز الواضح ما بين تابعيها وتابعي الحركات الأصولية التبشيرية المشار اليها في ما تقدم. وأبدى الأساقفة الكاثوليك وكهنة الكنيسة الأسقفية وتابعوها اضافة الى الكويكرز ومجمع الكنيسة المشيخية البروتستانتية - على رغم المشكلات الكثيرة أمام الكل، من بينها الفضائح الجنسية في المؤسسة الكاثوليكية وتراجع عدد المنتمين في غالبية البقية - موقفاً مفاجئاً في ليبراليته تجاه قضايا الحرب والسلام واستعداداً لمعارضة انتهاكات حقوق الانسان في انحاء العالم، والموازنة العسكرية الهائلة التضخم، والسياسة الاقتصادية لدى الليبراليين الجدد التي ألحقت ضرراً كبيراً بالحيز الاجتماعي العام منذ أوائل الثمانينات. اضافة الى ذلك كان هناك تاريخياً قطاع تقدمي من الجالية اليهودية المنظمة مهتم بحقوق الأقليات في الداخل والخارج، لكن نفوذه تراجع الى حد كبير منذ ادارة ريغان وصعود المحافظين الجدد وقيام التحالف بين اسرائيل واليمين الديني الأميركي، اضافة الى النشاط المحموم الصهيوني التنظيم لوصم أي انتقاد لاسرائيل باللاسامية وفرض أجواء هستيرية تصل الى حد التخويف من محرقة أميركية لليهود.
أخيراً هناك ذلك العدد الكبير من المجموعات والأفراد التي شاركت في الاجتماعات الشعبية ومسيرات الاحتجاج والتظاهرات السلمية لتقف في وجه "الوطنية" المتعصبة الغبية التي سادت بعد 11/9. وركزت هذه الأطراف على الدفاع عن الحريات المدنية من ضمنها حرية التعبير والضمانات الدستورية التي هددتها قوانين مكافحة الارهاب. كما تلعب دور التحدي للنظام الاجتماعي السائد الذي تمثله الطبقة الوسطى تلك التحركات الدائمة ضد عقوبة الاعدام، أو التحركات الآنية مثل الاحتجاج على انتهاكات تجسدها في شكل كامل معسكرات الاعتقال في غوانتانامو، وشكوك المدنيين عموماً بالعسكريين، اضافة الى الاستياء المتزايد من نظام جزاء بعدد من السجناء يعتبر الأكبر في العالم نسبة الى عدد السكان. وتنعكس كل هذه القضايا بالطبع في الصراع الضاري على الانترنت بين أميركا الرسمية وغير الرسمية. كما تثار في أجواء التردي الاقتصادي المتسارع قضايا متفجرة مثل الهوة المتزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء، والتبذير والفساد الفاضح في الادارات العليا للشركات، والخطر الداهم على نظام الضمان الاجتماعي من برامج التخصيص الجشعة، وكلها قضايا تستمر في إضعاف ذلك التمسك بالنظام الرأسمالي الذي تنفرد به أميركا والتغني بفضائله.
هل تقف أميركا في صف واحد وراء رئيسها وسياسته الخارجية العدوانية ونظرته الاقتصادية الخطيرة في سذاجتها؟ انه سؤال يدور عمّا اذا كانت الهوية الأميركية وصلت الى شكلها النهائي، واذا ما كان للعالم المضطر الى العيش في ظل قوتها العسكرية الطويلة الباع هناك الآن قوات أميركية في عشرات الدول أن يرفض الانصياع لها عندما يراها كتلة هائلة متراصة ترمي بثقلها حيثما تريد بموافقة كاملة من كل "الأميركيين". لقد حاولت أعلاه تقديم صورة بديلة لأميركا باعتبارها بلداً اشكالياً ذا واقع متنازع عليه أكثر مما نجده في التصور السائد عنها. وأعتقد أن الأصح أن نفهم أميركا على انها مشتبكة في صراع عميق بين الهويات مثلما نراه في بقية أنحاء العالم. وربما كانت أميركا، بحسب القول الشائع، ربحت الحرب الباردة، لكن النتائج الفعلية داخل أميركا لذلك الانتصار أبعد ما تكون عن الوضوح، ولا يزال الصراع مستمراً. ان التركيز المبالغ فيه على سلطة أميركا التنفيذية وقوتها السياسية والعسكرية الهادفة دوماً الى المركزة يغفل الجدليات الداخلية المستمرة التي لمّا تصل بعد الى التسوية. ومن البين القضايا التي لا تزال تثير الشقاق حقوق الاجهاض وتدريس نظرية النشوء في علم الأحياء.
المغالطة الكبرى في مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، وأيضاً نظرية هنتنغتون في صدام الحضارات، افتراضهما أن للتاريخ الثقافي حدوداً واضحة أو بدايات محددة ومراحل وسطية ثم نهايات. لكن الحقيقة هي ان الحيز الثقافي - السياسي حلبة للصراع على الهوية وتعريف الذات والاسقاط على المستقبل. ومن هنا فإن الاثنين أصوليان في موقفهما من الثقافات. ذلك ان هذه تسير في مجار متعرجة متشابكة دائمة التغير، لكنهما يحاولان ان يفرضا عليها حدوداً ثابتة وقواعد تنظيم داخلية، في الوقت الذي لا يمكن هذه أن توجد. الثقافات، خصوصاً الأميركية، وهي عملياً ثقافة مهاجرة، تتداخل مع بعضها بعضاً، وربما كان من بين النتائج غير المقصودة للعولمة بروز مجموعات عابرة للحدود تعمل من أجل مصالح مطروحة عالمياً، مثل حركة حقوق الانسان والحركة النسوية وحركة معارضة الحرب وغيرها. ان أميركا ليست أبداً في معزل عن كل هذا، لكن علينا أن ننظر عبر مظهر التوحد الصارم لنرى تحته جملة الصراعات تلك ونستطيع المشاركة فيها، لأنها في النتيجة تطاول الكثيرين في انحاء العالم. وهناك في هذا المشهد ما يدعو الى التفاؤل والأمل.
* استاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.