الشكوى من العنصرية المتصاعدة ضد المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة معروفة وليس فيها جديد. اسبابها كثيرة جداً، بعضها تاريخي وبعضها معاصر. جزء من تلك الاسباب يتحمله الغرب، مؤسسات وأحزاب وتعليم وقوى شعبوية تخوف الناس من الوجود الاسلامي لغايات انتخابية وغيرها. لكن جزءاً كبيراً من تلك الاسباب يتحمله المسلمون المقيمون في الغرب انفسهم. نستطيع طبعاً مداومة شتم الغرب وإحالة كل المسؤولية عليه إن في هذه المسألة أو غيرها، والتشاطر في التهرب من مسؤوليتنا، وتوسد فكرة المظلومية التي تغرينا دوماً وتغري كل تخيلاتنا، لكننا نخدع انفسنا ان لزمنا تلك العادة، ولم ننظر الى عيوبنا ايضاً والى دورنا في الكوارث التي تحيق بنا. هذا مع التأكيد هنا، ومرة بعد مرة، ان مثل هذه المقاربة لا تعني تبرئة الغرب او سياسته من الحال التي تشهده عوالم العرب والمسلمين. انطلاقاً من ذلك، ومن معاينة ومعايشة دور الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، يمكن القول انه ليس هناك جهد حقيقي لدرء الصورة السالبة الارهابية التي صارت ملازمة للمسلمين. وهي صورة ناتجة اولاً من الارهاب الذي تمارسه "القاعدة" وما شابهها من تنظيمات في كل ارجاء الارض، من إميركا، الى اندونيسيا، الى السعودية والمغرب، وصولاً راهناً الى اسبانيا. وناتجة ثاتياً من سلوكيات وتعصب الكثير من المنظمات المتطرفة التي تعمل في اوساط الجاليات المسلمة من دون ان تواجه مواجهة صارمة من جانب التيار العام المعتدل للمسلمين. ولئن كان مسلمو الغرب يمكنهم التنصل من اي اعمال تقوم بها منظمات تتخذ قواعد لها خارج الفضاء الغربي، فإنه لا يمكنهم اخفاء رؤوسهم في الرمال عندما يكون الارهاب الاعمى وليد جماعات وعناصر نشأت وترعرعت وتطرفت بين ظهرانيهم. جريمة مدريد، والجريمة التي اجهضت في لندن اخيراً، نظمتا من جانب عناصر شابة متطرفة من الجالية المسلمة. وفي كلا الحالين كان معظم المنفذين او المتهمين لحد الآن من العرب او المسلمين حملة الجنسية الاسبانية في الحال الأولى او البريطانية في الحال الثانية، بل ايضاً ممن ولدوا في هذين البلدين وترعرعوا فيهما، لا يمكن تجاهل هذه الحقيقة المرة والكبيرة والتي ترسم سؤالاً كبيراً في وسط الرأي العام الغربي عن الجاليات المسلمة التي تعيش بينهم. صحيح قطعاً ان أولئك المتطرفين يمثلون نسبة ضئيلة جداً وعلى الهامش، لكن صوتهم هو المسموع، وفعلهم، وهو الأهم، هو المرئي والمدمر. فما نفع الغالبية الصامتة ان تحكمت اقلية محدودة بصورتها ومستقبلها رغماً عنها؟ وما نفعها وهي كسيحة باللامبالاة وعدم الرغبة في محاولة التدخل لتغيير الصورة، او اعلان البراءة الواضحة من اعمال الاقلية مما يظهرها وكأنها متواطئة معها في شكل صامت. وعندما تحاول جهات لها وزن ان تتحرك لتعبر عن سخط الغالبية وترسم مسافة بينها وبين العناصر المتطرفة، فإنها لا تلبث ان تواجه بمقاومة شرسة من داخل هذه الغالبية تحت ذرائع لايقافها عن مساعيها. وأفضل مثال على ذلك هو ما حدث خلال الاسابيع القليلة الماضية عندما اصدر المجلس الاسلامي البريطاني، احدى الجهات الممثلة للجالية المسلمة في بريطانيا، بياناً دعا فيه المسلمين الى التعاون مع الحكومة البريطانية في الاخبار عن اي نشاطات ارهابية قد يقوم بها افراد من الجالية، وذلك على خلفية اعتقال عدد من الباكستانيين كانوا، في ما يبدو، يعدون لعملية تفجير كبرى في لندن. سبّب ذلك البيان ضجة كبرى، داخل اوساط الجالية، وتم التنديد فيه من جانب اكثر من جهة، والمسوغ الاساسي لمعارضيه هو ان دعوة المسلمين تخصيصاً للانتباه الى ما يدور داخل جاليتهم والاعلام عنه ان كان قد يؤدي الى اعمال تخريبية انما تكرس الصورة السلبية المسبقة من ان المسلمين هم المتهمون دوماً، ولا احد غيرهم. ومرة اخرى كانت معظم مضامين النقد الموجه للمجلس الاسلامي وللبيان الذي اصدره تنطلق من فكرة المظلومية الدائمة، والتشاكي المستمر. ترى، هل كان المعتقلون المتهمون بتدبير التفجير افراداً من الجالية المسلمة ام الفنزويلية؟ ام ان الجالية السيريلانكية هي المسؤولة عن خطب ودعاوى الكراهية والتعصب التي يثيرها سفهاء نصبوا انفسهم ناطقين باسم الاسلام في الغرب من امثال ابو حمزة المصري، وأبو قتادة الفلسطيني، وعمر بكري، وغيرهم ممن يتلاعبون بعقول وعواطف شرائح من مراهقي المسلمين في بريطانيا. وفي اسبانيا، هل كان المتهمون من الجالية الصينية ام المغربية؟ أليس من المطلوب ذاتياً تنظيف البيت الداخلي، وطمأنة المجتمعات الغربية التي يعيش فيها المسلمون من ان الغالبية وبالفم الملآن لا تتوقف عند رفض الاجرام الذي تقوم به الاقلية لفظياً فحسب، بل وتعمل على مقاومته ودرئه عملياً. ألم يرد في الأثر النبوي ضرورة ان يفزع ركاب السفينة كلها ضد بعض الجهلة فيهم للحفاظ على سفينتهم إن همّ أولئك السفهاء بخرق قاع السفينة بدعوى انهم يخرقون الجزء الخاص بهم وحسب؟ التردد والتأتأة التي تصيب التيار الرئيس من مسلمي الغرب، وهم مجمل الناس العاديين وجمعياتهم الاهلية، والمؤسسات التي تمثلهم، تعمل الآن على حشر المسلمين في بوتقة واحدة وصورة واحدة، هي صورة الارهابي المتطرف. وعندما اضيفت اليها المعركة الدونكوشوتية حول الحجاب في فرنسا، زادت الصورة قتامة. والأسوأ من ذلك ان اسس التعايش التي قام عليها الوجود الاسلامي في الغرب تتهدد الآن، وهي الأسس القائمة على فكر ومبدأ التعددية الثقافية - على الأقل في بريطانيا والولايات المتحدة، وبحدود متفاوتة في بقية البلدان الغربية. هذه التعددية، التي نظمت آليات الاعتراف المتبادل بين الجاليات غير البيضاء والغربيين في بلدانهم، تقوم على احترام الخصوصيات الدينية والثقافية والاثنية. بل واحياناً كثيرة الاحتفاء بها بكونها جميلاً تنوعاً جميلاً يكسر رتابة التوحد الاجتماعي الطوعي او القسري. وفي ظل تلك التعددية الثقافية عاش المسلمون عقوداً طويلة يمارسون عقيدتهم، وثقافتهم، وطرائق أكلهم، في وسط مجتمعات مختلفة معهم كلياً، عقدياً وثقافياً، لكن ما يراه الرأي العام الغربي الأوروبي الآن هو ان تلك التعددية انتجت غيتوات معزولة، وبؤر تطرف هامشية رافضة كلها للمجتمعات التي تعيش فيها، وتحقد عليها، بل ومستعدة للتآمر ضدها وضد سكانها الأبرياء. فصور الشبان المسلمين الملتحين الذين يحرقون العلم البريطاني مقابل مقر رئاسة الوزراء، تصدم البريطانيين، بخاصة أن أولئك الشبان ولدوا في بريطانيا وتعلموا في مدارسها. لذلك، يلحظ الآن بروز نزعة فقدت ثقتها بنظرية التعددية الثقافية، وصارت تدعو علانية لصهر المهاجرين والجاليات في هوية البلد المضيف، فإما ان يتبنوها ويحترموها او يغادروا تلك البلدان. في بريطانيا، ام التعددية الثقافية، وعلى مدار شهرين او ثلاثة ماضية، اشتعل النقاش ضد التعددية الثقافية، والامر المدهش ان التحطيم الحالي في اسس هذه النظرية قادم من جهات كانت تعتبر دوماً هي مصدر تأييدها الاقوى: من مفكري اليسار ونشطاء المساواة ومعارضي التفرقة العنصرية. تتراجع التعددية الثقافية لأنها، بنظر هؤلاء، في انتاج افراد يحترمون المجتمع الذي يعيشون فيه، ويبادلونه الحقوق والواجبات، وتتقدم على حسابها نظرية الهوية الواحدة على النمط الفرنسي، حيث "الصهر والفرنسة" هو الذي تتبناه الدولة ازاء المهاجرين والجاليات. ويبقى السؤال الخاص بنا وهو كيف يمكن ان يتزحزح الجسم الكبير والمترهل لمسلمي الغرب ويلتفت الى الخراب الثقافي والانساني الذي تحدثه جماعات التطرف الاسلامي البائسة التي تعيش في وسطه وتنخر فيه. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.