وسط تجاوب ملحوظ من الجمهور الذي غصّت به غاليري "تاون هاوس" وسط القاهرة، اختتمت "مؤسسة المورد" الثقافي برنامجها الافتتاحي "اول ربيع" الذي استمرّ على امتداد نيسان ابريل الجاري، وهو البرنامج الذي بدأت به المؤسسة نشاطها الرسمي. ويمكن القول إن "المورد" نجحت عبر هذا البرنامج المنوع في تحقيق مجموعة من الاهداف اكدت من خلالها تميّزها، اذ سعت الى تقديم وجوه ثقافية وفنية غير معروفة في مصر، وسلطت الضوء على تجارب فنية وأدبية منوعة رحب بها الجمهور. سحر الاكتشاف وفي هذا السياق، تعرف الجمهور الذي تابع برنامج "أول ربيع" الى تجارب موسيقية يجهلها مثل تجارب المغربي سعيد شرايبي مع آلة العود والفلسطيني خالد جبران مع آلة البزق والتركي سليمان أرجونيه مع الناي، والهندي ستياف بلوجي مع آلة السيتار، والنيجيري كريس اباني مع الساكسفون. والتقى الجمهور المكون من جنسيات وأعمار مختلفة مع أصوات غنائية مهمة كان يجهلها مثل الجزائرية بهجة رحال التي تؤدي نوعاً غنائياً على وشك الانقراض وهو "النوبات الاندلسية". وتعرف كذلك الى تجربة المطربة الموريتانية عالية بنت الميداح التي تؤدي اغنيات تراثية منوعة تجمع بين المديح النبوي واللون الوطني والعاطفي وتتميز بمساحة صوتية هائلة. كانت هذه المرة الاولى التي يلتقي فيها جمهور القاهرة بمطربة موريتانية. كما كان البرنامج فرصة للتواصل مع اصوات اخرى قدمت عروضها في مهرجانات القاهرة... لكن من دون ان توضع في سياق استثنائي يمكن المتلقي من تقويم تجربتها بصورة صحيحة، مثل صوت المطربة الشعبية المصرية فاطمة سرحان التي ادت اغنيات مديح الى جانب فقرات من السيرة الهلالية ومربعات الشاعر الشعبي ابن عروس. وتعرف الجمهور كذلك إلى المطربة المغربية اسماء منور التي تؤدي اغنيات من التراث الاندلسي فضلاً عن اداء اغنيات صوفية بطريقة تقليدية لافتة. كاميليا جبران والقوس المفتوح وكانت المحطة الرئيسة للبرنامج، اللقاء بين المطربة الفلسطينية كاميليا جبران، وجمهورها القاهري الذي يتابع نشاطها منذ العام 1990. وهي جاءت من الاراضي المحتلة بصحبة فرقة صابرين لتؤدي اغنيات لحسين البرغوتي ومحمود درويش وسميح القاسم. وكانت فرقة كاميليا توقفت عن النشاط بسبب عثرات انتاجية واجهتها بفعل الاحتلال. ووجدت الفنانة جمهورها في اقصى حالات الشوق والحاجة الى الاستمتاع بتجربة نادرة في الغناء العربي، لا تكف صاحبتها عن المغامرة وارتياد آفاق التجريب مرة في القالب الموسيقى ومرات مع النص الشعري. وهذه المرة اختارت كاميليا ان تؤدي قصائد لفاضل العزاوي وعائشة ارناؤوط، الى جانب قصيدة مترجمة من شعر اليوناني ايلتس وترجمة ادونيس، لتؤكد، من دون ان تدري، اهمية اعادة النظر في الطاقات الموسيقية الكامنة في قصائد النثر التي لم تستعص معها على التلحين ووجدت الجمهور الذي يقدرها ويناشدها الاستمرار في المغامرة الى حدودها القصوى. مكان للمسرح أيضاً وعلى رغم توهج الموسيقى كنشاط رئيسي في برنامج اول ربيع، الا ان اشكالاً مسرحية مهمة وجدت لنفسها مكاناً على الخريطة عبر عروض للرقص الحديث قدمها الراقص الكيني ديلو أوبيو أوكاش وبياتريس كومبي من ساحل العاج، اضافة الى عرضين من "عروض الحكي"، الاول قدمه الكيني اوديرا اجان عنوانه "الشجرة الآدمية" ويركز على حكاية اسطورية شعبية، والثاني قدمه الممثل المصري سيد رجب عنوانه "حكايات الفرماوي" يرثي فيها بسخرية واضحة الطموحات الوطنية التي انشغل بها جيله من المبدعين في اواخر السبعينات واوائل الثمانينات. ظاهرة الجمعيات الاهلية واذا كانت مؤسسة "المورد" واجهت مشكلات بيروقراطية حالت دون تنفيذ هذا البرنامج وتقديمه على مسرح "الجنينة" الكائن في مقرها في ضاحية العجوزة والذي صممه المهندس والسينوغراف المصري طارق أبو الفتوح، فقد جاء قرارها بنقل النشاط الى "غاليري تاون هاوس" فرصة للنظر مجدداً في العلاقة المعقدة بين مثقفي وسط المدينة والغاليري، وهي علاقة اشكالية كانت تقوم على التشكك في سياساته وأنشطته، ووصلت الى حد وصفها ب"الانشطة المشبوهة"! وفي مناخ قائم على سوء الظن، استضاف المكان "اول ربيع"، وجوهاً نضالية لها موقفها الواضح المناهض للسياسات الاسرائيلية والأميركية، ومنها على وجه الخصوص الشاعر الجنوب افريقي بريتنباخ، ومغني الراب الأميركي ايرون شيخ الذي قدم مجموعة من الاغنيات المحتجة بوضوح وعنف على مجمل السياسات الأميركية، خصوصاً ما يتصل منها بالمنطقة العربية. وفي الحقيقة، لفت برنامج "اول ربيع" النظر الى ظاهرة آخذة في النمو والتعاظم، وهي ظاهرة الجمعيات الأهلية والمؤسسات غير الربحية التي تنشط في عواصم عربية وتعمل في مجالات ترتبط بالفنون والثقافة. وأتاحت مؤسسة "المورد" الفرصة للقاء بين الجمهور وممثلين عن جمعيات مهمة مثل طارق ابو الفتوح عن "صندوق دعم شباب المسرح العربي"، روجيه عساف وحنان الحاج علي عن "جمعية شمس" بيروت، خالد جبران عن "مركز الاموري للموسيقى"، عادلة العايدي عن "مركز خليل السكاكيني" في رام الله و"مؤسسة الصورة والمبنى"، علياء الجريدي عن مؤسسة "جدران"، سامي حسام عن جماعة "سمات" التي تعمل في مجال دعم السينما المستقلة في القاهرة. وهي لقاءات اتاحت الفرصة لطرح برامج هذه الجمعيات، وخطط عملها ومصادر وجهات تمويلها بشفافية ووضوح ازالا عنها الكثير من علامات الاستفهام. وكشفت اللقاءات عن مسؤوليات مشتركة تعمل هذه الجمعيات على النهوض بها في ظل واقع عربي يشهد تراجعاً واضحاً في كل ما هو ثقافي.