يعرف الخريف في مصر بأنه موسم انحسار النشاطات الفنية وانشغال الجمهور عنها، لا سيما الحفلات الموسيقية. لذا كان الحضور الكبير الذي شهده المسرح المكشوف في دار أوبرا القاهرة أول من أمس ذا دلالة، ليس فقط لأننا في قلب الخريف، لكن لأن إياً من وجوه الحدث غير معروف للجمهور المصري الذي يحجم كثيراً عن التعرف الى الجديد، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالموسيقى. امتلأ المسرح المكشوف عن أخره بجمهور غالبيته من الشباب، وعدد من كبار السن لا يمكن إغفاله. اجتمع هؤلاء في تظاهرة "ري مكس" الموسيقية التي نظمها مركز الأرموي الفلسطيني لموسيقى المشرق ومؤسسة المورد الثقافي، وجمعت 22 موسيقياً شاباً ينتمون إلى ست دول عربية وتتراوح أعمارهم بين 15 و30 عاماً. على امتداد الأسبوع السابق على الاحتفالية التي تابعها الجمهور في مركز الجزويت الثقافي في الأسكندرية والمسرح المكشوف في دار أوبرا القاهرة، اجتمع الشباب في ورشة عمل طويلة لإنتاج موسيقاهم وارتجالها وإعادة توزيع التراث. تفاعلت أذواقهم وخلفياتهم الثقافية وآلاتهم الموسيقية وقدراتهم الصوتية لتنتج موسيقى متناغمة مميزة، تعطي انطباعاً للمستمع بأنها استغرقت شهوراً من الإعداد. مساحات التجريب الواسعة مساحات التجريب الواسعة التي جالت فيها موسيقى "ري مكس" كشفت عن وعي موسيقي كبير لدى الشباب الذي ينتمي إلى جيل سقط من حسابات مجتمعاته في مجالات كثيرة، من بينها بالطبع الموسيقى. فالاحتفاليات الموسيقية الجادة تتجاهله أو تجعل منه صوتاً خلفياً. وفرصته الوحيدة في الظهور موسيقياً هي البحث عمن يساعده في ركوب موجة الفيديو كليب والإيقاعات المستهلكة. بدأت "ري مكس" في القاهرة بأغنية "لاموني اللي غاروا مني" في شكلها الشرقي الخالص، ربما لطمأنة الجمهور واستمالته، بعيداً من التجريب الذي لم يظهر على امتداد الأغنية سوى في العزف الجماعي لخمسة من الشبان، أمسك كل منهم العود وراح يتبادل العزف مع زملائه في نعومة مطلقة، ليتبادلوا مع ثلاثة من الجالسين في المقاعد الخلفية قدموا "طلوا احبابنا" لوديع الصافي بمسحة غربية. ظهرت مساحات أصوات الشباب المتميزة في أغنية "لما بدى يتسنى" التي قدمها الشبان على خلفية أصوات آلتي الرق والغيتار فقط. وصفق لها الجمهور طويلاً. وكذا كانت الحال مع المديح الصوفي في أغنية "محمد رسول الله" التي قدموها على خلفية آلة التشيللو للمصري ثائر الخطيب. وبدا التناغم بين أصوات المطربين والسلاسة والدقة في تبادل مواقع الأصوات في مقدمة الغناء وخلفيته أشبه بمونتاج حي للصوت مكساج أثار إعجاب الحاضرين بالمطربين الأربعة هدى عصفور فلسطين ونادين حسن لبنان ونور الدين عايموش المغرب وصليب فوزي مصر. كان حضور سيد درويش طاغياً، إذ قدم له الشبان أغنيتي "شد الحزام" و"دنجي دنجي" التي قدموها في نمط الراب. وتفاعل الجمهور في شكل كبير مع أغاني درويش على التنويعات الوترية لعازفي البزق والعود والغيتار والقانون والكمان. ومن درويش إلى رياض السنباطي الذي قدم الشبان مقطوعة طويلة مزجت بين عدد من أعماله ومقطوعة "عطر الغجرية" للتونسي المتميز أنور براهم. وبين الحين والآخر تتداخل مع ألحان السنباطي وبراهم تنويعات موسيقية غربية وشرقية تتداخل وتختفي في نعومة. وتدرج الشبان في تقديم التجريب ولمساتهم الشخصية على الموسيقى طوال الحفلة، ووصل التجريب إلى ذروته في نهاية "ري مكس" مع الأغنية التي أدتها غالبية المشاركين ومزجت بين الراي الجزائري والراب والغناء الشعبي المصري. واستقبل الجمهور الأغنية متشككاً في البداية، لكن الحاجز زال سريعاً وتفاعل الجمهور معها بقوة.