حينما اختارت صنعاء "التسعينيون وآفاق الكتابة الشعريةَ" محوراً للملتقى الشعري الذي احتضنته بين 13 و16 الجاري بمشاركة أكثر من سبعين شاعراً في إطار برنامج "صنعاء عاصمة الثقافة العربية" لهذه السنة، كان واضحاً أن هذه الحاضرة العريقة اختارت مغامرة صعبة. فأحفاد عبدالله البردوني بدوا مصرين على الانحياز للمستقبل، لأجياله الشابة وأنماطه الجديدة، متيحين بذلك لشعراء التسعينيات فرصة أن يلتقوا للمرة الأولى على أرضهم في أول مؤتمر عربي لهم بعد عقد كامل من التجريب الشعري المغامر. ويبدو أن صنعاء كسبت الرهان. فأهم الأسماء العربية الشابة كانت هناك: لقمان ديركي، آمال موسى، إسكندر حبش، فاطمة ناعوت، هدى حسين، علي حبش، جمال بدومة، هدى أبلان، جرجس شكري، طالب المعمري، نبيلة الزبير، سامر أبو هواش، جهاد هديب، داليا رياض، علي المقري، إيمان إبراهيم، كريم عبدالسلام، نجاة علي، علي الحازمي، بهية مارديني، جميل مفرح، زهرة يسري، ياسين عدنان، عزمي عبدالوهاب، علوان مهدي الجيلاني، سعاد الكواري، وإسحاق الهلالي... أسماء لا تعوِّضُ أخرى أساسيةً غابت. لكنها بالتأكيد أجادت تمثيل التجربة التسعينية بألقها وعنفوانها، ومآزقها أيضاً. وعلى رغم أن الشعراء جاؤوا من جغرافيات مختلفة، إذ حرصت اللجنة التحضيرية للملتقى التي ترأسها الشاعر محمد حسين هيثم على ضمان تمثيل كل البلدان العربية، إلا أنّهم كانوا يتحركون جميعاً في مدار واحد، مدار قصيدة جديدة "أحست" للمرة الأولى في صنعاء أنّ هناك نية حقيقية لإنصافها والاعتراف بها. اعترافٌ حرّض عليه وزير الثقافة والسياحة اليمني خالد الرويشان في كلمة الافتتاح حينما نبَّه إلى أن هذه "الأصوات المغمورة المطمورة ستغمر عالمنا بأشواق المغامرة وجدة التجربة وروعة البداية" ثم خاطب الشعراء قائلاً: "فيا أيها المغمورون اغمرونا بسلاف غنائكم، وحنين نأيكم، ولوعة وجدكم، وهديل غربتكم". وفعلاً تواصل هديل الغربة التسعينية على امتداد سبع جلسات احتضنت معظمها قاعة "المركز الثقافي" في صنعاء وتجاورت خلالها تجارب متفاوتة القيمة وحساسيات مختلفة، لكنها كانت جميعاً في صلب القلق الشعري التسعيني. والطريف أن القراءات كانت تُستأنف في الفندق بعد العشاء مباشرة لتتواصل حتى الصباح مما يعكس إصرار الشعراء على أن يذهبوا بالتواصل في ما بينهم إلى أقصاه. ومع أن الشعراء المشاركين يلتقون للمرة الأولى في صنعاء، إلا أن معظمهم يتعارفون إلكترونياً وسبق لهم أن شكلوا نوعاً من الصداقة الافتراضية على الإنترنت، كما أن معظمهم مرتبطون بشكل أو بآخر بموقع "جهة الشعر". وهذا ما أعطى لحضور قاسم حداد ضيف شرف نكهةً استثنائية، خصوصاً أن قاسم كان نشر لعدد كبير من الأسماء المشاركة في موقعه وأعلن عن موهبتها مبكراً. وإضافة إلى قاسم حداد، حضر الشاعر المصري حلمي سالم باعتباره أحد أقرب شعراء جيله إلى المزاج التسعيني في جنونه وتجريبيته. وبقدر ما كان الشعراء حريصين على متابعة كل القراءات الشعرية، بدوا متبرمين نوعاً ما من النقد، وهو ما استشعره محمد عبدالمطلب الذي نبه النقاد المتدخلين في الجلسة الأولى التي ترأسها إلى أنهم مجرد ضيوف على الشعراء وعليهم بالتالي ألا يطيلوا. ومع ذلك عرفت هذه الجلسة التي ساءلت "الأنماط الشعرية السائدة في شعر التسعينات" لحظات حوار قوية بين المشاركين. فحاتم الصكر اختلف مع صلاح فضل الذي يرى أنّ لا بد من ثلاثة عقود على الأقل ليتبلور جيل من الأجيال. وأكد الصكر أن هذا التحديد لا يتناسب مع الوتيرة المتسارعة للقصيدة والعالم. أما الناقد السعودي محمد العباس فتحدث عن عطالة الذائقة العابرة للأجيال واعترض على الخطاب الأبوي والملاحظات الأخلاقية التي يكيلها النقاد الكبار للشعراء الشباب، وهو ما أكد عليه الشعراء أنفسهم في بيانهم الختامي حينما طالبوا بأن "يكون الجهد النقدي المشارك في الملتقى موازياً لهذا الحراك الشعري الجديد وأكثر إطلاعاً على تجاربه". البيان الذي رفع في الأمسية الختامية أكد أيضاً ضرورة المحافظة على الملتقى باعتباره مكسباً ثقافياً متميزاً وتكريسهِ ليصير تقليداً سنوياً. طالب بتوسيع اللجنة التحضيرية وإعطائها بعداً عربياً، على أن يتم في الدورات المقبلة تغيير اسم التظاهرة من "ملتقى صنعاء للشعراء الشباب العرب" إلى "ملتقى صنعاء للشعر العربي الجديد". ووجّه البيان أيضاً تحية خاصة "للشاعر العربي الكبير عبدالعزيز المقالح على مسيرته الشعرية المتميزة ودعمه المتواصل للحراك الشعري الجديد في اليمن والعالم العربي". ولم يقف الأمر عند حدود التحية، بل أصر الشعراء على أن ترافق لجنةٌ منهم وزيرَ الثقافة خالد الرويشان إلى المنصة لحظة تكريم المقالح لتسلمه درع الملتقى. ورد المقالح التحية بأحسن منها داعماً بقوة توصيات البيان الختامي للشعراء الشباب مؤكداً على منصة التكريم اقتناعه بأهمية بل وضرورة تكريس هذا الملتقى ليصير تقليداً سنوياً. كانت احتفاليات "صنعاء عاصمة للثقافة العربية" مناسبة ممتازة أتاحت للشعر العربي الجديد فرصة أن يُسائل منجزه ويحتفي بنخبة من أصواته. وطبعاً ستتخلى هذه المدينة الساحرة عن ريادتها بعد أشهر فقط لعاصمة عربية أخرى، لكن الشعراء الجدد سيكونون سعداء وهم يرون المناسبة/ الذريعة تمر فيما دورات ملتقاهم تتواصل بقوة وثبات، وحميمية أيضاً.