كتابان عن المرأة، من السعودية زينب حفني والمصرية سهير المصادفة. ينتمي "لم أعد أبكي" لحفني الصادر عن دار الساقي، بيروت، الى أدب تحرير المرأة الذي يبلغ أقصاه بطرحه التحرّر الجسدي في مجتمع عربي شديد المحافظة لم تنل النساء فيه حقوقاً باتت تقليدية، اجتماعية، وسياسية. لماذا يمارس الرجل حرّيته الجسدية كما يأكل ويشرب في حين تحكم حرّية المرأة المماثلة عليها بالخزي طوال حياتها؟ الطرح جريء، فبطلة "لم أعد أبكي" لا تتعرّض للاغتصاب بل تتجاوب مع "الشبق المتوحش" وهي في الثالثة عشرة وتدفع الثمن في ما بعد. ليست ضحية، ولا تندم أو تلجأ الى الخداع لتغطي فعلتها، وكان يمكن ان تنجو بنفسها لو فعلت. مثاليتها تستهدف الرجل المثقف شريكاً في التغيير، لكن هذا يجد مخرجاً في الاعتراف بازدواجيته ويتذرع بقيود التربية. طلال يقبلها شريكة فراش لا زوجة لأنه "رجل مكبّل بموروثاتي و كل رجل يريد ان يتحكم بمصير المرأة التي يرغب فيها من منطلق أنها جزء لا يتجزأ من ممتلكاته ... منذ اللحظة التي تخرج فيها من رحم أمها الى لحظة وفاتها" في الصفحتين 147 و149. طلال الشاعر الذي درس في أوروبا طلب فتاة إسبانية غير عذراء للزواج لكن "الرجل الشرقي" فيه لم يقبل الوضع نفسه في فتاة عربية. بهره جمال غادة الأخاذ وأنوثتها المتفجرة وعمق ثقافتها واتساع أفقها وحضورها الطاغي، ص 148، لكنها جرحت رجولته مع معرفته ان من "المستحيل ان يلتقي رجل بامرأة مثلك" ص150. زيف المثقف وجبنه يبلغان الذروة عندما يحثها على الصمود وحدها: "كوني شجاعة وابدأي العمل على التغيير، وتأكدي من ان التغيير سيتحقق حتى لو لم يتم في عهدك". المعركة معركتها وحدها اذاً أما هو فالأسهل عليه قول: "باي باي" لأنه راحل فعلاً الى أميركا. يتجاوز الظلم غادة الى معظم نساء الرواية الضيقة الحيّز المحصورة بمقولة واحدة. والدتها عجزت عن الانجاب بعدها فخنقت زوجها بغيرتها وخوفها حتى طلقها وهي لا تزال شابة. صديقتها نشوى تزوجت رجلاً في عمر والدها وأنقذتها وفاته المفاجئة منه، لكن الشاب الذي أحبته وتزوجته سرق أموالها وتزوج عليها فاستدرجتها صديقة الى الدعارة. رئيستها في القسم النسائي في الصحيفة استقالت لبقاء القرارات المتعلقة بها في يد رئيس التحرير ونائبه. وتمرّ حفني على الممنوعات الاخرى في مجتمع تفتح نساؤه أعينهن ويبقى هو متخلفاً عنهن. تُزال كتب من مكتبة المدرسة خشية تأثيرها السلبي في الطالبات، وتحتاج غادة الى موافقة والدها قبل العمل صحافية. لا تستطيع حفني في الحالين مقاومة اغراء الخطابة. "ان حجب تراثنا عن الاجيال الصاعدة سيجعلها تفقد الصلة بموروثات اجدادها الذين بنوا هذه الحضارة العظيمة" ص 42 و: "لماذا تظل تطلعات المرأة معلقة بجرة قلم من الآباء والأزواج" ص 51. السرد في "لم أعد أبكي" تقليدي، واللغة مدرسية عادية تتبع الحدث وتسجله من دون محاولة واحدة للارتفاع بها. تقول حفني مثلاً ان باريس "منهل العلم ومنبر المعرفة" في ص 69، وأن "العلاقة التي تظل في أهداب المجهول لا بد من ان تسقط في بئر القطيعة" ص 109، و"أنت حلم معلق على باب قلبي مثل المصباح الذي نعلقه في سقف حجرتنا لكي ينير ظلمتها" ص 113. لكن طرحها أهم ما في روايتها. بعد شعور بطلتها بالاحباط واليأس ترفض سريعاً فقدان السيطرة على حياتها وتعد نفسها بألا تبكي. تريد ان تحيا بأمل الغد، وقد يكون جرس الهاتف الذي يرن بإلحاح في آخر الرواية يحمل وعداً به. *** أين هي الحياة الحقيقية بتفاصيل كل يوم في رواية سهير المصادفة "لهو الأبالسة" الصادرة عن دار ميريت، القاهرة؟ الغنائية طاغية في هذا العمل، فالشخصيات لا تفكر بها فقط بل تتحدث أيضاً. تستوحي المصادفة قصصاً وأغاني شعبية، مصرية وروسية، ويتصدر الشعر ايحاءاتها، فتتصنع لغتها وتنفصل عن الحدث وتغرقه، وتزيد اأضعافاً على الحاجة في هذا العمل الذي يطاول فيضانه 373 صفحة. وكأن كل ذلك لا يكفي، فتضيف المصادفة الى خليطها "الروائي" السحر والواقعية السحرية والمونولوغات التي تتسع بالحيز الداخلي اكثر مما يجب وتثير الملل. وكان الاحرى ان تستخدم قدرتها الواضحة وانسياب الايقاع وخيالها الواسع في تمتين علاقة الرواية بالحياة والقارئ معاً. ترغب سهير المصادفة في خلق حكاية شعبية اسطورية اخرى في "لهو الأبالسة"، فتحكي الحب المستحيل بين زوج وزوجته الخرافية الجمال. لا نفهم بالضبط ما الذي يقف بينهما لأنهما يبدوان عاجزين بفعل شخصي عن اللقاء حتى وهما في الفراش. فهي اسطورية الجمال كأمها التي اعتقد البعض انها جنية مسحورة تعجز وتتشوه اذا انكسرت مرآتها، والتي بدت بقعة بيضاء في الصور الفوتوغرافية! تعب زوجها من غيرته عليها فتركها، وورثت ابنتها مهى سوء التفاهم الدائم مع زوجها الثري النافذ الذي كان شيوعياً. تعيش مع شقيقتها في حي فقير صاخب تنقطع عنه الكهرباء ولا تعود وتسري فيه مياه المجارير، بدلاً من ان تغني تفاصيل الحي الرواية باحداثها تحلّق المصادفة بنصها غالباً المشغول المرهق وتركّز على قصة حب معذب لتقول ان لا لقاء ممكناً بين الرجل والمرأة وإن كانا زوجين. تهجس الكاتبة بالنساء المظلومات وتعتبر نفسها منهن. الى والدتها، هناك شقيقتها التي طلقها زوجها فور اكتشافه انها ليست عذراء ليلة الزواج. الشقيقة تجهل ماذا حدث لها وتعتقد ان والدتها أخفت عنها السر. زوج مهى لا يعيش معها بل يزورها من حين الى آخر، وهو صارحها منذ زواجها السريع انه سيتزوج كلما رغب في ذلك ولكنه لن يحب غيرها. امرأة تقتل زوجها وتقطعه مئة قطعة لأنها شعرت انه سيتزوج اخرى. ماريان مدرّسة الانكليزية تتعرض لاغتصاب جماعي لأنها تتكبر على أهل الحي. تشكو مهى لاحمد: لماذا لم نخلق عاديين؟ فيشترك القارئ في الشكوى اذا كان عليه ان يتابع القراءة. ترسم وتكتب وتغطي المرايا بأوراق الصحف لئلا ترى صورتها فيها، وشقيقتها تراها في مرضها "خط نور تحت الملاءة البيضاء ولونها شاحب مثل الهالات التي تحيط بوجوه القديسين ص 672. أحمد يعلي مهى ويحقرها في آن، فهو يسأل: "أمن الجائز ان تتورط جذوري في أرض طائرة هكذا؟" ويريدها ان تحلق وتحط دائماً تحت قدميه، ص 13 و14. مهى لا تهتم الا بالبحث عن مجهول، ولا يهمها ان تتزوج او تذهب الى الجحيم، يقول للشقيقة المسكينة التي تتحمل شكاوى الاثنين الهستيرية. هل عليه ان يشقها بسكين ليرى ما في داخلها ويموت في اللحظة نفسها؟ لا أتذكر ردها لكنني كنتُ شققت نفسي بالسكين ربما لأتخلص من الاثنين لو كنت مكانها. "اللهم عذّبها حتى تلجأ لي" يقول عن زوجته المريضة النازفة على الدوام في حملها ص 87 .وفي الصفحة 165: "تدعي ان بي ظمأ الى الترحال وهي تلفظني من فمها كقصيدة رديئة". الرواية مباراة بين الرجل والمرأة في التحدث بلغة مصطنعة لا يعرف حتى المسرح مثلها. مهى تقول لأختها: "يأتيني كل مرة لأذوب امام قرابينه الخرافية، يذبحها لي منتظراً ان تلتصق روحي بأهدابه أو تروح وردة يعلقها على رابطة عنقه ص 51. وتقول لزوجها: "وقرب فمك برائحة ليالي مدينة مضيئة، ولكن هذا الحصان الجامح سيمر بنا معربداً على الكثير من اوراق الورد قبل ان نصل ص 75. من يتحدث هكذا حتى في الروايات، وهل تفسر شيئاً عندما تقول ان الحب محنة للمحب والمحبوب؟ لا تنتقص بساطة اللغة من قيمة العمل الأدبي، والأدب لا يعني اللغة المشغولة التي لا تزال تعقّد كثيراً من كتابنا. في الصفحة 9 تصف المصادفة الشوارع ب"المزمومة الشفتين". في الصفجة 10 تقول ان "البيوت مستاءة لعجزها عن هش الذباب الاخضر عن وجهها". في الصفحة 11: "أزاحت احساساً قوي الرائحة يحدثها بأنها ستعيش في هذا البيت". الصفحة 14: "الظلام طفل بعينين ماكرتين تغمزان بخلاعة". الصفحة 17: "امرأة تشبه السمكة مما يجعل من الصعب تحديد عمرها". وفي الصفحة 137 خطاب من 15 سطراً رداً على سؤال عن عنوان البيت.