تموّه اللغة الحدث والحال ولا تكشفهما في "المحبوبات"، رواية عالية ممدوح الجديدة الصادرة عن دار الساقي. الكاتبة العراقية تحب اللغة وتعمل عليها طويلاً، الا انها تذهب أبعد مما يجب في أبسط المواقف أحياناً فتضيع. "المحبوبات" مونولوغ انشائي أطول مما يجب 285 صفحة عن علاقة أم عصابية بابنها تعطي ممدوح البطولة فيها للغة فتتأثر المواقف والحالات تبعاً لذلك. اللغة وسيلة في الأدب الأجنبي لكنها لا تزال تسطع في أدبنا الذي كانت الأولوية فيه للشعر المتسامح مع غياب التحديد. لا تقدم "المحبوبات" الشخصيات بوضوح، وعلى القارئ التقاط الاشارات المبعثرة لفهمها على رغم أن الضوء مسلّط عليها أساساً. كتبت الرواية قبل الحرب الأخيرة على العراق، لكن السياسة ليست محوراً. يبرز اضطهاد الرجل العربي وضياع عمر النساء حتى إن اتيحت لهن فرصة العيش في الغرب. ويبقى بحثهن عن الحب غير مشروع لحصرهن في الأدوار المرتبطة بغيرهن. المرأة ابنة وزوجة وأم، ولا تبرر خيبتها ازاء صورها الجاهزة سعيها الى حقها في الحب فاعلاً ومتلقياً. تختار الكاتبة زوجاً عسكرياً لسهيلة لتؤكد خشونة الرجال ووحشيتهم. لكن هذا يلتقي مع ازواج صديقاتها وغيرهم من المدنيين في قسوة التصرف بالنساء. يشعر الرجال بلذة طاغية ازاء خوف النساء من عنفهم، وتضطر هؤلاء ازاء قبول المجتمع سيادة الرجل بكل الطرق الى التواطؤ والتكيف معه بعكسه. يصبح ضرب الأزواج مادة للتندر والضحك والانكار، وإذ تتبادل الزوجات آخر تطوراته "نتضاحك وتعود الصور لتبهرنا أكثر". تتبنى هؤلاء نظرة المجتمع لئلا يتحدين السائد فيرين العنف ضدهن "مجرد نشاط زائد عن حده ... خطأ وليس خطيئة ولا حتى فضيحة اجتماعية" الصفحة 9. الفضيحة ليست سلوك الزوج بل رفض الزوجة له وكشفه، لذا تبرهن سهيلة انها زوجة مثالية، فترفض ان يطلب زوجها عربة الاسعاف عندما يغمى عليها من شدة الضرب. تتحدث عن الرفسات والضرب بالهراوات العسكرية والمسدس، وترسم صورة كاريكاتورية عندما تذكر أن زوجها، الضابط الرياضي الشجاع، وضع رسائلها في مشط المسدس خلال خطوبتهما فضمّخها برائحة البارود. يعد بالحرب في أكثر المراحل عشقاً ورومنطيقية افتراضاً وتلاحظ هي الاشارة وتتجاهلها. يختفي فجأة وتجهل مصيره فتهاجر الى فرنسا حيث تنشط في جمعيات لمساعدة أطفال العراق والبحث عن أسراه. لكننا لا نتبيّن ما إذا كان مسعاها يهدف الى استعادة الماضي أو الخلاص منه، وما إذا انحصر هدفه برسالة سياسية تؤكد وضعها كضحية مزدوجة للنظام الاجتماعي والسياسي. تواجه سهيلة ثلاثة أجيال من الرجال ولا تجد الحل في أحدها. والدها هجر والدتها ليتزوج ممثلة شابة، زوجها الرياضي تمرّن بها، وابنها تركها تقف في الصف لتحصل على وجبة طعام مجانية من بلدية باريس. هي في العراق "مبعثرة بين السيد الوالد والسيد العسكري" ص 261، وفي الاغتراب تتهم ابنها بالمكر والبرود. علينا الاستنتاج ان نادر، الابن، أهمل أمه وتفرّغ لعمله مهندساً الكترونياً في كندا وأسرته الصغيرة المكونة من زوجة هندية - فارسية - عربية وطفل صغير. لكن شهادة الأم الباردة الساخرة ملتبسة، فهو أناني ماكر ناءٍ أحياناً لكنه أيضاً أفضل منها أحياناً أخرى. "اللعنة عليك، كيف حصل ان كنت أحسن منا؟" الصفحة 30، ذلك لا يمنع قريبين لها من أن يكونا ربما أفضل منه، ص 43، ولا يمنع جهله أين يضع قدمه الثانية، ص 55. نادر يشترك مع أمه في اطلاق أحكام متناقضة مطلقة لا تتعلق بحدث محدد يثير احساساً معيناً بل بمراوحة النص بين رغبة في النثر وأخرى في الشعر. يقول انه مخاتل يرشو أمه لكي ترضى عنه، ص 55، وانها أم رائعة تجعله يبدو أحياناً كالشحاذ!، ص 115. يشعر بالذنب لوقوعها في غيبوبة ويقول: "أنا الابن القبيح والقاسي والأناني". ثم يضيف: "صرت المتسول الذي ينتظر عيدية واهبة غريبة اسمها أمي". ص 151. يشتري لها الورد وكل ما تحبه لكنها تبتزه: "أنا خادمتك، عيني، وأنت أناني" فيرتد عليها: "أنت بلا قلب ... حاولت الاقتراب منك، لكنك لم تسهّلي الأمر علي" ص 156. هل جعلها عنف زوجها طاغية تسقط القسوة على ابنها وتريد ثمناً لأمومتها والاقتصاص من الزوج بالولد، أم انها أرادت الاستئثار بابنها بديلاً عن كل من خيّبها؟ لاحظ نادر ان صوره الكثيرة في غرفتها الباريسية لا تشمل صوراً لزواجه أو زوجته أو ابنه. في الصفحة 254 تذكر سهيلة ان سلطة زوجته عليه كانت ك"الغول"، وفي الصفحة 255 تذكر صديقة لها انها تبدو عازمة على الانفصال عن ابنها. لا شيء غير عادي حتى الآن، لكن نادر يروي في الصفحة 73 كيف كانت أمه تباغته بقبلات عدة على باطن يده: "لا تزال تراني شخصاً في منتصف الطريق بين الابن والزوج". ترفض سهيلة كل ما يذكرها ان ابنها الوحيد ليس لها، وتحب ليال، حبيبته الأولى، لأنها ببساطة لم تتزوجه. علاقته بليال اللبنانية غامضة، ضائعة في العموميات ومتاهة اللغة. تقول في الصفحة 23: "تبدو طيباً ساذجاً لكنني أفضلك تائهاً بين البشر غريباً لا تشبه نفسك". تريده ان يبتعد كلما اقتربت منه "فأدوخ وراءك وأتعب" لكنه فقدها ربما لأنه عبدها ولم يكن صعب المنال كما أرادته. مرة أخرى، هذا استنتاج لا تدعمه غير الجملة المذكورة. عالية ممدوح تريد ليال بوهيمية متحررة، لكنها لا تعنى برسمها كما هي الحال مع غيرها. في تفسيرها لهجرانه تقول ان أحدهما لا يصلح للآخر من دون ايضاح، ص 200، وان الحرب في لبنان بينهما: "نحن نعيش بين الأموات أكثر مما نعيش بين الأحياء" ص 201. تخبر سهيلة ان من المستحيل ان تحب أحداً كما أحبت نادراً، وانها تركته لأن "الحب لم يكن على رأس القائمة. كنت سأورطه وأورط نفسي" ص 222. وكل ذلك لا يوضح هجرها له بل يزيد القارئ حيرة. نادر نفسه نقيض والده، ورجولته تشكلت وفق صورة الرجل الجديد بعد حركة حقوق النساء وتحررهن. يتماهى مع الأم لا الأب عندما يتمنى: "لو كنت أملك رحماً وأستطيع الولادة" ص 197، ويزعج والدته بتوليه الطبخ والتنظيف والاهتمام بطفله: "ولو كان لي حليب لأرضعته أيضاً" ص 28. ترى والدته فيه "شيئاً من الأنوثة الرحيمة" وتقول له: "أنتَ والدة لطيفة أفضل مني". يزيد مرض سهيلة سيطرتها على ابنها، فهو يتطهّر من مكره المزعوم ببكائه وندمه وخوفه من خسارتها. تعزو طبيبتها مرضها الى العزلة والاحباط وانعدام الدخل الثابت وغياب الشريك، وربما استطعنا اضافة الحب اليائس. تذكر "الشقاءات التي لا ترى بالعين المجردة كانتظار ضمة من رجل... حتى لو مت بعد تلك الضمة لا يهم" ص 19 و20. تقول ان الدقائق السبع التي راقصت فيها فاو تعادل حياتها، ص 237. وفي مقطع تجرفه الخطابة في 232 تقول انها تحب ان تحِب وتحَب. سهيلة ظالمة ومظلومة، وإذا كانت صديقاتها يوافقن ابنها على انها المشكلة، ص 271، فإن ذلك لا يمنعهن من غمرها بكرم عاطفي ومادي تقابله أحياناً بوقاحة وفظاظة غريبتين. تهديها كارولين ستائر جميلة لغرفتها لكنها تطالبها بالطعام بدلاً منها، ص 117. تمتد الفظاظة الى والدة سهيلة التي ترى ابنتها بلهاء ورعناء، ص 43، وصديقتها فريال التي تقتحم مونولوغ نادر وأمه بلا تفسير بين الصفحتين 43 و47 فتتهمها بالغرور والبله وتطالبها بالموت وتلعنها: "اللواتي في سنك قضين بطريقة من الطرق فحصلنا على منفعة كبيرة"! تلفتنا أخطاء لغوية مثل: فتنضمي، لو كان لي حليباً، انا امتلأ، أينما أتحرك ينتشِ مزاجي... في الصفحات 20 و28 و137 و235. وفي مقابل اللغة الألقة في عبارات مثل "خوف يشبه الأسيد" ص 13 تواجهنا لغة مشغولة في عبارات كثيرة. في الصفحة 24 تقول الكاتبة عن ليال: "كفت عن الاشتعال ... صارت ليلة واحدة بعد أن أخذت بيروتوباريس منها ومني كل الليالي" ص 24. وفي الصفحة 30: "كل ما تلمسه يتحول الى أبوة. سكين المطبخ وحجر الطريق". في الصفحة 55: "نظرات هؤلاء كالروتين تنهش لحمي". في الصفحة 69: "اللاشيء له فتنة لا تدرك". في الصفحة 72: "لم أتناول والدك بالشوكة والسكين أو لقمة لقمة، بل أخذته بكامله كما تفعل الثعابين". في الصفحة 238: "ولد طفل واقعي جداً بين يدي". وتخضع الكاتبة كغيرها من المهاجرين لتأثير لغة المهجر في صوغ النص، على أن التأثير يتعدى الشكل أحياناً الى الانفعالات التي يعبّر نادر عنها تعبيراً "غربياً" مباشراً.