في كتابه "المجتمع والدولة في المشرق العربي" يكتب غسان سلامة في معرض حديثه عن السياق القبلي الذي يحكم النسق السياسي عند القادة الاكراد، ان "الروح القبلية قوية للغاية بين الاكراد، ومن الصعب حتى اليوم على اي كردي ان يلعب دوراً سياسياً بارزاً، ان لم يكن في اصوله من شيوخ القبائل. فمحمود البارنزجي والملا مصطفى البارزاني وجلال الطالباني وعز الدين الحسيني، على تنوع اهوائهم السياسية، كلهم من عائلات شيوخ القبائل/ الآغوات". وهذا ما يؤكده جوناثان راندل في كتابه "امة في شقاق" والذي يعد واحداً من اهم الكتب في حماسه للأكراد وقضيتهم وأكثرها شمولية في معالجته للمسألة الكردية اذ يقول: "إن الصراعات القبلية في كردستان قوية الى درجة انه في حال انضمام زعيم احدى القبائل الى الحركة القومية، فإن زعيم القبيلة المنافسة قد يقف على الحياد، او قد يأخذ اموالاً وأسلحة من الحكومة للقتال الى جانب قواتها. ولم تقتصر الصراعات على القبائل، بل شملت ايضاً العشائر"، لا بل ان راندل في تدليله على الروح القبلية التي تحكم النسق السياسي والحياة السياسية للأكراد يذهب الى ابعد من ذلك، فهو يذكر في معرض حديثه عن الملا مصطفى البارزاني ونظراته الثاقبة التي تفرض هيبته على الآخرين، ان البارزاني ترك انطباعاً لدى القوميين الاكراد احياناً، - وهو انطباع مقلق كما يصفه راندل - بأن الانتماء الى عشيرة البارزاني، يتقدم عنده على الهوية الكردية. وهذا ما يفسر لاحقاً سعي بعض الاحزاب الكردية في سورية للانشقاق والدعوة الى القطيعة مع هذا الولاء المزدوج الذي لا يستقيم مع الحداثة السياسية التي تصبو اليها بعض هذه الاحزاب. ويستنتج مما سبق ان القبيلة هي واحدة من اهم محددات العقل السياسي الكردي، وبذلك يمكن القول ان العقل السياسي الكردي يعكس على مرآته السياسية صورة دقيقة بحكم المجاورة والولاء والعقيدة للعقل السياسي العربي، في صورة اخرى، نجد ان العقل السياسي الكردي يستعير معظم بواعث التعبير عن طموحاته السياسية من العقل السياسي العربي الذي هو في النهاية عقل القبيلة والغنيمة والعقيدة كما بيّن ذلك المفكر المغاربي محمد عابد الجابري. والذات الكردية الجريحة كغيرها من الذوات الاخرى المجروحة في الشرق الاوسط لم تنجز أبحاثاً في مجال العقل السياسي الكردي ولا في مجال القبيلة الكردية، وترك المجال نهباً للانطباعات النفسانية التي يحلو لها الحديث في غالبية الاحيان عن خصائص اسطورية كالشجاعة تنفرد بها الشخصية الكردية عن غيرها، وهذا ما يقع فيه غالبية الباحثين في تاريخ كردستان، مع ان هذا التاريخ كما يقول راندل "حافل بالخيانات والغدر". والمفارقة ان الدراسات الاولى عن العشائر العراقية والتي هي ريادية بكل معنى الكلمة، مع انها لم تتجاوز حدود الوصف، هي الدراسة التي قام بها المحامي العراقي عباس العزاوي عن عشائر العراق والتي انطوت على اربع مجلدات خص واحداً منها بالعشائر الكردية في شمال العراق، وهي دراسة تعود الى اواسط القرن المنصرم، وما تزال تعد واحدة من اهم المراجع في تاريخ القبائل العراقية. وفي موازاة عمل العزاوي الضخم، كان احمد وصفي زكريا كهاوٍ انجز دراسته عن "عشائر بلاد الشام" في جزءين، وخصَّ العشائر الكردية بما يقارب ال20 صفحة من مجلده الضخم، ومع ذلك كان ريادياً في بحثه، وشفع له مع انه لم يكن انتروبولوجيا، معرفته الخابرة بالزعماء الاكراد وتوزع قبائلهم على طول الحدود السورية - التركية، كذلك مثابرته الموضوعية على ضم الاكراد الى عشائر بلاد الشام وعدم اسقاطهم من الحسبان كما فعلت الراديكاليات الثوروية التي حكمت البلاد وتجاهلت مطالب الاكراد وثقافتهم وكذلك مطالب البلاد والعباد عامة. ويتوزع الاكراد في عشائر وقبائل تمتد على طول الحدود السورية - التركية بدءاً من منطقة المالكية على الحدود السورية - العراقية - التركية وصولاً الى شمال حلب حيث منطقة عفرين الحدودية. ويخضع عدد الاكراد امام غياب احصاء دقيق لعددهم الى مبالغتين: فالخطاب السياسي الكردي الذي يستبطن كثيراً من المبالغة يصل بعددهم الى مليونين وهو رقم مبالغ فيه، والثاني هو تقديرات الدولة وهي تقديرات غير رسمية، تسعى الى خفض عددهم الى ما يقارب نصف مليون. وفي هذا السياق يسعى بعض التقديرات التي يسوقها بعض الخبراء من خارج المنطقة الى تقديم تقديرات موضوعية في هذا المجال، ففي كتابه "المجتمع والدولة في المشرق العربي" يقدر غسان سلامة عددهم بما يقارب 750 ألفاً بحيث يشكلون ثمانية في المئة من عدد السكان البالغ عشرة ملايين، وذلك اعتماداً على دراسة ديفيد ماكدول عن الاكراد الصادرة في لندن عام 1985. ويذهب راندل الى القول "ان ادد اكراد سورية لا يتجاوز حدود المليون نسمة" يشكلون بحسب راندل تسعة في المئة من الشعب السوري. ويتوزع الاكراد على وحدات عشيرية صغيرة وأخرى قبلية كبيرة الحجم، وتمتد هذه الوحدات على طول الحدود السورية - التركية، وتبدو هذه الوحدات في احلى صورها في منطقة الجزيرة السورية، وذلك مع انقطاعات تغطيها بعض القبائل العربية كقبيلة طيء التي تمتد من الحدود التركية، وبالضبط من مدينة نصيبين التركية التاريخية وحتى جبن سنجار داخل الحدود العراقية، وتغطيها بعض المدن التي باتت بمثابة فواصل وحواضر مدينية تقطع مع النزعة القبلية كمدينة القامشلي ومدن عامودا والدرباسية ورأس العين، ويمكن القول خصوصاً في ما يتعلق بالمدن الثلاثة الأخيرة انها "تكرّدت" إن جاز التعبير، بعد هجرة سكانها الأصليين من مسيحيين وأرمن وفئات مدينية نزحت من ماردين وديار بكر اثر ضمهما الى تركيا بعدما كانتا حتى عام 1925 ضمن الخطوط الحدودية لدولة فيصل الأول في اطار اتفاق سايكس - بيكو. ويتوزع الكرد على مجموعة من العشائر والقبائل القبيلة تجمع اكثر من عشيرة وهذه العشائر من الشرق على الحدود التركية - العراقية الى الغرب هي: اولاً: الكوجر الميران وهم بدو رحالة استقروا في العقود الأخيرة من القرن المنصرم، ويمتدون على طول منطقة المالكية ديريك سابقاً الغنية بآبار النفط. ولعب زعماء هذه القبيلة دوراً كبيراً في الحفاظ على وحدة قبيلتهم السياسية انطلاقاً من ان القبيلة وحدة سياسية، فتحالفوا مع بعض القبائل العربية كقبيلة طيء وخاضوا معارك شرسة ضد بعضها الآخر كقبيلة شمر. ثانياً: الآليان، وهم أكراد نصف بدو كما يصفهم احمد وصفي زكريا، يمتدون بين نهر الجراح والسفوح الغربية من جبل قراجوف الغني بالنفط. ثالثاً: شيتية ويلفظها الأكراد آشيتية ويقيمون في سهل خصيبا شرق مدينة القامشلي وأشهر قراهم البوير والسيحة والخزنة وسحيل. رابعاً: هاوركية، وهم خليط من اكراد ويزيدية وسريان، جمعتهم القبضة الحديد لرئيسهم حاجو آغا، وهو من اهم الشخصيات الكردية - السورية عرف بشخصيته الكاريزمية وبقدرته على المناورة السياسية بين الفرنسيين والأتراك، وذاع صيته حتى بات مضرباً في المثل بين العرب والأكراد معاً. خامساً: الكيكية وهي عشيرة كبيرة تمتد من الدرباسية على الحدود التركية الى مشارف مدينة الحسكة، وهي على علاقات وثيقة مع العشائر العربية. سادساً: الملّية وتمتد من غرب عامودا في اتجاه القامشلي. ويذكر مؤرخ عشائر الشام ان لهذه القبيلة دوراً وطنياً في مقارعة الاستعمار الفرنسي، ولعب بعض قادتها ممن كانوا في البرلمان السوري آنذاك دوراً كبيراً في الحياة الوطنية السورية. سابعاً: الكابارة وهي عشيرة كردية تقطن في ناحية عامودة. ثامناً: الدقّورية، وهي من العشائر التي تذكر بتاريخها الوطني. ويذكر المؤرخ شاكر مصطفى ان هذه العشائر ليست كردية، بل تكرّدت بفعل الزمن وأنها تعود في اصولها الى شعوب القوقاز الجبلية. تاسعاً: الميرسينية وهي عشيرة كبيرة، تمتد شرق عامودة وجنوب مدينة القامشلي، وهي موضع تندر بين الأكراد. عاشراً: الأومرية وهي اولى العشائر التي سكنت في اطراف مدن الجزيرة ثم اندمجت بها، وهي خليط غير متجانس كما يتهمها الأكراد الأقحاح، وتضم اعراقاً مختلفة وأناساً هجروا دينهم أرمن وسريان بعد المذابح التي جرت في تركيا مطلع القرن الماضي مذبحة سفر برلك والتحقوا بعشيرة الأومرية وأصبحوا منها وهذه هي احدى خاصيات العشيرة من حيث هي وحدة سياسية. حادي عشر: الملّي، وهي اكبر القبائل الكردية وكانت تمتد من مدينة ديار بكر التاريخية حتى داخل الأراضي السورية في منطقة رأس العين. وتأتي ضخامة هذه القبيلة من مصدرين: بنيتها القبلية القائمة على الانفتاح على الآخر، ولذلك يقال انها تضم ألف ملة او "هزار ملت" كما يقال بالكردية، والمصدر الثاني من كاريزمية قائدها ابراهيم باشا الذي كثيراً ما يطعن بأصوله الكردية، لكنه نجح في الحفاظ على وحدة قبيلته ازاء القبائل الأخرى، خصوصاً قبائل شمّر وعنزة اللتين كانتا تفرضان "الخوة" على معظم العشائر. واضافة الى القبائل المذكورة اعلاه هناك عشائر بنيار علي وحلاّني خضراني وتملية وبادينية والبرازية في منطقة عين العرب وتضم عشائر عدة، واليزيدية ويمتدون من جبل سنجار بصورة متقطعة حتى منطقة عفرين شمال حلب. ويمكن القول بدقة، انه حتى اواسط القرن المنصرم، بقي الأكراد في مجموعهم قبائل رحّل تسعى وراء الكلأ والماء، تحكمها بين بعضها بعضاً، وبينها وبين العشائر العربية، تحالفات سياسية انطلاقاً من ان بنية القبيلة هي بنية سياسية بحسب الأنتروبولوجيا السياسية، تقوم على تحالفات، يقول عنها حنا بطاطو "انها تحالفات من اجل الحرب" و"تحالفات من اجل الحماية التي تقدمها القبائل الكبرى والأشد نزوعاً نحو الغزو والحرب، نحو الصغرى، او نحو المأخوذة في الغزو"، وهذا ما كانت عليه الحال، اذ كانت بعض العشائر الكردية والعربية مثل طيء، تدفع ضريبة "الخوّة" لقبيلة شمّر التي كان لها الزعامة في الجزيرة السورية. ومن وجهة نظر بطاطو في تاريخ "العراق" ان القول ان المجتمعات البدوية، العربية منها والكردية، هي "مجتمعات من اجل الحرب"، إنما يشير الى امرين لهما دلالتهما: الأول: ضعف المدينة في مقابل البادية والريف، فالقبيلة هي "الجماعة الوحيدة المنظمة اجتماعياً"، وهذا ما يفسر، رفض البدوي العربي او الكردي السكن في المدينة العاجزة عن حمايته، خصوصاً ان سكان المدن هم من اقليات مشردة ومهجرة بفعل المذابح التي لجأ إليها الأتراك بحق الأرمن والسريان في ما عرف بمذابح "سفر برلك". الثاني: ويتمثل في ازدراء البدوي للعمل في المدينة والذي يحط من عزته وكرامته القبلية. ومع بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، بدأت طلائع من الأكراد "المساكين" كما يسميهم حنا بطاطو، الذي يشك بأصولهم الكردية، او من العشائر الكردية الضعيفة "الأومرية" بالتسلل الى المدينة، بحثاً عن فرصة للعمل او تحسين ظروف المعيشة، فبدأت تظهر على اطراف المدن احياء هامشية كردية تسكنها غالبية شعبية فقيرة تمثل سوقاً للعمالة التي تحتاجها مدن الجزيرة السورية الناشئة. ومن وجهة نظر بطاطو، ان الحال نفسه ينطبق على المدن العراقية من كركوك التي كانت مدينة تركمانية بامتياز الى مدينة آربيل. ومع تقدم الزمن، وصولاً الى الثلث الأخير من القرن المنصرم، تكرّدت بعض مدن الجزيرة مثل عامودا والدرباسية، بعدما هجرها اهلها نحو الداخل السوري او نحو الغرب، وبدا على بعض المدن مثل القامشلي التشوه العمراني جرّاء كثرة الأحياء البائسة التي تحيط بها، بحيث بدت المدينة مع نهاية القرن المنصرم وكأنها نموذج للمحاصصة الإثنية والطائفية كحال الكثير من مدننا العربية. وأمام مساعي الأكراد الحثيثة للسكن في المدينة والإفادة من مزاياها، بدأت تتشكل نخبة متعلمة وانتلجنسيا حزبية انبثعت من رحم المعاناة الكردية في شمال العراق، وراحت تتطلع الى لعب دور سياسي. * كاتب سوري.