للمرة الأولى يلوح أمام أكراد العراق حلم تحقيق كيان "فيديرالي"، ولكن على طبق "اثني". وللمرة الأولى يتأكد الأكراد أن ما ظلوا يؤمنون به طوال عقود من الزمن لم يعد يصطدم ب"استراتيجيات" المصالح، الإقليمية والدولية، وانهم لم يعودوا ضحية مثالية للجغرافيا والتاريخ معاً بسبب انتشارهم الديموغرافي في منطقة شاء لها القدر أن تكون منطقة حدودية لأربع دول متجاورة. ولكن لم يتبد للأكراد، ولا لمرة واحدة، أن التاريخ الذي تكون من دورة متكاملة في بيئة محددة لم ينشأ من فراغ، ولا ينتهي بمجرد تحقيق نتائج مركبة حتى ولو كانت باهرة كالمشروع الفيديرالي. فلا نظام حكم يعطي حقاً لجماعة ما بالانفصال بسبب وقائع تاريخية واهمة، لذلك بدت المسافة الفاصلة بين الحلم الفيديرالي "الإثني" والمستحيل بقدر ما هي شديدة الاقتراب من الواقع لاعتبارات الوضع العراقي البنيوي، إلا أنها بعيدة بعد هذا الواقع عن الحقيقة. وقد جاءت الصورة الفوتوغرافية لمستقبل شمال العراق مشوشة وقاتمة وضبابية، لتعكس بملامحها كل فواجع الحروب الكردية - الكردية، والصراع الخفي بين كل من الزعيمين الكرديين مسعود البرزاني وجلال الطالباني، وما حمله هذا الصراع من مفاجآت، أثرت وما زالت، في تحديد وتحريك مسارات المصالحة المرسومة في شمال العراق. ولم تكن التفاهمات التي شهدتها القيادات الكردية، والتي توجت باجتماع البرلمان الكردي للمرة الأولى 4-10-2002 منذ ثمانية أعوام، بعيدة عن محاولات متكررة لرأب الصدع داخل "البيت الكردي" حتى لو كان على حساب تصديع الجسم العراقي. المصالحة الملغومة أرسى "برلمان كردستان الموحد" المصالحة الملغومة بين الفصيلين الكرديين، الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، عبر المصادقة على اتفاق سلام تم توقيعه في واشنطن في 17 أيلول سبتمبر 1998. وكانت البرقية التي وجهها وزير الخارجية الأميركي كولن باول الى المجتمعين في البرلمان، إشارة لافتة من قبل الإدارة الأميركية الى أهمية توقيت هذه المصالحة. لكن البرقية لن تخفف من عمق الحاجز النفسي المثقل بعدم الثقة بين الزعيمين الكرديين، كاكا مسعود ومام جلال، خصوصاً بعدما حاول كل منهما إخضاع الآخر واعترافه بدور الزعيم - القائد للطرف الآخر. وجاء إقرار "البرلمان الكردي" مشروعي قانوني الفيديرالية ل"الاقليم الكردي" ودستور العراق الفيديرالي 8-11-2002 ليزيد من المأزق الذي يواجهه الأكراد، سواء على الصعيد الداخلي - العراقي، أو على الصعيد الإقليمي: السوري، التركي، الإيراني، لا سيما أن المشروع الفيديرالي المطروح يستند الى أسس إثنية - عرقية في شكل واضح من خلال القطع بين الأكراد وبقية الجماعات العراقية، كما أكدت صحيفة "غارديان" البريطانية، 10-7-2002، من أن المشروع الذي قدمه الحزب الديموقراطي الكردستاني، يقسم العراق الى اقليمين فيديراليين، الأول عربي يشمل مناطق وسط البلاد وجنوبها، والثاني كردي في الشمال. وأوضح مسؤول العلاقات الخارجية في الحزب المذكور هوشيار زيباري، "أنه في ضوء التركيب العرقي والديني المعقد للبلاد العراق، فإن الأكراد يعتقدون أن التوصل الى اتفاق بين العراقيين حول شكل الدولة التي يريدونها أمر حيوي"، وهو ما يتوافق مع تأكيدات مسعود البرزاني من "أن الفيديرالية حق طبيعي للشعب الكردي ولا يمكن التنازل عنه"."الإتحاد" الإماراتية - 19/8/2002. ومما يعزز هاجس التقسيم العنصري للعراق أن الطرح الفيديرالي الذي قدمه الديموقراطي الكردستاني يقوم على أساس الاستقلال شبه الكامل للمنطقة الكردية في شمال العراق مع تعيين كركوك عاصمة لهذا الاقليم. وقد شدد البرزاني في حوار مع صحيفة "الحياة" على أن الأكراد لن يساوموا على الهوية "الكردستانية" لكركوك، وأنهم سيستردون المدينة في أي لحظة يستطيعون استردادها 10-11-2002. الفيديرالية والقانون الدولي دخل العالم في عصر الألفية الثالثة مرحلة احترام حقوق الإنسان وبناء المؤسسات الدستورية والتعددية السياسية وتفعيل العدالة الديموقراطية وترسيخ أسس الفصل بين السلطات للمساهمة في بناء مقومات النظام الديموقراطي كحل أمثل للحياة الحرة المستقرة التي يحترم فيها الإنسان وحقوقه طبقاً للقانون. وفي ضوء ذلك تجب قراءة أهداف المشروع الفيديرالي كما طرح في فقه القانون الدولي الذي يشير الى أن الدول على أنواع متعددة وأن نوع الدول يتقرر بحسب ظروف وعوامل كثيرة. والاتحاد الفيديرالي أو الدولة الفيديرالية هي واحدة من أنواع هذه الدول في العالم، ومثالها في ذلك سويسرا وكندا والولايات المتحدة. وللاتحاد الفيديرالي أسباب أو مبررات كثيرة غايتها الأولى صوغ التعددية والمشاركة الفاعلة الحقيقية في الحياة السياسية في صورة ديموقراطية عادلة، بعيداً عن التفرد في الحكم واحتكار السلطات التي تنتهك القانون وتهدر حقوق الجماعات التي يتكون منها المجتمع الواحد. ذلك لأن حكم الفرد يقود دائماً الى الأخطاء والمشكلات والظلم فيما تؤدي المؤسسات في ضوء حكم الجماعة دورها في صورة أفضل وأكثر عدالة في ظل القانون والرقابة الدستورية. بعبارة أخرى يشير مشروع إنشاء الحكومة الفيديرالية الى أنه ليس تقسيماً للدولة وإنما هو نمط إداري لا مركزي وأسلوب تعددي في إدارة الدولة بما يحقق العدالة والمساواة والمشاركة الفاعلة في إدارة الدولة إقليمياً، ومن حق حكومة كل إقليم المشاركة مع سلطة المركز في إدارة الدولة. لهذا تجب الإشارة الى أن لا خوف من وجود حكومات فيديرالية في العراق شرط أن يتحدد شكلها دستوراً وقانوناً في النمط الفيديرالي كما أسلفنا، ولكن وجود هكذا حكومات يظهر الحاجة الى دعوة العراقيين الى استفتاء على نمط الحكم الذي يريدونه لعراق المستقبل ولطبيعة النظام السياسي، على أن يشترك في رسم هذا المستقبل كل الجماعات العراقية من عرب وكرد وآشوريين وكلدان وتركمان وغيرهم، وتأسيس قاعدة واسعة للمشاركة وتحقيق المساواة والعدالة والاعتراف بالآخر ليس بصفته المذهبية الإثنية، بل بصفته مواطناً عراقياً يجب احترام رغباته المشروعة وفقاً لدستور مدني دائم. فهل يقدم المشروع الفيديرالي الكردي هذه الرؤية لعراق المستقبل؟ لعل الإجابة التي يقدمها الكاتب الكردي العراقي كامران قره داغي في "الحياة" 22-8-2002 تشير الى مأزق الأكراد، وهو ينبه الى "أن الفيديرالية كما يريدها الأكراد، قد لا تشكل ضماناً أكيداً في عراق المستقبل ولعل يوغوسلافيا الاتحادية التي تأسست عام 1947 تقدم مثالاً صارخاً للفيديرالية التي تفككت في حرب دموية وصلت الى حد الإبادة الجماعية للفئات المذهبية والإثنية". لم يستقبل المشروع الكردي الفيديرالي بارتياح في بعض أوساط المعارضة العراقية التي ترى في هذا المشروع استكمالاً لشروط ومتطلبات دولة مستقلة، وتفتح الباب أمام مشاريع حكم ذاتي على أسس إثنية ومذهبية من شأنها أن تشعل شرارة حرب أهلية داخل العراق في المستقبل. وأشار الباحث الكردي في القانون كمال برزنجي بوضوح الى هذا المأزق بالقول: "لو قلصنا حل مشكلة القوميات في العراق الى حل المشكلة الكردية لارتكبنا خطأ لا يغتفر بحق القوميات الأخرى التي تعيش في بعض الأحيان داخل وعبر القوميتين العربية والكردية" "الحياة" - 15/10/2002. وقد نستشهد بما يتعرض له الآشوريون والكلدان والسريان من "تكريد" في شمال العراق، بعدما تم "تعريبهم" بالقوة في مناطق عراقية أخرى. فهكذا عراق يعاني من تباينات في الانتماءات الإثنية والمذهبية، فهل تصلح له الفيديرالية الكردية الملغومة إلا كطريق مباشر يفضي الى تقسيم ما بين النهرين على أسس عنصرية؟ وهو ما عكسته مداولات لجنة من الخبراء العراقيين في منطقة سري البريطانية رأت في المشروع عناصر سلبية قد تنعكس على السلطة الجديدة في بغداد مستقبلاً، ومنها احتمال أن يؤدي تبني المشرع الى إشعال فتيل التوتر داخل العراق بسبب مطالب الإثنيات الأخرى، وهو ما يهدد استقرار مليوني مواطن كردي وعربي خارج الأقاليم الفيديرالية التقليدية. وإذ جاء طرح اللجنة معاكساً للمشروع الكردي، فإنه يرتكز على التقسيم الجغرافي على حساب التقسيم الإثني، ويشجع على الاندماج السكاني ومشروع المواطنة بدل الاعتماد على العنصر الإثني المذهبي. إلا ان هذا الطرح يعاني أيضاً مساوئ، إذ انه يعمق "الفوارق الثقافية والفكرية" ويحول الفيديرالية الى ما يشبه مشروعاً لتقليص المركزية الإدارية فحسب بعد تقسيم العراق الى خمس مقاطعات تضم كل منها 4 - 5 ملايين مواطن، باستثناء بغداد التي ستعتبر مقاطعة فيديرالية، على أن يقسم الشمال الى مقاطعتين وكذلك الجنوب. "الحياة" - 15/10/2002. مسرح اللامعقول لم تكن الاتفاقات التي توصل اليها زعيما "المعادلة الفيديرالية" فعلية الى المستوى الذي يمكن أن يطوي صفحة الخلاف بينهما، وإنما جاءت تحت ضغط الاستجابة لمعطيات المرحلة العراقية الراهنة التي اختلطت فيها التهديدات بأوهام المشاريع. كما تأتي استجابة لضغط "الصديق" الأميركي، الذي رأى أن هذه التهديدات ستبقى صورتها غير مكتملة، إذا ما استمر الوضع الكردي المتشرذم على ما هو عليه، في ضوء القطيعة السائدة بين الحزبين المذكورين منذ ستينات القرن العشرين. لهذا لم يكن اجتماع البرلمان الكردي الموحد بحضور "أم الأكراد" دانييل ميتران أرملة الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران، وإقرار هذا البرلمان لمشروعي قانون الفيديرالية للإقليم الكردي ودستور العراق الفيديرالي، وأداء الوزراء الجدد لليمين القانونية أمام رئيس البرلمان روز نوري شاويس، إلا إخراجاً مهضوماً لمسرح اللامعقول الذي تختلط فيه الأحلام والأوهام بالشهوات المحرضة للنزاعات الفئوية التي لطالما انتظرها الأكراد استعداداً لمرحلة "جني الثمار" التي ستنشأ بعد تطبيق الفيديرالية العراقية، وموقع "الدويلة الكردية" من هذه الفيديرالية. وطبقاً لهذا الواقع، حاول الحزبان من خلال إعلامهما وتصريحات قياداتهما، إظهار أن كل ما يجري داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الحزبين، يندرج ضمن إطار الأمور الاعتيادية، التي تصب في خانة إعادة العلاقات الطبيعية بين دويلتي الأمر الواقع في شمال العراق، غير أن حقيقة الأمر بدت مختلفة جداً. فالانقسام العمودي والأفقي بين أنصار الحزبين ما زال قائماً. والخشية أن يصبح أمراً واقعاً. وما يحكى، اليوم، عن خطاب الفريقين الداعي الى الوحدة والسلام بينهما، والكف عن الاقتتال الداخلي، ليس سوى استراحة تاريخية، لم يخفف اعتذار رئيس البرلمان شاويس للأكراد على ما حدث من اقتتال بين الحزبين والدماء الكردية الزكية التي سالت جراء هذا العنف، من تداعيات هذه الاستراحة الموقتة، التي بقدر ما حققت مكسباً "أخلاقياً" للقيادات الكردية، إلا أنها لا تلبي حاجات هذه الجماعة العراقية التي تبحث عن الأمن الدائم، الذي ينبع من الانفراجات الداخلية ولا يستند الى الحلول الخارجية التي تستند اليها القيادات الكردية في انتظار ما يخطط للعراق، لذا جاء البرلمان "الموحد" ليعبر عن قلق كردي عميق ناتج من التأرجح ما بين مشروعي "الانفصال وإعلان الاستقلال" كما يدعو الطالباني، و"الفيديرالية" في إطار عراقي متعدد كما يدعو البرزاني. * كاتب سوري.