منذ وضع البرت حوراني "الاقليات في العالم العربي" 1947، وهو بالانكليزية اصلاً، لم تظهر كتب عربية جدية تعالج موضوعاً هو هاجس يومي لمنطقة فسيفسائية وضعيفة التسامح كمنطقتنا. والحال ان تصدي اسرائيليٍ نزيه للموضوع يعيد تحريك الجروح جميعاً. لكن موشي ماعوز في كتابه الصغير "الأقليات الشرق أوسطية بين الاندماج والصراع" معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، يثير مسألة اخرى لها علاقة بالبسيكولوجيا الجمعية اكثر مما بالنزاهة. فاذا صح ان النزاع العربي - الاسرائيلي لا يلخّص اطلاقا لوحة معقدة من تناقضات الشرق الاوسط، فالصحيح ايضاً انه يفوق كل واحد من تلك التناقضات اهمية، كما يملك قدرة للتأثير فيها لا تملكها هي في التأثير فيه. وهذا، لرغبة في الاندماج تتطاول فتصير رغبة في دمج المشكلات بتوحيدها، ما يغفله الكاتب الذي يسجل ان النزاعات الاثنية/ القومية والدينية/ الطائفية، تسببت في مقتل ستة اضعاف 2،1 مليون نسمة جميع من قُتلوا في الحروب العربية - الاسرائيلية 200 الف. وبالعودة الى الجذور التاريخية، يسجّل ماعوز ما طرأ، في القرن التاسع عشر، من تغيير في العلاقات بين الطوائف الدينية، نتيجة الصلة بالغرب. فقد جاءت احداث 1860 في جبل لبنانودمشق نقطة تحول لمسيحيي الشرق اذ هاجر مئات الآلاف يأساً، واكثر منهم الذين بقوا الا انهم صلّبوا عزلتهم وتماسكهم. الا انه بعد اقامة "لبنان الكبير" في 1920 بالانطلاق من تفوق اقتصادي وتعليمي ماروني مرعيّ فرنسياً، اختار معظم الموارنة العيش بسلام مع جيرانهم. لكنهم اختاروا ايضاً رجحانا مؤكدا لهم لم يأخذ في اعتباره التحولات التي طرأت لمصلحة المسلمين. هكذا اندلع العنف صغيراً في 1958، فعلى نطاق اكبر بكثير بعد 17 عاماً بالاستفادة من الوجود الفلسطيني المسلح والاعتبارات الاقليمية. ولسوء الحظ فهذا النظام التعددي الوحيد في العالم العربي، والذي بدا ان استقلال 1943 وطّده وأرساه على تسوية حقيقية، ما لبث ان انهار . وكان ما ينمو تحت سطح التوتر المعيق لبناء الأمة - الدولة، وجود شبكات تعليم مختلفة واحزاب طائفية ومن ثم ميليشيات خدمت ميول الانفصال، فيما راحت تتعاظم القدرة الراديكالية في الطوائف جميعاً بتأثير الوضع الاقليمي كما بتأثير عدم الاستجابة المسيحية للتحولات والمطاليب. ولئن انجرفت اسرائيل، اثر غزوها، في الصراع اللبناني، فانها ما لبثت ان انسحبت من امام النفوذ السوري المتعدد الصيغ في 1985، محتفظة بجيب في الجنوب. لكن وفي اوائل التسعينات، ومع تصفية حركة ميشال عون، اعيد انتاج النظام الطائفي في ظل سيطرة سورية، مع تعديلات مهمة. فجاء الطائف ومن بعده معاهدة الاخوة والتعاون اواسط 1991 ليعطيا دمشق السيطرة على الامن الوطني والسياسة الخارجية اللبنانيين. والآن بات من المستبعد جدا ان يستعيد الموارنة مكانتهم السابقة، اذ خسروا الموقع السياسي والعسكري، كما استُبعدت فرص التدخل الخارجي. اما اذا نجح حزب الله في تشكيل تهديد مستقبلي للنظام كما للهيمنة السورية، فان لدى دمشق القدرة الكافية على البطش به عبر "أمل"، او ربما تجديد استيعابه. على ان الميول الطائفية بقيت قوية حتى بين الاجيال الاصغر من السياسيين، علماً بظهور تحالفات برلمانية بين السنة والشيعة والدروز والمسيحيين. كذلك شارك في انتخابات 1998 موارنة اكثر من ذي قبل، من دون ان تسمح هذه الاشارات بالرهان على اقلاع مشروع وطني لبناني مستقر. كذلك كان اقباط مصر بادي القلق حيال النزعات الاسلامية المعادية لهم منذ تطوّرت في "الحزب الوطني"، بعد وفاة مؤسسه مصطفى كامل في 1908، واغتيال رئيس الحكومة القبطي بطرس غالي عام 1910. وهذا الخوف تغلبت عليه ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول. مع هذا بدأت العلاقات، منذ الاربعينات، تتعرض للتدهور. فمكرم عبيد ومعظم اقباط الوفد قد خرجوا منه، ما افضى الى اضعاف هذا الحزب الليبرالي والعلماني، فيما راحت تصعد الحركات الاسلامية والقومية المتطرفة. ثم قوي اتجاه الرفض والانعزال في ظل الانظمة السلطوية التي تعاقبت منذ 1952. ففي عهد عبدالناصر دُجّن الاقباط سياسيا واقتصاديا، وتعاظم اقتحام الدولة لمؤسساتهم التجمعية. وتبعا للطبيعة العسكرية والقومية لنظام الحزب الواحد، تقلصت مساهمتهم السياسية الى حد بعيد. مع هذا بقي اقباط مصر آمنين على حياتهم في ظل نظام عبدالناصر الذي اخضع خصومهم الالداء، الاخوان المسلمين. ومع صعود السادات والتحولات التي اجراها بدا كأن الاقباط على وشك استعادة مواقعهم. مع هذا تخوفوا من "اسلمة المجتمع" التي كانت تجري، فيما بدت مطالبتهم باستعادة ما كانوا عليه ابطأ من حركة السادات في تفكيك الدولة الناصرية. وكان بناء اماكن جديدة للعبادة رمز المواجهة ورمز الشعور بالمشكلة المجتمعية، ومن ثم السلطوية. وزاد في الامر حدة العنف الاصولي اواخر السبعينات والتأثر بالثورة الايرانية. فلما بادرت الكنيسة الى التعبير، مرة بعد مرة، عن تذمرها، ومن خلال المهاجرين في اميركا، ارتد عليها السادات ونفي البطريرك شنودة. واذا كان مبارك قد انهى النفي وكرر الدعوة الى الوحدة الوطنية، الا ان استقطاب المجتمع كان قد ذهب بعيدا على ايقاع تنامي قوة الاصوليين وعنفهم الذي حال بين الاقباط وبين الشعور بالأمان. ومع اصرار مبارك على اعتبارهم جزءا اساسيا من النسيج الوطني، وسماحه ببناء مزيد من الكنائس وتدخله، هو وشيخ الازهر، للحد من تحريض الخطباء الدينيين ضدهم، استمر الاقباط مهمشين سياسيا واستمر التمييز ضدهم في بعض المؤسسات، كما استمرت هجرتهم حيث بلغ مجموع المهاجرين حتى 1997، مليونين. فما لم يحصل تغير ديموقراطي في المجتمع، يصعب ان تفعل مداخلات السلطة الكثير. والشيء نفسه يصح في فعالية المواقف الاميركية والغربية التي لن تتجاوز التنديد الموسمي الى خطوات تسيء الى العلاقة بموقع استراتيجي مهم كمصر. لكن ثمة حالات اخرى في المنطقة يظهر فيها تحقق درجة بعيدة من الاندماج. فالاردن كان ولا يزال الحالة النموذجية. وهذا ما يصح في الطوائف الصغرى نسبيا للمسيحيين والشركس الذين باتوا يشاركون مواطنيهم المسلمين العرب عادات وسلوكيات مشتركة. مع ذلك فنسبة المسيحيين من السكان استمرت في الانخفاض: فقد شكلوا في 1961 نسبة 4،6 في المئة لكنهم غدوا، في 1988، 4. اما الشركس فاستطاع احدهم، سعيد المفتي، ان يتسلم رئاسة الحكومة اربع مرات منذ اواخر الاربعينات. وهم، مثلهم مثل المسيحيين، حصلوا على ما يطمئنهم في التمثيل البرلماني الذي يفوق حجمهم في المجتمع. ولهذا يبقى الجسم العريض والأكثري للشركس كما للمسيحيين، موالياً للوضع القائم، تعبيراً عن تفضيل لصيغة تعايش يُرجّح ان تستمر إن لم تطرأ عناصر جديدة تعاكس اشتغالها. وكاقباط مصر يعود وجود المسيحيين في فلسطين روم ارثوذكس وكاثوليك ولاتين ومذاهب صغرى الى ما قبل الفتح الاسلامي. لكنهم 10 في المئة من مجموع العرب، تعربوا وتمازجوا مع المسلمين، فعرفوا تسامحاً مشوبا بالاضطهاد في العهد العثماني، وكانت تحولات ستينات القرن التاسع عشر قد اصابتهم بالمرارة والحذر، وهو ما اصيب به حيالهم مواطنوهم المسلمون المتخوفون من تنامي قوة الغرب وافادة المسيحيين المحليين من اصلاحات السلطنة. وبالنتيجة زادت عزلة المسيحيين وشرعوا يهاجرون. اما بعض متعلميهم فجددوا البحث عن قواسم مشتركة باحيائهم اللغة والثقافة، ثم في التصدي للهجرة اليهودية. وقد انضم كثيرون منهم الى "حزب الدفاع الفلسطيني" راغب النشاشيبي شبه الليبرالي، فيما جلبت اوضاعهم الاقتصادية والتعليمية مضايقات لهم من مواطنيهم. الا ان الزعامات، وبالاخص الحاج امين الحسيني، دانوا العداء للمسيحيين وثمّنوا اسهامهم في الحركة القومية ومناوأة الصهيونية. وبعد قيامها بنت اسرائيل علاقات لم تثمر كثيراً مع الاقليات المارونية والدرزية والكردية والجنوب سودانية. واذا بقي دعمها لها محكوما بصراع المنطقة، فبالصراع نفسه حُكم التعاطي الاسرائيلي مع الاقلية العربية فيها 18 في المئة. فقد عوملت لمدة عقدين بصفتها "طابورا خامسا" وفرضت الدولة قيودا صارمة على تنقّل اعضائها بما يتعارض مع ديموقراطيتها. فكان الشأن الفلسطيني شأنا عسكريا صاحبته اعمال استيلاء على الأرض، ووصل الغضب العربي الى ذروته مع مجزرة كفر قاسم ابان حرب السويس. لكن في اواخر الستينات حيث ساد شعور اسرائيلي بالقوة والثقة، الغي معظم هذه القيود ومنح المزيد من الحقوق للعرب. مع هذا فحتى الآن لم يحصل اعتراف بهم كأقلية قومية اذ يتم التعامل معهم كطوائف دينية منفصلة. فمثلا، عومل الدروز 10 في المئة من مجموع العرب ك"غير عرب" ووجدوا التشجيع على تطوير خصائصهم. هكذا امكن ضم شبانهم الى الخدمة العسكرية، كما قُدمت للطائفة بضعة امتيازات وتم تجهيز برنامج درزي منفصل للاستخدام في المدارس الرسمية. كذلك عومل المسيحيون حوالي 14 في المئة من العرب باحترام يفوق ما حظي به المسلمون، وراهنت السلطات على استخدام موقعهم التعليمي المميز لتوسيع المسافة بينهم وبين مواطنيهم المسلمين. وخلال حرب 1948 وبعدها انكمش كثيرا حجم العرب لينتقلوا مع الزمن الى قدر من التكيّف. فهم لم يثوروا ضد الحكومة وقلة قليلة فقط هي التي انخرطت في نشاطات متطرفة. ومؤخرا بدأ كثيرون منهم يجدّون في استكمال حصولهم على حقوق تأخر نيلها، كما كان من علامات التغير تطوير البنى التحتية لبعض القرى العربية، وضم اعداد متزايدة من الوزارات والاحزاب والنقابات لعرب في صفوفها. غير انهم لا يسعهم التماثل مع دولة يهودية وصهيونية لم تعتبرهم مواطنين متساوين. ويوجز الاكاديمي العربي الياس توما هذا الوضع وتحولاته بالقول: "يتمتع العرب الاسرائيليون بمستوى من المداخيل مرتفع بالقياس النسبي، كما بالمقارنة مع معظم عرب الشرق الاوسط. وهم يتمتعون بمستوى مرتفع نسبيا من التعليم، للصبيان والبنات... وبحرية التعبير والديانة والحِراك الاجتماعي والاقتصادي، وذلك بما يتعدى كثيرا اي درجة من الحرية تتمتع بها اية جماعة في الشرق الاوسط، ما عدا الاكثرية اليهودية في اسرائيل. والعرب الاسرائيليون قد يهاجمون السياسات الحكومية، ويقومون بتظاهرات عامة ضدها، وينتقدونها او ينشرون كلاما معارضا لها او يقاضون السلطات من دون خوف الانتقام منهم لكونهم عرباً". ومع انهم حسموا لمصلحة الخيار الديموقراطي والعمل من ضمن المؤسسات، لا يزال بعض التشريع يميّز ضدهم. ورغم انهم لم يمارسوا الارهاب الا نادرا، لا يزال المسلمون يُعتبرون تهديدا أمنياً ولا تعطى لهم مناصب حسّاسة، كما لا يُعاملون بعدل في توزيع اراضي الدولة ومعوناتها، او في مشاريع التنمية. والاسوأ ان جزءا ملحوظا من اليهود الاسرائيليين لا يزال يرفض اعتبارهم كاملي المواطنية. وتبعاً لصعوبة التماهي العاطفي والثقافي، اتجه التعاطف في معظمه نحو اشقائهم في الضفة الغربية وغزة، لا سيما بعدما وحّدهم بهم احتلال 1967. فمذّاك عادت النزعة "الفلسطينية" تنتعش بين العرب الاسرائيليين، لتذكيها اسباب ك"يوم الأرض" واندلاع الانتفاضة. كذلك تطورت حركة اسلامية بين العرب، بمن فيهم البدو. وهذا ما حصل ايضا تأثراً بثورة ايران. على ان توقيع اوسلو في 1993 بدا انه يحل معضلة التوفيق بين الدولة الاسرائيلية والأخوة العرب، بحيث يكونون جسر السلام. لكن هذا ما لا يبدو كفيلا بحل المشكلة التي يعانونها في دولة عبرية. لهذا لم يعد المطلوب انشاء دولة فلسطينية فقط، بل ايضاً تحويل اسرائىل من دولة يهودية الى دولة لجميع مواطنيها المتساوي الحقوق، اي دولة ديموقراطية وكفى. وهناك في الموازاة مشكلة اصغر تخص مسيحيي الضفة الغربية والقدس. فهؤلاء كانوا يشكلون حوالي 8 في المئة من السكان عام 1967، وتراجعوا في التسعينات الى ما بين 3 و4. لكن الدولة الفلسطينية الموعودة ستمنحهم، ولو قانونياً، المساواة الكاملة، فيما حضورهم قوي في الاحزاب والجمعيات، وقبلها المنظمات الفدائية ضد الاحتلال. ورغم سلوك الجماعات الاسلامية حيالهم، وتنامي هجرتهم، فان الترابط الاسلامي - المسيحي يبقى القاعدة، خصوصا بين المثقفين والسياسيين والمهنيين. وهذا ما تدل عليه الوظائف التي تقلّدوها في السلطة، فضلا عن اقتران عرفات بمسيحية تحولت الى الاسلام. وعلى العموم ليس متوقعا ان تتحول العلاقة المسلمة - المسيحية الى قضية في اراضي السلطة. اما اذا وُضع بعض المستوطنات اليهودية تحت سيادة فلسطينية، فهذا ما قد يتسبب، اذا ما ابدى اليهود نفورا، بمشكلة جديدة من مشاكل الاقليات، الشيء الذي يسيء بدوره الى العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية كما الى عملية الاندماج العربي في اسرائيل. وفي سورية بدأت قبل قرن على سلطة البعث محاولة بناء جماعة سياسية غير طائفية. وتمثلت هذه في الادبيات النهضوية التي تلت مذابح 1860. بيد ان الروابط العائلية والمذهبية والدينية بقيت اقوى بما لا يقاس. فالنخب المسيحية وبعض رموز الطبقات العليا المسلمة هي وحدها التي انخرطت في المشروع. ومع الامير فالملك فيصل تجددت المحاولات، فعارضها المؤتمر السوري قبل ان تسقط المملكة كليا. وفيما فرض الفرنسيون تقسيما للبلد على قاعدة طائفية، دمجت الحركة الوطنية في كفاحها ضد الفرنسيين بين الاستقلال وانشاء مجتمع سياسي غير طائفي. لكنْ مع الاستقلال ولا سيما عهد الشيشكلي، جرت محاولات للصهر انطلاقا من التعليم، كما تم تشديد القبضة المركزية التي ضربت النوازع الانفصالية لبعض الدروز والعلويين. وبعد 1954 انجذب هؤلاء من عزلتهم الى الاسهام في الحياة العامة سياسة واحزابا وجيشاً، بينما كان تسارع التحديث وتوسع النظام التعليمي والمواصلات، يساعد في صوغ هوية جامعة. مع هذا لم يحصل منذ الخمسينات اي اتفاق حول نوع علاقة الدولة بالدين. وقد تنامى دور البعث في المجتمع والجيش، وصولا الى وحدة 1958، لكن بؤس هذه التجربة اعاد الاعتبار الى الوطنية السورية. فحين تسلم البعث السلطة عادت الانقسامات على اساس طائفي، وهو ما زادها التركيب الاهلي للنظام العسكري، فضلا عن راديكاليته الاجتماعية الايديولوجية. وفي 1970 انفتح الاسد على السنة، لكن مسألة بناء الامة الدولة ظلت معاقة لينتهي الامر عنفا متبادلا في الثمانينات، تلته تنازلات متتالية للثقافة والرموز الاسلامية. كذلك مُدّت شبكات الى باقي الطوائف من خلال الدور الابوي للدولة ومنظماتها، فضلا عن تقوية نسبية للقطاع الخاص استفادت منها فئة جديدة متعددة المذاهب، لا سيما سنية، ذات صلات وثيقة بالنظام. فبسياسة الجزرة والعصا معاً، تحصلت درجة من الوطنية السورية المتعددة الطوائف معززة بتحديث البنية التحتية ونظام التعليم والافتخار بالدور الاقليمي. لكن هذا لا يلغي المعارضات أكانت انطلاقتها اهلية او اجتماعية او ديموقراطية. لقد عرفت سورية هجرة ارمنية 4 في المئة في الستينات، مثلما هاجر معظم الاشوريين واليهود السوريين اواسط التسعينات، وبقي الشركس يعدون 75،0 في المئة ومثلهم التركمان، والاقليتان سنيتان تعربتا جزئيا اما الاكراد، اكبر الجماعات الصغرى 7 في المئة فمدينيوهم اندمجوا وهم اكثر من عُشرهم، فيما يعاني الريفيون والبدو منهم قمعا ثقافياً وحقوقياً قاسياً. لكن هذا لم يثر مشكلة كردية خصوصا في ظل العلاقة بين دمشق وحزب العمال الكردستاني، واحيانا مع اكراد العراق. وتبدأ أزمة العراق واقلياته مع احدى اصغرها: الاشوريين قرابة 20 الفا ممن تم تشتيتهم بعد مذبحة 1933. اما اليهود، فتحت وطأة النزاع في فلسطين، تعرضوا لمذبحة الفرهود في 1941 ثم كانت اعدامات اواخر الستينات بحيث هاجرت اكثريتهم الساحقة، بعد تاريخ اندماجي مديد. كذلك تعرضت الاقليات الاصغر كالتركمان واليزيديين لقمع متقطع من دون ان تشكل تهديدا ملحوظا. وكان من اسباب هذه الوجهة الكالحة انسحاب البريطانيين في 1930 ورحيل فيصل الاول في 1933 وسطوع المدّ القومي العربي تالياً. لكن المشكلة الأهم تبقى علاقة السلطة السنية العربية باكثرية سكانية شيعية عربية اكثر من50 في المئة واقلية كبرى كردية سنية قرابة 20. ووضع العراق المعقد دينياً واثنياً وموقعاً، هو ما عقّد مشروع بناء الامة. فالمسألة ابتدأت مع ولادة العراق الحديث في 1920، ومرّت بمحاولات ايجابية وتدرجية قام بها فيصل. ذاك ان الشيعة، اصحاب ثورة العشرين، هم من حدّت بغداد من نفوذهم ونفوذ رجال دينهم وكبار ملاّكيهم. لكن من خلال الانتقال الى المدينة والتعليم اكتسبت اعداد متزايدة منهم افكار القومية والوطنية فانضموا الى الاحزاب والادارة. غير ان مطالبهم بالمساواة وحذرهم من القومية العربية مما كان يتفهمه فيصل، لم تعد تجد من يتفهمها. فبدأ الاضطراب المعلن الذي ادى الى تحسن جزئي في تمثيلهم. على ان افتقارهم الى قائد، بعد اضعاف المرجعية الدينية، لم يساعدهم. فحين برز صالح جبر وضعت المؤسسة السنية الحاكمة حداً لبروزه. واتجه الشبان الى الشيوعية فكان ذاك تمردا ضد المرجعية الا انه ساهم في انبعاث دورها في سياق مناهضة الشيوعية. ومع عهد قاسم، الذي بدأ اكثر جدية وسخاء حيال الشيعة كما الأكراد، قوي الشيوعيون والدينيون معاً وتأسس "حزب الدعوة" في 1960. وانتهى المطاف بهذا الحزب الذي عارض انظمة "سنية" متتالية، ان أُعدم قائده محمد باقر الصدر في 1980. لقد حصل هذا في مناخ التأثر بالثورة الايرانية من دون ان يعني تراجعاً شاملا في الوطنية العراقية للشيعة، على ما كشفت حرب البلدين. وابان حرب الخليج الثانية انفجرت ثورة جنوبية غير منظمة، فسحقها صدام بقسوة طاولت البشر والحجر والمقدسات. وعاد صدام الى محاولة دمج الشيعة في السلطة بشتى الطرق، بيد ان الحاسم ظل تركيب السلطة وأدواتها، لا سيما الجيش والحزب. فهنا تستقر مواقع التقرير، وبشكل حاسم، في ايد سنية وغالبا تكريتية. اما الوطنية الكردية الحديثة فترقى الى 1910 على يد بضعة مثقفين. لكن في نهاية الحرب الاولى حاول الشيخ محمود البرزنجي اقامة كيان محمي من بريطانيا، وربما بتشجيعها. وكان البريطانيون اعطوا الاكراد في مؤتمر سيفر في 1920 وعودا مشابهة للتي اعطوها للعرب. لكن لندن التي انحازت الى مشروع الدولة العراقية الموحدة، عملت بموجب معاهدة لوزان في 1923 على تقسيم كردستان التاريخية. ولم تتحقق وعود عدة قطعتها بغداد بمنح الاكراد حكما ثقافيا ذاتيا فاستمرت محاولات تعريب مرفقة باستيعاب بعض الكفاءات المدينية في الادارة والبرلمان. وانتفض الاكراد في 1943-46 بقيادة مصطفى بارزاني. وتقلبت كثيرا مذاك علاقاتهم بالسلطة المركزية، لكن القمع بقي ممزوجا باستغلال نعراتهم وتناقضاتهم، فيما عملت خلافاتهم وتقلب تحالفاتهم وتخلي الحلفاء عنهم، على الحاق الهزيمة تلو الهزية بقضيتهم. واذا بدا عهد قاسم المحطة الاقرب الى تحقيق اهدافهم الكردية، فان عهد البعث كان الابعد حكماً. فقد تخلت بغداد عن شط العرب لايران، في 1974، كي تحملها على وقف دعمها لهم، ما سمح لها بخنق تحركهم. وابان الحرب مع ايران جدّد الاكراد عملياتهم لكنهم عوقبوا بوحشية جسّدتها حلبجة في 1988. وكما حصل مع الشيعة بعد انتفاضتهم، وجّه صدام ضربات الى الاكراد ادت الى تهجير 5،1 مليونا منهم. ولئن لم تساعدهم الولايات المتحدة، ولا ساعدت الشيعة، في ردع صدام عسكريا، الا انها حمت اجواء مناطقهم وسمحت لهم باقامة مؤسسات حكومية في اربيل. ذاك ان عوامل عدة، محلية واقليمية، تحول دون تأييد مطلب الاستقلال لكردستان، وهو ما لم يرفعه الاكراد اصلاً. لكن انشاء ما يشبه الحكم الذاتي، لم يحل دون الحرب العنيفة بين الحزبين الكرديين الأساسيين عام 1994، وهي التي استثمرتها دول مجاورة كثيرة بما فيها العراق الذي سحقت قواته المؤتمر الوطني المعارض. ولئن امكن وقف النار، بضغط اميركي، الا انه استحال تجديد التضامن الكردي. ومثل هذا الغموض الذي يشوب اكراد العراق والعراق تاليا، يشوب جنوبيي السودان والسودان تاليا. فهؤلاء يجاورون بلدانا افريقية عدة تؤيد نوعا من الحكم الذاتي لهم بعيداً عن احتمالات التعرّب والأسلمة. ويتكرر هنا ما حصل مع الاكراد لجهة الوعود غير المنفّذة، والقمع المصحوب بالتعريب، والتداخل مع هموم واستراتيجيات الدول المجاورة. لكن مشكلة الجنوب السوداني اعقد لأن الجنوبيين يشكلون قرابة ثلث السكان، وهم في اغلبهم احيائيون، والباقون منهم مسيحيون. اما انقساماتهم الاثنية والقبلية فاكثر كثيرا من انقسامات الاكراد. وهناك تاريخ تعامل احتقاري ورقّي مع الجنوبيين بلغ ذروته ابان الدولة المهدية 1881-98. وقد نمت عليه عواطف حاول البريطانيون والارساليات المسيحية استغلالها. لكن منذ مؤتمر جوبا في 1947 اعتمدت بريطانيا استراتيجية السودان الموحد. وكان ممن رفض هذه الصيغة جنوبيون تمردوا في 1955. وبعد الاستقلال في 1956 اصطدمت هذه الحركة بنظام ابراهيم عبود الذي اراد ابتلاع وتذويب الجنوب وخصوصياته. وتفاوتت الاحزاب الجنوبية بين طلب الحكم الذاتي واعلان الكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال ل"أزانيا"، وهو اسم المملكة القديمة التي كانت قائمة هناك. فلم تتحد التنظيمات الا على يد جوزيف لوغو اواخر الستينات، فيما كان جعفر نميري يستولي على السلطة في الخرطوم. ولئن اجرى الاخير محاولة لرأب الصدع في 1972، تعد الجنوبيين بما كان اتفاق آذار مارس 1970 العراقي قد وعد به الاكراد، فان العمل بهذا لم يدم طويلا. فقد شرع نميري يتقارب مع الاسلاميين، وفي 1983 انفجر الوضع مجددا مع تطبيقه الشريعة. وباطاحة نميري استمر التمرد الى ان وافق المهدي متأخرا على استجابة مطالب الجنوبيين، لكن انقلاب عمر البشير ما لبث ان اطاح المهدي والعهد البرلماني. ورغم كثرة المفاوضات والرعايات الدولية استحال اي اتفاق مع هذا النظام الأصولي، فيما انشقت الجبهة الجنوبية بعدما اغرت الخرطوم جناحها الانفصالي الاكثر تشددا. ولئن ترافق الطور الاخير من النزاع مع تناسل الخلافات القبلية والاثنية الجنوبية، بقي ان الحرب الأم كلّفت الكثير الكثير من القتلى والتبديد والتهجير وضحايا المجاعات. ان مشكلة الاكثريات والاقليات التي تخض الشرق الاوسط تبقى في النهاية منوطة بانتصار وعي ديموقراطي وتعددي، هو الذي يقيم الامم الدول. وفي غضون ذلك يمكن للاقليات نفسها ان ترث بعض سلوكيات الاكثريات الحاكمة وتردّ على فجورها بفجور مماثل. وهذا اذا كان لا يضيّع موقع الحق، الا انه لا يجوّز لصاحب الحق تصرّفه كيفما كان التصرّف. لقد اختلفت اوضاع اقليات المنطقة حيال الاندماج اختلاف الانظمة في التعاطي معها. وكان من الطبيعي، بالتالي، ان تسلك الحركات المعبرة عن الاقليات مسالك شتى. ودائماً كانت هذه العلاقات تتغذى من عقد الماضي وحساسياته، كما من مداخلات اطراف خارجية، اقليمية او دولية. لكن ما تقوله القاعدة ان انضياف الايديولوجيا الى التعصب يجعله اكثر تعصبا وعنفا. واذا كان السلام العربي - الاسرائيلي يلعب دورا ايجابيا في حل بعض معضلات ازمة الاقليات، او بعضها، فالمؤكد انه سينعكس ايجاباً على مجمل المواقف، إن لم يكن التراكيب الأعمق، لاسرائيل. اما الولايات المتحدة فاذا صح انها لا تستطيع القيام بادوار انقاذية، الا انها تستطيع ممارسة ضغوط قوية لا سيما في البلدان التي تملك التأثير فيها سياسياً او اقتصادياً... او هذا ما تقوله هي. * كاتب ومعلّق لبناني.