كنا نقول دائماً ان الأدب الفلسطيني الجديد، لم يستطع أن يعبر عن الاحتلال الصهيوني بسوية فنية عالية. وكنا نسمع دائماً ذلك الصراخ وتلك الشعارات تتردد في النصوص القادمة الينا من الارض المحتلة، وكنا نستشعر ذلك الفقر الجمالي في تلك النصوص، وهو فقر يعود الى مفاهيم بائدة للأدب ودوره ووظيفته: تلك المفاهيم التي روجتها الواقعية الاشتراكية الميكانيكية منذ الستينات، حين علت أصوات تدعي بسذاجة أن الكلمة رصاصة، وأن الأدب هو أرقى أشكال المقاومة، وما شابه ذلك من مصطلحات تبين أنها تتحدث عن أشياء كثرة باستثناء الأدب! وحديثاً فقط، أخذ بعض النصوص القادمة من داخل فلسطين تتمرد على تلك المفاهيم، وتدير الظهر لتلك الصورة النمطية عن أدب المقاومة للاحتلال، ومن أهم ما ورد الينا رواية "عصا الراعي" للشاعر زكريا محمد و"صورة شاكيرا" لمحمود شقير! واللافت هو أن محمود شقير كان في مجموعته الأولى "خبز الآخرين" واحداً من المروجين لتلك المفاهيم البائدة للأدب ودوره.. ولكنه أخذ على نفسه مراجعة تلك المفاهيم، الى أن أصدر مجموعته الجديدة "صورة شاكيرا". تقسم هذه المجموعة الى قسمين غير رسميين، أي أننا نخرج بهذا التقويم قراءة وأثراً. وربما تحتم علينا القراءة النقدية وحدها أن نشير الى فروق بينة بين القسمين... فروق في اللغة والتقنية ومركزة الموضوعات، وأخيراً ذلك الفرق بين شكلين أو بنيتين أو تعبيرين... شكل كرنفالي وبنية كرنفالية وتعبير كرنفالي، وشكل آخر جدي الطابع والملامح. واذا كانت القصص الكرنفالية لا تتجاوز ست قصص من بين أكثر من عشرين قصة، الا أن هذه القصص القليلة استطاعت أن تنتزع لنفسها مكانة أكبر من سواها، وسوف تتناول هذه المكانة وأسبابها في هذه المراجعة، وسوف نركز على هذه القصص لأكثر من سبب، أهمها أولاً: هو الحضور الدائم للاحتلال الصهيوني في هذه القصص، وثانياً: ذلك الطابع الجمعي الذي تمتاز به، ثالثاً: تلك السخرية التي تشع في المواقف السردية والحكائية، وهي أمور تفتقدها القصص الأخرى، بل ويتعمق الفارق من حيث البطولة الفردية، وتناول الهموم الانسانية الصغيرة المشروعة سواء كان الفرد تحت الاحتلال أم حراً... وهذا لا يعني أفضلية نوع قصصي على آخر في هذه المجموعة، ولكننا نحتفي بالقصص الأولى لما تمثله من تطور فني على طريق الكتابة والابداع في مواجهة الاحتلال، وهو ما كنا ننتظره بشوق! سوف نقوم أولاً بتسمية القصص المعنية لكي نشير الى تفردها في عناوينها، وهي "مقعد رونالدو" و "مايكل جاكسون في حينا" و"عيون ماراتينوس" و"مذكرة الى كوفي عنان" و"صورة شاكيرا" و"كلب بريجيت باردو"!! وكما نلاحظ فهي أسماء تتوزع على السياسة والرياضة والغناء والتمثيل، وهي الحقول الأكثر تأثيراً في قطاعات الناس بشكل عام، وبالتالي كانت العناوين جزءاً رئيساً من كرنفالية القصص، حيث شكلت ما يمكن أن يكون بمثابة الأقنعة في الاحتفال الذي يقوم في الأصل على اعادة احياء الأسطورة من خلال الطقس الأسطوري.. والمفارقة في الكرنفال تتمثل في أجواء المرح والحب واللهو في لحظة يتم فيها استحضار الاله الأسطوري مثل "ديونيس"!! وعليه فان الجموع تتحايل على قوة الأسطورة، المستمدة من اله الأسطورة ذاته من خلال القيام بتغطية الوجوه بأقنعة متنوعة.. بمعنى أن الشخص يتخلى في تلك اللحظة عن ملامحه المعروفة والمألوفة، لكي يتمكن من مواجهة قوة كبرى... ولعل هذا هو بالتحديد ما فعله محمود شقير في هذه القصص! أما النقطة الثانية، فهي ان الكرنفال حدث استثنائي دائماً. فبينما يعيش الناس حياتهم العادية عاماً كاملاً، يأتي ذلك اليوم الذي يلم الجميع... فقراء وأغنياء... حمقى وعقلاء... وربما نستطيع الحديث مطولاً عن هذا الموضوع، ولكن القصص في انتظارنا! أو للدقة، الكرنفالات قادمة! مع التنويه الى أن الكرنفالية في الرواية مصطلح للروسي باختين، وقد استعان به الدكتور شاكر عبدالحميد في كتابه "الفكاهة والضحك". كرنفال من نوع آخر لا يعيد محمود شقير انتاج لحظة البدء في أسطورة ما، ولكنه يجمع حياً كاملاً في كرنفال من نوع آخر... واللافت في هذه الكرنفالات الستة هو أن المبادرة تأتي دائماً من شخص ما تحت الاحتلال... أي انها مبادرة فردية في الأصل لكن هذه الاستجابات الجمعية تجعلنا ندرك على الفور أن هذا الشخص ال"ما"! انما هو يعبر عن أعماق الآخرين، حتى وهم يرفضون المبادرة أحياناً! ولا بد من التنويه هنا الى أن الاحتلال الصهيوني يشكل القوة الأسطورية العمياء الجاثمة على صدور الناس البسطاء، الأمر الذي يحيل الكرنفال الى شكل من أشكال الرفض والمقاومة الانسانية الحقيقية على رغم أن الكاتب يتجنب الحديث عن الاحتلال بشكل مباشر وصارخ وساذج كما جرت العادة، بل يبدو الاحتلال غالباً متعيناً في صورة ما، أو حدث، أو واقعة ثانوية في النص... فالمذكرة التي سيكتبها أهالي الحي الى كوفي عنان تتعلق بمجموعة من الكلاب الضالة النباحة... وهي كلاب ربما جاءت الى هذا الحي الهادئ بالصدفة، بسبب قصف الاحتلال لمناطق أخرى... هذه هي الاشارة الى الاحتلال! وهنا يستطيع بعضهم أن يقوم بالتأويل كما يشاء، وهو ما لا نرغب فيه، لأن القصة تذهب في اتجاه آخر، حيث لا يسمح لنا باختصار القصة الى مقولة عامة: "ان الناس لم يعودوا قادرين على النوم بسبب الاحتلال"! يلجأ عبدالغفار الى ابن عمه عبدالستار... وعلى رغم أن عبدالستار المقدسي يعمل كاتب استدعاءات أمام وزارة الداخلية الاسرائيلية في القدس، الا أنه يعتبر فكرة تشكيل لجنة في الحي انصياعاً لرغبة الاحتلال... أخيراً يجتمع عبدالستار وعبدالغفار ونعمان ابن أخت عبدالغفار وآخرون... وفكرة المذكرة الى كوفي عنان من عبدالغفار، هي بسبب ان عبدالستار. الذي يدعي انه يفهم بالسياسة اعتاد كتابة المذكرات الى هذا الرجل مطالباً إياه بالتدخل لإعادة الأراضي المصادرة الى أصحابها... وعليه فإن عبدالستار يفاجأ بحكاية المذكرة هذه من أجل التخلص من مجموعة من الكلاب الضالة... وهنا يدور حوار غريب يشبه الأقنعة في الكرنفالات، حيث يقوم كل واحد بالافصاح عن رغباته الانسانية الصغيرة التي حرمته اياها الكلاب... فأحدهم يتوق الى سماع المسلسل التلفزيوني، وآخر يشكو عدم التواصل بينه وبين زوجته أثناء النباح، ونعمان الذي أصبح بنصف عقل بعد أن ضربه المستوطنون ذات يوم وهو يتردد على أرضه المسروقة، يعلن أن نباح الكلاب قد حال بينه وبين سماع صوت حبيبته نهلة وهي تغني له خلف الشباك، فينبهه أحدهم الى ضرورة الانتباه لئلا تقوم نهلة بالقاء نفسها من الشباك!! بعد هذه الشكاوى يتطرق المجتمعون الى كوفي عنان نفسه... ولا يخفون اعجابهم به، باعتباره عربياً كما يقول أحدهم، وحين يكتشف أنه ليس عربياً يقول انه مسلم على أي حال... وحين يكتشف أنه ليس مسلماً يقول إنه سمع أن كوفي عنان سيدخل الاسلام، وحين يكتشف أن ذلك أيضاً غير صحيح يقترح أن يضمنوا المذكرة دعوته الى الاسلام. أما نعمان فيدعي أنه رآه أمس ماشياً في الحي، وأنه قال له: مساء الخير يا عمي كوفي عنان... وأن كوفي عنان كان متخفياً لكي يطلع على مشكلات الحي بنفسه. وبالطبع تحدث ملاسنات ومشاحنات بين جملة وأخرى، الى أن ينتبه عبدالغفار أن نباح الكلاب قد توقف، فيعودون الى بيوتهم عند منتصف الليل، ويتهيأون للنوم، ولكن الكلاب تعاود النباح! هل يواجه الاحتلال بالسخرية؟ الجواب هو أن السخرية كانت على الدوام عصباً قوياً في الوعي الجمعي أثناء التعرض لهزات كبرى، وقد ظهرت دائماً في الأوقات العصيبة أسماء لا تمحى من الذاكرة الشعبية.... دون كيخوته في العصور الوسطى المظلمة، والجندي الطيب شفيك في الحرب العالمية الاولى، وسعيد أبو النحس المتشائل إثر اغتصاب فلسطين، وماركو فالدو مع ازدهار الثورة الصناعية وانتشار قيمها... وما تقوم به هذه الشخصيات، هو نوع من التحايل على الواقع المظلم، وهو تحايل انساني مشروع قوامه الرغبة في الانعتاق من هذا الواقع الثقيل. ولأنه تحايل فني، فإن معايير المنطق والحقيقة تختفي لتحل محلها معايير فنيه خالصة، تلعب الأقنعة فيها دوراً بارزاً. نحن لا نقول إن هذه نصوص مقاومة، ولا نحب هذه المصطلحات أصلاً، ولكنها نصوص تركز على الأثر العميق الذي يحدثه الاحتلال في النفس البشرية، وفي أعماق الروح، وهي بذلك نصوص أكثر أهمية وأثراً من النصوص التي تتسلح بالشعارات وتعلي من قيمة الوطن كفردوس مفقود، وتمنح الأرض صفة القداسة المطلقة. فالوطن الحقيقي هو أحلام الناس وهواجسهم ومسراتهم ورغباتهم الإنسانية، وهذا ما تركز عليه كرنفالية محمود شقير... فأبطاله ليسوا مناضلين صناديد، ولا مقاتلين شرسين، ولا خطباء ولا مسيسين أصلاً... ولكنهم أكثر مقدرةً من سواهم على كشف بشاعة الاحتلال، وعلى اعلاء قيمة الحرية الانسانية، فكل ما يطمح اليه العم في قصة "صورة شاكيرا" هو بطاقة شخصية بدلاً من بطاقته المفقودة في القدس... وكل ما يتمناه أهالي قرية ما هو أن يمر موراتينوس مبعوث الاتحاد الأوروبي في قريتهم لكي يراهم، ولهذا قاموا بالاستعداد بملابسهم ودبكاتهم الشعبية... أرادوا في أعماقهم التوكيد لأنفسهم قبل أي أحد، على أنهم بشر حقيقيون... يضحكون ويفرحون ويرقصون ويرتدون الملابس الجديدة... واذا لم يتوقف موراتينوس في قريتهم في ذلك اليوم، فإنهم سيكونون قادرين على ابتكار مناسبة أخرى بالضرورة يوماً ما لتكريس الفكرة ذاتها... واذا لم يأت رونالدو كما يصر كاظم، فإن هذا الكاظم سيتلقى توكيداً آخر من شخص آخر في حجم رونالدو لزيارته... أي أن هذه القصص تتبنى الحلم الحلم في حياة طبيعية كسائر البشر... والناس هنا قادرون على ابتكار رموز لأحلامهم.. وهي رموز طالعة من تفاصيل الحياة اليومية على سطح الأرض، وهذا ما يجعلها مؤثرة وفعالة أكثر من سواها... بل وتمكن المجازفة بالقول هنا إن هذه القصص تمثل نقيضاً فكرياً للخطاب الميتافيزيقي بشقيه! الديني والسياسي في الأدب، على رغم أن قصص محمود شقير لا تتعرض للمقاومة مباشرة ولا تعارضها!