«ثورة ثورة حتى النصر، ثورة في كل شوارع مصر»... هو الهتاف الطوباوي الذي ظل يتردد هنا وهناك في مناسبات قمعية متعددة حتى تحول في عشية وضحاها إلى أمر واقع. في لمح البصر أصبح الواقع المعيش أقوى من أي نص، بل إنه حقق كافة شروط البنية الإبداعية من شخوص وزمان ومكان وسياق وتطور درامي سريع متلاحق للأحداث: أبطال وأضداد أبطال، ذروة الثورة ثم ذروة ثورة مضادة، وشخصيات جديدة تظهر في المشهد ولا ينتهي النص. في وسط كل ذلك لا يمكن أن تجد أي رواية لنفسها مكاناً يلفت النظر إليها بوصفها إعادة صوغ للحياة أو بديلاً عنها أو حتى حالة من الديموقراطية كما ذهب نقاد الرواية. بل إن النص الإبداعي توارى تماماً منذ يوم 25 يناير إذ تغلب عليه الشارع الذي تحول إلى نص ينسج خيوطه من شخوص حقيقية وأحداث جارية، ثم تطور الأمر وأصبح المشارك/ القارئ يعترض على سير الأحداث فيتغير النص مباشرة ليحقق توقعاته ويلبي أقصى جموح لخياله، إنها أعظم مكانة وصل لها القارئ الذي كان مشاركاً من البداية في مشهد يتخذ من التضامن مضموناً ومن الكرنفالية الاحتفالية شكلاً. سيطر مفهوم الكرنفال كما طرحه الناقد ميخائيل باختبن على المشهد منذ بدايته، فبعد الصدمة الأولى التي كانت مملوءة بالكر والفر استقرت الجموع في ميدان التحرير في القاهرة والأربعين في السويس والساعة في الإسكندرية لتخرج كل ما في جعبتها من سخرية وفوضى خلاقة. فكانت الشعارات التي رفعت على لافتات والملابس والأغاني والأشعار والحلقات التمثيلية التي تقلب التراتبية تماماً، بل وتجعل السلطة في موقف يدعو للضحك ويثير الإعجاب بما يحويه من خيال. وكان هذا الاحتفال الكرنفالي هو أول ما لفت النظر في الثورة المصرية، وكانت الشعارات والنكات والقفشات التي خرجت من الحيز الخاص للحيز العام هي أول ما تم تناقله عبر وسائط الاتصال الحديثة محلياً وإقليمياً. وبمرور الأيام الميدانية جوّد المعتصمون في وسائل التعبير الكرنفالية، حتى ترسخت تقنية واضحة وهي إسقاط الخطاب اليومي الكادح على السلطة والتعامل من منطلق مساواة كاملة في الفقر والقمع. كأن ترفع لافتة موجهة للرئيس (آنذاك) كتب عليها «لو خايف على مرتب الشهر خده وروح»، أو «تبرعوا بشراء تذكرة للرئيس». تجلى أيضاً خطاب الندية الذي يهدف إلى إسقاط هيبة السلطة القائمة، وتحويلها إلى ند عنيد يصر على البقاء أمام دعاوى الرحيل من قبيل «امشي بقى ايدي وجعتني»، أو «امشي بقى ابني وحشني»، أو «امشي بقى مش لاقي حاجة أكتبها». لم تكن هذه الجمل خفيفة الظل تحمل معنى «ارحل» فقط، بل إنها حولت الرغبة في رحيل النظام إلى حاجة حياتية أساسية تتساوى في الأهمية مع رؤية الابن أو الألم الجسماني. وفي سيطرة السخرية على المشهد تم التنفيس قليلاً عن المشاعر السلبية، فالسخرية هي أمضى وسائل المقاومة، وهي كانت كذلك لمدة طويلة في الوجدان المصري، ولكن بخروجها الجماعي إلى الحيز العام وتوظيفها لكل الحواس والتقنيات والوسائل تحول المشهد إلى كرنفال يفت في عضد السلطة يوماً بعد يوم. وكان قطع وسائل الاتصال والانترنت والرسائل القصيرة من العوامل التي ساهمت في تحويل المشهد إلى أعظم نص إبداعي. وبمرور الأيام الميدانية - التي بدت طويلة وهي ليست إلا 18 يوماً - انتفت من الأذهان فكرة السخرية وتحول الجميع إلى كتلة هائلة من الانتظار لرحيل السلطة. كان الخطاب متوحداً حول مطلب واحد، ولم تكن حيرة المثقف ظهرت بعد، فقد كانت تلك أسهل مرحلة في النص. كانت الشخصيات على اختلاف رسمها ومشاربها تتجه نحو نقطة محددة. وبرحيل الرئيس انتفت صفة الكرنفالية. فقد انقلب هرم السلطة حرفياً، ولم تعد شعارات الميدان. وبدأ الخطاب الموحد يتفتت لنشهد التعددية الصوتية، فيحكي كل صوت الحكاية من وجهة نظره، وتتحول مصر إلى سردية طويلة. تدعو كل جريدة قراءها على الموقع الالكتروني إلى كتابة «ما حدث في الميدان»، ويمتلئ موقع «الفايسبوك» والانترنت بتلك القصص البطولية الفردية، وينتعش المسرح ليموج بهذه القصص، وتظهر الأفلام التسجيلية التي تسعى إلى توثيق اللحظة، تغيب الأفلام الروائية كما تغيب الرواية، ويتجلى فن اليوميات، ويتشكل ائتلاف الثقافة المستقلة الذي يضم ما يزيد على ثمانين مؤسسة مستقلة تقيم في السبت الأول من كل شهر احتفالية «الفن ميدان» في أشهر ميادين مدن مصر (القاهرة، الإسكندرية، السويس، أسيوط). احتفالية كرنفالية تضم الموسيقى والغناء والشعر والزجل والبانتوميم وفن العرائس وفن الحكي، ومعارض التصوير الفوتوغرافي والكاريكاتير والفن التشكيلي. احتفالية شهرية تواجه المؤسسة الثقافية الرسمية بكل تحد وقوة. فتظهر مرة أخرى حيرة المثقف الذي يتركز جل همه الآن في «الاستقلال» بعد عقود طويلة من التبعية الإجبارية والحرمان من المجال العام إلا ذاك ما تسمح به المؤسسة. فيقع في فخ المفارقة حيث لا يوجد ما يتوجب عليه الاستقلال عنه الآن، ربما لا يتوجب عليه إلا تبني شعار كازانتزاكس «لا أريد شيئاً، لا أخاف أحداً، إذاً أنا حر». ولكن لمن يتوجه المثقف بمطلب الاستقلال في وسط مشهد كرنفالي آخر؟ عادت روح الكرنفال مرة أخرى في شكل مغاير عن الميدان. خرجت كل الجماعات والفرق التي كانت مستترة في فترة القمع تطرح خطابها بوصفه المنقذ المخلص. بعض هذه الجماعات يرتكز على أيديولوجية وبعضها بلا هوية واضحة، أحزاب سياسية ومنابر دعوية وندوات مستمرة ومحطات تلفزيون لا تتوقف عن استضافة متحدثين «خبراء»، ومؤتمرات، وتصريحات واتهامات متبادلة، واعتصامات وإضرابات... والكل على يقين أنه في موضع الحق والحقيقة. لمن يتوجه المثقف في هؤلاء؟ انها حيرة المثقف التي جعلت خطابه لا يختلف كثيراً عن الخطاب الصحافي اليومي. وهي الحيرة التي لا تجعله يدرك أن وجوده بخطابه المزعج لأي سلطة مؤسسية أو مؤسسة سلطوية هو جوهر الاستقلال في حد ذاته، وهو ما يجعله سارداً رئيساً في هذا النص الثوري.