ضمن سلسلة "ذاكرة الكتابة" التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، صدر حديثاً كتاب "التراث القصصي عند العرب" للدكتور عبد الشافي الشوري، وهذا الكتاب هو دراسة مستفيضة، يحاول المؤلف - من خلالها - أن يؤكد ان فن القص كان موجوداً عند العرب، لجهة انهم، ككل شعوب العالم، كانت لهم حكاياتهم وقصصهم وأساطيرهم. وقام المؤلف بتقسيم الكتاب الى تمهيد وبابين، في التمهيد يتحدث عن نشأة القصص عند الأمم، وفي الباب الأول يدرس نشأة القصة القصيرة في العصرالجاهلي وصدرالاسلام والعباسي. اما الباب الثاني فيتحدث فيه عن القصة الطويلة عند العرب، مثل "حي بن يقظان" لابن طفيل و"رسالة الغفران" لابي العلاء المعري. كانت القصة عند العرب، شأن الأمم الاخرى، جزءاً من التاريخ، او بديلاً عن التاريخ، تشمل ايام العرب والمغازي والسير. ثم بدأ الاخباريون العرب في الظهور منذ العصر الأموي، وهم مهتمون بأخبار سابقيهم، وكانوا يمزجون الواقع بالخيال. فالاخباري يقول خبراً صحيحاً، ثم يمزجه بأخبار مخترعة، ويرويها كلها على أنها وقائع ثابتة وأحداث صادقة، ومن هنا، فإن السمعاني كان يروي أن الاخباري ينسب الى الاخبار، وتطلق هذه الصفة على "من يروي الحكايات والقصص والنوادر". على أن القصة العربية في بداياتها لم تكن من جوهر الأدب، كالشعر والخطابة، نظراً لأنها كانت ميداناً للوعظ ولكتابة السير والوصايا. ولذلك، فإن المؤلف يرى اننا أمام احد أمرين: إما ان الحياة العربية لم تنتج قصصا لسبب ما، وهذا لا يتفق مع بدائيات الشعوب. وإما اننا نأخذ القصص القديم بالمقاييس الحديثة، فننفيه ما لم يخضع لها. ثم يسوق لنا رأيا مؤداه ان القُصاص العرب كانوا يستمدون قصصهم تارة من الاساطير والخرافات السائرة، التي تنتقل بين الأمم في مراحل تطورها التاريخي، وتارة أخرى يستمدونها من الاخبار التاريخية، المأثورة عند العرب ومن جاورهم من الأمم. كذلك، فإن الامثال هي بقايا من النثر العربي، تعبر عن وقائع بعينها تشكل قصة ما، وتم اختزالها الى مثل سائر بعد أن انطوت في زوايا النسيان. إن النص القرآني يمكن ان نعده دليلاً على وجود القص عند العرب، وجاء في كثير من مواضعه منظوماً بشكل قصصي، ليستثمر ما لدى العربي من حب لسماع القصص. فالفن القصصي في أشكاله الأولى لدى العربي، كما هو لدى الأمم الأخرى، يشكل إحدى ظواهر المجتمعات وهي تحاول أن تستقر. ونحن نضيف الى كلام المؤلف أن القبائل العربية في شبه الجزيرة، كانت استقرت فعلاً في مواضع جغرافية محددة، وذلك قبل ظهور الاسلام مباشرة، وان البحث عن الكلأ في مواضع أخرى كان يتم باتفاق بين القبائل، على أن تعود مرة أخرى الي مضاربها السابقة، او كان يتم بالغزو والغصب، وايا كانت القبيلة الغازية تعود الى موقعها السابق عادة. إذن، فالاستقرار الجغرافي كان متحققاً فعلاً لكننا نرى انه وحده لا ينتج ميثولوجيا، التي هي الأب الشرعي للسحر والقص معاً، ولكن ماينتج تلك الميثولوجيا هو صراع الانسان مع الطبيعة، وهل هناك صراع انساني اقوى من الصراع مع الصحراء؟ ويورد المؤلف تعريفاً قديماً للقص اللغوي عند العرب، على لسان الزبيدي الذي يقول: "القص البيان، والقاص من يأتي بقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها والفاظها. وقيل: القاص يقص القصص لأتباعه، خبراً بعد خبر، ويسوق الكلام سوقاً. وهذا التعريف يوحي بالطبع أن مفهوم القص عند العرب القدامى كان يعني الحكاية، بما تدل عليه من احاديث وأخبار واساطير وخرافات. إن أهم ما صدر للقص كانت "أيام العرب"، فهذا يوم "حجر" الذي ضم مأساة امريء القيس من تتويج ابيه الى مقتله، الى موت الشاعر نفسه، وهناك ايضاً يوم "ذي قار" الذي يقص سيرة حياة عدي بن زيد العبادي وشعره، وكذلك يوم "داحس والغبراء" الذي احتوى سيرة عنترة، اضافة الى أيام "عامر وغطفان" التي تعد ملحمة كبيرة لحياة الحارث بن ظالم المري. لذلك، فإن المؤلف يرى انه ربما كانت للعرب ملاحم كثيرة وطويلة، لكنها ضاعت في جملة ما ضاع من الشعر العربي في الجاهلية، نتيجة لعدم تدوينها. وذكر ابن الاثير عن ايام العرب ما يناهز السبعين يوماً، اما الميداني فيعدد 130 يوماً، بينما ابو عبيدة معمر بن المثني فله كتابان في الايام، احدهما موسع اشتمل على 1200 يوم، والآخر مختصر فيه 57 يوماً فقط. تحولت الايام بمرور الزمن على ألسنة الرواة، الى مادة قصصية مشوقة، يجتمع الناس لاستماعها وهي تُتلى عليهم في مجالسهم. ولا شك في انها لم تخل من المبالغات في تصوير اخبار الابطال، حتى تطغى سيرة البطل على خبر الموقعة او الحادثة. ويظن مؤلف الكتاب أنه ربما كانت الأيام مجموعة من الملاحم الناضجة، او انها كانت في طريقها الى النضج، إذ كانت تدور حول صراع امة بأكملها، ثم ادركها الاسلام فتجزأت. وعالجت ايام العرب جملة من القضايا التاريخية، الى جانب الاساطير العربية القديمة، فزخرت باشارات ورموز عن آثار الوقائع الماضية، والشخوص المنقرضة، والممالك والبلدان الطامسة، مثل: العماليق في يوم "اليمامة"، و"المعمرين في يوم "البسوس"، وتأثير انهيار سد مأرب في أيام "الأوس والخزرج"، وحياة مملكتي الحيرة وغسان في يوم "حليمة" او "أباغ"، وحياة مملكة "كندة" في أيام "البردان" و"الكلاب الاول" و"حجر". كذلك، هناك اخبارالحصون والقصور والقلاع العظيمة، كما في يوم "المشقر". وأما الحروب، فلدينا حولها أمثلة كثيرة، وأهمها: يوم ذي قار، وحرب الفجار. الى قصص الرحلات والاسفار، فمنها رحلة عير كسرى الى اليمن، والمسماة في أيام العرب بيوم "الصفقة". وهذا الاتساع في المادة القصصية العربية يؤكده قول ابي عمرو بن العلاء: "ما انتهى اليكم من كلام العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير". إلا أن عدم التدوين، ثم الاكتفاء بخلاصة القصة أو الحكاية، عبر تحويلها الى مثل دائر من تلك القصص الكثيرة، مثل: وافق شن طبقه، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، والصيف ضيعت اللبن، وسبق السيف العذل. ولما كان لكل مثل قصة تم اختزالها فيه، فلا شك في أن هذه القصص كانت كثيرة، نظراً لوفرة الامثال العربية. لكننا وان كنا نتفق مع المؤلف أن أيام العرب بعد اضفاء بُعد اسطوري عليها، تحولت الى مادة شبه قصصية، إلا أننا نختلف معه على القصص التي تحولت الى أمثال، إذ انها قصص واقعية، حدثت فعلاً واختزالها تم لأنها تتكرر كثيراً في الواقع، لأن المثل يصبح أبسط وأوضح كثيراً مما يفسره. وعلى رغم أن قصص بعض الشخصيات حدثت فعلاً إلا أن الانحراف الخيالي الذي طرأ عليها بتقادم الأزمنة، احال موضوعها باتجاه المادة القصصية، من ذلك قصة امريء القيس يوم دارة جلجل، وقصة عمرو بن كلثوم مع الملك عمرو بن هند، وقصة نديمي المنذر بن ماء السماء، وقصص الاعشى ومغامراته، وكذلك قصص عنترة وزهير، بالاضافة الى قصص الرحلات. ومن الطبيعي ان يكون للعرب بعض القصص الأسطورية المتصلة بالطبيعة، مثل ما ىُروى من أن الدبران خطب الثريا الى القمر، وأراد القمر ان يزوجه بها فرفضت وامتنعت، ومضت عنه وهي تقول: ماذا افعل بهذا السبروت الذي لا مال له؟ وأخبر القمر الدبران بما قالت الثريا، فمضى يجمع نياقه، وراح يسوقها أمامه صداقاً للثرايا، ويتبعها حيث حلت. ويُحكى ايضاً ان الشعرَى اليمانية هي وسهيل والشعرَى الشامية كانوا مجتمعين معاً في مكان واحد، فلما رأت الشعرَى الشامية فراقهما إياها، بقيت وحدها تبكي حزناً على فراق سهيل، الذي كانت تعشقه، حتى غمضت عيناها، لذلك تبدو في السماء حزينة. وتنتقل ذاكرة القص العربية من شخصنة مفردات الطبيعة، مثل النجوم، باتجاه استدعاء ما وراء الطبيعة، لتصنع ميثولوجيتها الخاصة. فالعزَّى - الإلهة العربية الأشهر - كانت ذات يوم امرأة طاغية الجمال. وحين انتقدت الملائكة بني الانسان على الاسراف في ارتكاب الخطايا، أنزل الله الملكين: هاروت وماروت إلى الأرض، بعد أن اكتسبا الشهوات الإنسانية. وما أن رأيا العزَّى الجميلة، حتى تحركت شهواتهما تجاهها، فراوداها عن نفسها، لكنها اشترطت عليهما أن يشربا خمراً. وحين أسكرتهما الخمر نسيا كيف يصعدا إلى السماوات، بينما كانت العزَّى عرفت منهما طريقة الصعود. وبعد أن صعدت فعلاً، حاولت النزول إلى الأرض فلم تستطع، فمُسخت نجماً هو "الزهرة" التي كان يعبدها العرب. فإذا عدنا مرة أخرى إلى أرض الواقع، نجد أن هناك العديد من القصص الواقعية، التي اضيفت إليها عناصر خيالية، فتحولت إلى قصص جميلة. من تلك القصص حكاية النعمان بن المنذر ويومي سَعْدِه ونَحْسِه، ووفاء رجل من بني طيّئ جعله يتخلى عن يوم نحسه. وهناك أيضاً القصة الرائعة التي تسرد علاقة الحب العذري بين المرقّش الأكبر، الذي عشق ابنة عمه اسماء بنت عوف بن مالك، وكيف افتدى إخلاصه في الحب - في النهاية - بحياته، ليموت ميتة تراجيدية في أرضها. وعندما أنزل القرآن، فقد أثّر بالإيجاب في فن القص العربي، من خلال تقديم نماذج متعددة غاية في الروعة. كانت أقاصيصه - أول ما نزل - أشبه بالإشارات إلى موضوعات معروفة ومتداولة عند العرب. ثم استعان بالأقصوصة، وهي التي تدور حول شخصية أو حادثة أو فكرة واحدة، من دون العناية بالتفاصيل، ثم: قصة الخليقة، وعدم سجود إبليس لآدم، وقصة الهُدهد مع النبي سليمان، وقصة النملة معه، وقصة بقرة موسى واليهود. ثم يستعين القرآن بالقصص الطويلة، حيث يمتد الزمن وتتعقد الأحداث، وتتعدد الشخصيات، ويتنوع الحوار، مثل: قصة يوسف، وابراهيم، ومريم. والكتاب يتتبع أهم القصاصين عبر العصور العربية المختلفة. ففي بداية ظهور الإسلام، كان النضر بن الحارث بن كلدة من أشد المعادين للرسول صلى الله عليه وسلم. وكان يجلس إلى الناس - حيث يصلي الرسول بالمسلمين - يقص عليهم أخبار الفرس، وقصص رستم واسفنديار، ليصرفهم عن الدين الجديد، ما يؤكد ولوع العرب بفن القص. ومن الصحابة، كان هناك نعيم بن أوس الداري، من أشهر القصاصين. وفي العصر الأموي، كان معاوية يتخذ عُبيداً بن شرية الجرهمي محدثاً وقاصّا، يحيي به لياليه في سماع القصص، وكان يأمر بتدوين ما يسمعه في كتب. وكانت قصص عبيد ترتبط بالبيئة العربية وبأخلاق العرب وعاداتهم، وهي تصور الصراع الإنساني ضد القوى الشريرة، وتصور - في الوقت نفسه - رفض العرب للظلم والضيم. أما وهب بن منبه فقد ألف كتاب "التيجان" في ملوك حمير، وهو ممن كانوا يجلسون في بلاط الأمويين، يقص عليهم أخبار الماضي، وإليه ترجع معارفنا عن خلق العالم وتاريخ الأنبياء، بالإضافة إلى قصص أخرى تتداخل فيها الغرائب ويتسع الخيال، كقصة المغارة التي فيها شداد بن عاد، وهي - في رأينا - أشبه بقصة "الجزة الذهبية" في تراث الإغريق، إلى جانب قصة الصعب ذي القرنين، وقصة إبرهة، وسليمان والهدهد. وهيأ اختلاف الحياة بين سكان الحضر والبادية، واختلاف طرق معيشتهم، إلى ظهور فنين قصصيين، أحدهما شعري والآخر نثري. وتميز القص الشعري في اتجاهين بدوره، الأول أبطاله عمر بن أبي ربيعة والأحوص والعرجي ووضاح اليمن، وهم أصحاب مدرسة الشعر الصريح المكشوف. بينما كانت هناك - على النقيض - مدرسة شعرية أخرى، أبطالها قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وجميل بن معمر وكثير عزة، وهم اصحاب مدرسة الشعر العذري العفيف. على أن أهم ما صادفه فن القص هو تلك الحكايات التي كانت تروى عن مواضيع الحب العُذري، اذ القصة تصور دائماً مأساة حب رجل لفتاة عذراء، وهي تبادله تلك العاطفة، وعادة ما يتغلب الحب على المحب الرجل، فيصرح به في أحاديثه، ويشبب بها في أشعاره. حينئذ، ينتشر أمره، ويعرف أهل الحي وأهل الفتاة بذلك، فيزوجونها من رجل آخر، عادة يكون من مكان بعيد عن متناول المحب. وعندما تصل القصة إلى تلك العقدة، فإن المحب يظل متمسكاً بحبيبته، باقياً على عهده معها، وفي حالات كثيرة قد يؤدي به هذا الوضع إلى الجنون، وفي حالات أخرى الى التلف. ثم يتتبع المؤلف نشأة فن جديد في العربية، هو فن المقامة، وكان أقرب ما يمكن إلى فن القص، ليس بشروطنا ولكن بشروط عصره. واتفق معظم الباحثين على أن المقامات كانت تمهيداً ضرورياً لظهور فن القص في ما بعد، وهي قصص قصيرة إذا قيست بمعايير عصرها. ولم يخرج على إجماع النقاد سوى الدكتور شوقي ضيف، الذي يرى أن القصة لها شروط مختلفة عن المقامة، وأن المقامة ليست سوى حيلة يتم سردها، ومن دون أي بناء قصصي. والمؤلف حين يسرد أهداف كتابة المقامة عند بديع الزمان الهمزاني، فإننا نكتشف على الفور أن المقامة كانت تتبع الأغراض الشعرية نفسها، من مدح وهجاء ووصف وعظة، وإلى جانب أن هدف المقامة كان تعليمياً بالأساس فقد كانت لها فضل عن ذلك أهداف أخرى، يمكن أن نحصرها في الآتي: 1- الطعن في الأدباء، كما في المقامة الجاحظية. 2- النقد الأدبي، كما يظهر في المقامات: القريضية، والشعرية، والعراقية. 3- الهزل والإضحاك، كما في المقامات: المضرية، والبغدادية، والموصلية، والحلوانية، والأصفهانية. 4- الوعظ، كما في معظم المقامات. 5- المدح، كما في المقامتين: الوعظية، والأهوازية. 6- المدح، كما في المقامتين: الناجمية والملوكية. 7- المقدرة اللغوية والتعليم، كما في معظم مقاماته. ولم يختلف فن المقامة عند الحريري عنه عند بديع الزمان، من حيث الأغراض أوالأهداف. لذلك، فإن المؤلف يرى أن فن القص العربي قطع شوطاً بعيداً، لم يقلل منه سوى إهمال النقاد له، واهتمامهم بالشعر وحده. وعلى رغم عدم إيمان الكثير منا بذلك، فإن العلماء في الغرب يقدرون لفن القص دوره المهم في مسيرة الإنسانية. انتقل فن القصة إلى أوروبا عن طريق اسبانيا المسيحية، حلقة الوصل بين الأندلس العربية والغرب. فالقص بمفهوم العصر الحديث، كما يشير الباحث الأسباني أمريكو كاسترو، إنما "يدين بالفضل في وجوده ل"الحديث العربي" الذي كان يعني حكاية ما هو طريف. لقد كان الأوروبيون في ما بين القرنين الثامن والثاني عشر يقبلون في شوق وشغف على تلك الأحاديث التي يقصها العرب في مجالسهم وأسمارهم، من قصص تاريخية ونصف اسطورية". أما الدكتور محمود علي مكي فيُرجع أهم التيارات العربية التي كان لها تأثيرها القوي في إنتاج القصة الأسبانية إلى تيارين بارزين، هما: قصص الفروسية العربية، والمقامات العربية. كذلك، فإن المستشرق "جب" يرى أن "الأدب الإسلامي قد يظهر أنه بعيد عن الأدب الغربي بعداً شاسعاً، بحيث أن فكرة الاتصال بين الادبين قد لا تخطر على بال واحد بالألف من الغربيين المحدثين، إلا أن الباحثين الذين يدرسون تاريخ الأدب الأوروبي، يعرفون كم من عناصر هذا الأدب نسب حينا بعد حين إلى أصل شرقي". * كاتب مصري