Alain Minc. E'Pitres a nos Nouveaux Maitres. رسائل الى سادتنا الجدد. Biblio, Paris. 2003. 220 Pages. آلان منك هو بكل تأكيد واحد من ألمع الاقلام في الثقافة الفرنسية المعاصرة ومن اكثرها لوذعية في آن معاً. فهو لا يكتب الا ليسبح ضد التيار. ومن ثم فان أكثر كتاباته تأخذ طابعاً هجائياً وهجومياً في آن معاً ايضاً. موضوع أهجيته الجديدة هو المفهوم المتعاظم تداوله في الثقافة الفرنسية المعاصرة: "الاقليات الثقافية". نقطة انطلاق آلان منك في تسفيه مفهوم الاقليات الثقافية هو تعريف ماركس المشهور للثقافة السائدة كما ورد في كتابه المشترك مع فريدريك انغلز "الايديولوجية الالمانية": "ان فكر الطبقة السائدة هو ايضاً الفكر السائد في كل عصر. وبعبارة اخرى، ان الطبقة التي تكون هي القوة السائدة في المجتمع مادياً تكون الطبقة السائدة فكرياً". آلان منك لا يتبنى عبارة ماركس الكلاسيكية هذه الا ليقلبها الى نقيضها. فمأساة الثقافة المعاصرة في فرنسا انها ليست ثقافة الشرائح الاجتماعية التي كان يفترض بها ان تكون مسودة والتي استطاعت من خلال مداورتها الحاذقة لمفهوم الاقليات الثقافية ان تجعل من ايديولوجيتها الاقلوية هي الايديولوجية السائدة. من هم هؤلاء المسودون الذين صاروا سادة؟ انهم المنتمون الى الاقليات الثقافية أياً ما كانت هويتها: الجنسيون المثليون، والنسويات، ومناهضو العولمة، والشعبويون الجدد، ونشطاء المنظمات غير الحكومية، والطوائفيون من جميع الملل الدينية والاثنية: المتهورون والمتأسلمون والقوميون الكورسيكيون او الباسكيون او البروتونيون، وبكلمة واحدة، وحسب تعبير آلان منك الهجائي: القبائليون الجدد الذين يريدون العودة بالمجتمع الفرنسي الى ما قبل الأمة وما قبل الجمهورية المساواتية والعلمانية والتقدمية. كيف فازت هذه الاقليات الثقافية، على رغم شرطها المادي الاقلوي بالسيادة الثقافية؟ مرد ذلك، في نظر آلان منك، الى استقالة الطبقة التي كان يفترض بها ان تكون هي السائدة مادياً وثقافياً، اي الطبقة الوسطى. فالسمة الاكثر تمييزاً للتجربة التاريخية الفرنسية انها استطاعت، بفضل الثورة وبفضل الجمهورية وبفضل الديموقراطية وتعميم التعليم وتطور دولة الضمان الاجتماعي، ان تجعل من الطبقة الوسطى الطبقة السائدة ديموغرافياً وايديولوجياً، وهي الطبقة المنتجة للنخبة المثقفة، وهي الممثلة في آن معاً لجماع الأمة. ومن خلال النمو والتقدم الاقتصادي والثقافي المتواصل للطبقة الوسطى، أمكن للتضامن الطبقي في التجربة التاريخية الفرنسية ان يأخذ بعداً قومياً، بحيث غدت الطبقة الوسطى هي مرادف الأمة وهي ممثلة المجتمع وهي صاحبة السيادة في الساحة السياسية. ولكن مدّ الطبقة الوسطى هذا لم يلبث في السنوات الاخيرة ان انحسر مخلّفاً وراءه، كما في كل حالات الجزر، شاطئاً معموراً بحصى الجماعات والاقليات والافراد. فمع تسارع وتيرة النمو الرأسمالي المولّد للتفاوت بين طبقة فوقية بذخية وطبقة تحتية مستبعَدة من "العقد الاجتماعي"، ومع فك التعبئة الايديولوجية عقب سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وإشهار افلاس الماركسية، ومع الثورة المنقطعة النظير في الوقت نفسه في تكنولوجيات الاعلام، أخلت الطبقة الوسطى مكانها لما بات يسمى ب"الرأي العام"، وهو مفهوم هلامي عديم الصلابة الطبقية وقابل قابلية لامتناهية للتشكيل وللتحكم به من قبل المتحكمين بوسائل الإعلام الجماهيري الذين ينتمون، احصائياً على الأقل، الى "الأقليات الثقافية" الجنسية والاثنية والدينية. وقد ترافق هذا التحول الانحلالي للطبقة الوسطى مع انقلاب في وظيفة الانتلجنسيا التي كانت تضمن لها تلاحمها الايديولوجي. فمن "جنود للطبقة الوسطى"، تحول المثقفون الى "كهارب للرأي العام". وأخلى الفكر الصلب مكانه للفكر الرخو. وبدلاً من تجنيد نفسه في خدمة المشاريع المستقبلية البعيدة المدى، وقع أسير منطق اللحظة الحاضرة ومكاسبها السريعة التلاشي. ويستعين ألان منك باللغة الالمانية لتوصيف ما يحدث اليوم في فرنسا. فالمشهد الذي تقدمه هذه الأخيرة هو مشهد غلبة الطائفة Gemeinschaft على المجتمع Gesellschaft، ومشهد غلبة الثقافة Kultur على الحضارة Civilisation، أي في التحليل الأخير غلبة فكر هردر وفيخته وهايدغر على فكر كانط ورينان وهابرماس. ولكن على حين ان المانيا نفسها تحررت من عبادتها للنزعة الخصوصية لتدخل في حقبة ما بعد الحرب، وعلى الأخص ما بعد التوحيد، في طور نزعة كونية جديدة و"وطنية أوروبية"، فإن فرنسا تنكص على نفسها من الكونية التي كانت تمثلها أفكار وقيم الجمهورية والمواطنة والمساواة والعلمانية، الى الخصوصية التي تصدر عنها "الأقليات الثقافية" والناطقون بلسانها من أنصار "الأصالات" والهويات الجنسية والاثنية والطائفية. ومع أن ألان منك يدرج دعاة العداء لأميركا في عداد "الأقليات الثقافية" واصماً إيام بأنهم، في صميم أنفسهم وفي لاشعورهم السياسي، أعداء للفكرة الديموقراطية، فإنه هو نفسه يبدي خوفه من أن يكون النموذج الفرنسي آيلاً الى الزوال لصالح النموذج الأميركي. ففرنسا، التي كونت موروثها القومي المساواتي والعلماني، على أساس الانتماء الى الجمهورية الواحدة وغير القابلة للانقسام، أي غير القابلة للتفتيت الى طوائف واثنيات وهويات ثقافية أو جنسية، تبدو مهددة، في ظل الهيمنة الايديولوجية للأقليات الثقافية، بأن تهوي على منحدر "التعددية الثقافية" على الطريقة الأميركية. أي ان فرنسا مهددة بأن تتحول من أمة مجتمع متلاحم وأمة دولة موحدة الى أمة طوائف، أي أمة غير دامجة لأقلياتها الثقافية، بل "مؤقنمة" لها و"مجوهرة" لها في كيانات وهويات ثابتة ودائمة، وعائشة في خوف دائم أيضاً من أن تُصهر وتفقد "أصالتها" و"خصوصيتها". وفي الوقت الذي يستعيد فيه ألان منك بعداً قومياً للعقد الاجتماعي الفرنسي، فإنه يبدي خوفه وسخطه معاً من أن تكون المعادلة التي طالما ضمنت الاشتغال والنجع للبوتقة الصاهرة الفرنسية هي في سبيلها الآن الى ان تُعكس: فبدلاً من أن تطالب الاقليات الثقافية بحق التمتع بمزايا العقد الاجتماعي الفرنسي على قدم من المساواة مع غالبية الأمة الممثلة بطبقتها الوسطى، فانها تطالب، عن طريق رفع شعار التعددية الثقافية وتقليد النموذج الأميركي القائم على منطق "ما هو لائق أو صائب سياسياً"، بتفكيك العقد الاجتماعي الفرنسي والغاء أهم بندين من بنوده: المساواة أمام القانون والعلمانية التي تحصر جميع حقوق الطوائف في المجال الخاص ولا تقر لها بأي حق في المجال العام. وفي دفاعه المستميت عن العلمانية يرى مؤلف "رسائل الى سادتنا الجدد" ان خطر الطوائفية يأتي في فرنسا من مصدرين: الاسلام السياسي واليهودية السياسية. فالاسلام السياسي افتعل معركة الحجاب كيما يشل البوتقة الفرنسية عن الاشتغال، واليهودية السياسية أدخلت يهود فرنسا في متاهة الولاء المزدوج لفرنسا ولاسرائيل. وفي الوقت الذي لا يخفي فيه ألان منك انتماءه بالولادة الى اليهودية، فإنه يلاحظ ان خطر ازدواجية الولاء عند يهود فرنسا قد تفاقم منذ أن تحولت فرنسا نفسها عن سياسة التحالف اللامشروط مع اسرائيل الى سياسة النقد لممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك منذ أن تدفقت على فرنسا بعد حربي 1967 و1973 أعداد غفيرة من المهاجرين من يهود المغرب العربي الذين هم أشد تمسكاً بطائفيتهم من يهود فرنسا المتعلمنين.