أثار الأستاذ حازم صاغيّة موضوعاً مهماً يستحق المتابعة وهو «الديموقراطيّة والعلمانيّة معاً» (الحياة 14 أيلول/سبتمبر 2010). ونعلم أنّه لضيق المساحة لم يزوّد صاغية الموضوع بتفاصيل مما في جعبته من أفكار. وبرأينا أنّه كما في الديموقراطية درجات كذلك في العلمانية درجات. فالعلمانية بالمعنى التطبيقي عبارة فضفاضة تجعل من دول كلبنان وسورية، متعددة الأعراق والمذاهب، علمانية، بصرف النظر عن مستوى أو نمط ممارستها الديموقراطية. ولذلك، وكما سنوضح أدناه، يمكن دولةً أن تكون ديموقراطية ولا تكون علمانية، وأخرى أن تكون علمانية من دون ديموقراطية غربية (بل ربما ضمن «ديموقراطية شعبية»). والامتحان الأول هنا هو ما إذا كان ثمّة حاجة للعلمانية العميقة في أي بلد لا يضمّ نسبة كبرى من الجماعات الدينية أو العرقية. ظاهرياً، معظم دول العالم اليوم مجتمعات متعدّدة في سكّانها، حتى تلك التي نظنّها تقتصر على لغة واحدة أو اثنية واحدة أو ديانة واحدة. إذ ثمّة أكثر من 200 دولة في العالم اليوم يتحدّث سكانها أكثر من 600 لغة رئيسة وينتمون إلى 6000 جماعة اثنية. ومن أوضح الأمثلة اليوم الولايات المتحدّة الأميركية التي تحتوي جماعات اثنية وديانات بلغت المئات في تنوّعها. وفي الحقيقة، من السهل على الدولة التي تتمتّع بغالبية دينية/عرقية صريحة أن تذهب بعيداً في علمانيتها. فثنائية الديموقراطية والعلمانية حتى في قالب ديموقراطي غربي مسألة معقّدة تتحدّاها أكثريات وأقليات داخل كل بلد. ففي كل مكان، وليس في تركيا فحسب، أجريت محاولات بناء أنظمة ديموقراطية مستقرّة ولكنْ واجهتها انتفاضات عنف بسبب مطالب القوميات والجماعات الدينية الناهضة. ويتّضح هذا النوع من العنف ليس في أكراد تركيا فحسب أو في صعود الإسلام التركي منذ نهاية الحرب الباردة عام 1990، بل في كيف انهارت دول أوروبا الشرقية التي غرقت في العنف الإثني والطائفي (يوغوسلافيا مثلاً). في الممارسة، تبيّن للديموقراطيات الغربية منذ الستينات – وأيضاً بسبب وفود ملايين المهاجرين السمر إلى أراضيها - أنّ الديموقراطية العلمانية التي تعامل المواطنين كأفراد لم تكن كافية لوقف العنصرية والاضطهاد والتمييز على أسس العنصر والدين واللغة والاثنية. فكان لا بد من إعادة حقوق الأقليات لتحسين ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وظهرت حقوق الجماعات كإجراءات موقتة بعضها غير مكتوب، كانتشار مدارس دينية في أوروبا وأميركا الشمالية وبناء المساجد وإنشاء الجمعيات والاحتفال بالمناسبات وحقوق الوظيفة (وربما كان لبنان نموذج دولة ديموقراطية لم تحتج المرور في تحولات كتلك التي شهدتها أوروبا حول حقوق الأقليات. إذ رأى لبنان باكراً ضرورة ضمان حقوق الأقليات فأدرج تقليد المحاصصة المذهبية منذ 1943). وما جعل الحاجة ملحّة لحماية حقوق الأقليات في أوروبا هو انفجار غير مسبوق في العنف ضد أقليات دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتشار التطهير العرقي والديني ضد الأقليات منذ 1990. فباتت رومانيا وجورجيا وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة تريد أن تصبح ديموقراطية غربية مع المحافظة على علمانيتها الماركسية اللينينية. ولكن طريقها إلى الدمقرطة كان يتطلّب الاعتراف بحقوق الأقليات الاثنية والدينية واللغوية على أراضيها. أعتقدُ أنّ معظم دول العالم اليوم، ومنها تركيا، وصل إلى خلاصة مفادها أنّ مزيجاً من حقوق الفرد وحقوق الجماعات الدينية والأقلوية (ولنسمّ ذلك علمانية صغرى) هو الحلّ للوصول إلى سلم أهلي واستقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي داخل كل دولة، وأنّ من ظن بإمكانية إزالة الدين من المجتمع بقرار علماني فوقي كان حالماً وطوباوياً. ولكن يجب ألا يعني التفاهم على حقوق الجماعات أن يكون على حساب حقوق الأفراد الذين ارتضوا بالنظام العلماني، في تركيا أو غيرها. لأنّ الدولة أولاً وأخيراً ترعى مواطنين أفراداً في شكل يومي في دوائرها في ضبط الأمن وجمع الضرائب وتوزيع الخدمات والعدل. وهنا مخاطر معادلة إضعاف العلمانية التي يمكن أن تذهب بعيداً لتهدّد حقوق الأفراد. ولنقس على ظروف لبنان، حيث أصبحت اليوم كل طائفة أمّة على حدة، لها سلطة شبه مكتملة على رعاياها من المهد إلى اللحد. فيُضرب من يخرج على هذا الإجماع ويريد أن يكون علمانياً فقط ويُتهم بالخيانة إن هو انتقد الاتجاهات السائدة في المذهب الذي ينتمي إليه أو طالب بالزواج المدني أو اختار أن يكون ملحداً. ثم مَن قال إن فرنسا نموذج العلمانية الذي يجب أن يحتذى؟ فما ساعد فرنسا على اعتماد الدولة العلمانية عام 1905 أنّ أكثر من 95 في المئة من سكانها آنذاك كانوا على المذهب الكاثوليكي لا شعباً من أديان عدّة، إذ لو كان نصف سكان فرنسا من الكاثوليك وربعهم من المسلمين والربع الباقي من اليهود والبروتستانت، لكان في وسعنا الجزم بأنّ نظام فرنسا اليوم كان ليختلف تماماً عما أصبح عليه. وحتى اليوم فإنّ نسبة الكاثوليك في فرنسا لا تزال أكثر من 80 في المئة من السكان، ودولة فرنسا هي الأكثر تدخلاً على رغم علمانيتها في شؤون الدين، وخاصة في شؤون المسلمين الذين يشكلون 10 في المئة من السكان، فيما يشكو المسلمون واليهود من أنّ الكاثوليك في فرنسا ما زالوا يتمتعون بامتيازات خاصة في المدارس والضرائب ومناصب الدولة ووظائفها حتى بعد مئة عام من النظام العلماني. المشكلة في أنّ المفكّرين والمثقفين العرب وخاصة الذين نشأوا على الثقافة الفرنكوفونية قد تلقّنوا ثقافة غربية على النموذج الفرنسي في العلمنة، لواقع محليّ عربي (خصوصاً في لبنان) معقد. لأنّ واقع مجتمعاتهم لم يكن يتطّلب هذه المثالية، إذ إنّ العلمانية الفرنسية ليست لباساً واحداً لكل المجتمعات. وثمّة درجات كما قلنا بين علمانية فرنسية تفصل بين الدولة والكنيسة ولا تروّج لأي دين أو تدعم الكنيسة، وعلمانية شيوعية ملحدة حيث لا يعود مهمّاً فصل الدين عن الدولة لأن الدولة قضت على الدين. ويقابل هذين النموذجين في المقلب الآخر الدولة الثيولوجية في بلد يحكمه رجال الدين كإيران أو دولة تدّعي العلمانية وواقعها ثيولوجي تقتصر شرعيتها على ديانة اليهود كإسرائيل. وبين العلمانية الصارمة والدولة الدينية ثمّة عشرات التراكيب الممكنة التي تتلاءم مع واقع كل بلد. وهناك أمثلة على دول طبّقت العلمانية بموجب النموذج الفرنسي ولكنّ علمانيتها كانت مصطنعة. فعلمانية الدولة في تركيا فرضها بالقوّة ولعدّة عقود نظام شبه ديكتاتوري. وكان الجيش يتدخّل مراراً في السياسة في تركيا بحسب العقيدة «الكمالية» التي تناقضت أحياناً مع تاريخ الدولة (كيف يمكن لتركيا كدولة أن تتخلّى عن الخلافة الإسلامية عام 1924 وأن تصبح دولة علمانية أوروبية في اليوم التالي تعتمد الحرف اللاتيني وتطلّق تراثاً امتدّ قروناً، حتى لو أُدخلت عليها اصلاحات مهمة). يجب أن يقبل المجتمع طواعية وعبر تحوّل ثقافي وتربوي مديد التغيير لكي تصبح الدول علمانية فعلاً. * أكاديمي لبناني مقيم في كندا