ليس كل الاستشراق سيئاً، هذا ما تجب الإشارة إليه استبعاداً لأي تعميم غير علمي ولا موضوعي. إذ ان كثيراً من ذلك الاستشراق ينسب إليه الفضل في الكشف عن أهم كنوز التراث العربي والإسلامي، وبعضه عكف على وضع المصنفات الهائلة وتبويبها وفهرستها وتوفيرها للعالم، وللباحثين في كل أرض. ولا ينكر إلا مجحف ان كثيراً من الوعي الإسلامي المعاصر للتراث الإبداعي للعرب والمسلمين مرّ عبر بوابة الاستشراق المنصف. لكن، هناك استشراق آخر هو الاستشراق السيئ، المحمول على روح عدوانية ضد الشرق، وليس المدفوع بحب البحث والاستكشاف. فهذا الأخير تحالف مع الغزو العسكري على المنطقة، وعمل خادماً له، فكان أن حاول رسم صور تفصيلية لجغرافيا وتاريخ واجتماع المجتمعات المستهدفة بالغزو والاستعمار. من الصور السالبة والبشعة التي رسمها الاستشراق السيء عن "العربي" تلك التي تصفه بالوحشية، والجبن، وعدم القدرة على المنازلة المباشرة، والنزوع الى الغدر والخيانة. هذه الصورة لا تطابق تاريخ العرب، حتى في حقب ما قبل الإسلام. بل على العكس، كانت قيم الشجاعة، والنخوة، والكرم، والقتال الشريف، والإيفاء بالوعد، والاستعداد للموت من أجل الآخرين، صفات ملازمة للعربي. وفي عهود الفتوحات كان الإسلام ينتشر في أرجاء الأرض بسبب تلك القيم ونظراً لأثرها الكبير على شعوب ومجتمعات البلدان المنضوية جديداً تحت السيطرة الإسلامية. ويقر الاستشراق الموضوعي نفسه بأن ما نشرته تلك القيم عن العرب والدين الجديد لا يقارن بما نشره السيف. ففي كل حين، شائع، ترافقت وتسابقت فيه تلك القيم مع السيف كان السيف نفسه مرحمة، ولم يقطر دماً وثارات. وفي كل حين، أقل شيوعاً، سبق فيه السيف تلك القيم، بل وأحياناً داسها، كان السيف يتحول الى ملحمة ويظل يقطر بالدماء ونداءات الانتقام من المهزومين. في الحالات الثانية، لم يستقر الإسلام في أي منطقة وصل إليها، بل نظر اليه نظرة المحتل والغازي، وظل يعاني من المقاومة الى ان طرد وشرد الى حيث أتى. من الصين الى آسيا الوسطى، الى شرق وغرب أفريقيا، وصولاً الى قلب أوروبا والأندلس، كانت القيم الجميلة هي حمّالة الدين والثقافة الجديدة. كانت الشعوب والمجتمعات في تلك الأمصار تستقبل الفاتحين ليخلصوهم من استبداد داخلي، أو تهديد خارجي بالاستئصال والإبادة. في حالات كثيرة، تذكر كتب التاريخ صوراً مشرقة عن الفاتح العربي الذي يخرج من مدينة فتحها بعد ان يحاججه أهلها بأنه لم يعطهم إنذاراً بالحرب، أو لم يلتزم أخلاق الحرب التي ينص عليها دينه، كما تذكر لنا صوراً مشرقة عن تقاليد الحرب التي فرقت بين مدنيين ومحاربين. فحفظت الأمن والأمان للشيوخ والأطفال والنساء والرهبان وغيره من غير المحاربين. كانت تلك التقاليد قد رُسمت قبل أربعة عشر قرناً من اتفاق جنيف ووصول العالم المتحضر اليها. كان المسلمون ممنوعين من الإضرار بالشجر، أو الحيوان خلال الحرب والفتوحات. كانوا يمارسون السلم والحرب برقي حضارة سبقوا كل الثقافات والحضارات الأخرى إليه. أما الآن، في الحقبة الإسلامية المظلمة التي صار يرسم عنوانها الإجرام القاعدي الأعمى. فقد تردى ذلك الرقي العربي الإسلامي الى أسوأ مراحله التاريخية لا إنسانية ووحشية. فجأة، يصبح التربص بالمدنيين الآمنين والغافلين هو "الاستراتيجية" المتبعة، يصبح تفجيرهم وقتلهم بلا هوادة ورحمة هو "القتال الإسلامي". ونصبح ونمسي على "غزوة" اجرامية تلو أخرى. فكما كان ضحايا "غزوة نيويورك" آلاف عدة من المدنيين، تبعهم مئات عدة من المدنيين في "غزوة بالي" الأندونيسية، ها نحن نرى وحشية وإجرام ذلك القتال في "غزوة مدريد". كل هذه "الغزوات" مقرفة إنسانياً، وأخلاقياً، وسياسياً، واستراتيجياً. والمحاججة الفارغة التي سرعان ما تقول إنهم يقتلون مدنيينا أيضاً فلماذا لا نقتل مدنييهم لا معنى لها، إذ ليس هناك استهداف مباشر للمدنيين العرب أو المسلمين ووضعهم هدفاً مباشراً كما تمّ ويتم في هذه الغزوات. ماذا لو كانت "القاعدة" تملك حقاً قنبلة نووية أو أسلحة كيماوية، كما يملكون، هل كانت ستنتظر حتى تطلقها في شوارع المدن الغربية لتقضي على "الغرب" ومدنييه؟ سيقول قائل ان في هذه السطور استعجال باتهام "القاعدة" بأنها وراء تفجيرات قطارات مدريد، وليس هناك من دليل ثابت بعد، هذا بالضبط ما قاله صاحب هذه السطور بعد تفجيرات نيويورك، حيث دافعنا دفاع المستميت، بالعربي والإفرنجي، ضد الاتهامات المتسرعة بإحالة المسؤولية على أطراف عربية أو إسلامية استئناساً بتفجير المبنى الفيديرالي في أوكلاهوما سنة 1993 عندما اتهم العرب، فتبين ان الفاعل أميركي. لكن، خابت توقعاتنا، واضطررنا لبلع دفوعاتنا عندما تفاخر بن لادن بأنه وراء تلك "الغزوة"، التي أثمرت بغبائها عن تسليم أفغانستانوالعراق هدية رخيصة للولايات المتحدة، وأطلقت يد شارون في فلسطين كما لم تُطلق من قبل. فبعد قليل سيخرج علينا "الأمير" المغوار بشريط يعلن فيه عن مسؤولية "مجاهديه" عن "غزوة مدريد" ويبرر انه أراد ان يعاقب الشعب الذي يرضى بأن تدخل حكومته الحرب ضد العراق. يريد ان يعاقب الشعب الذي كان 90 في المئة منه ضد الحرب، وسارت ملايين منه في شوارع المدن الاسبانية متظاهرة ضد الحكومة، ثم أسقطتها لاحقاً وحديثاً - كما لم يحدث في اي بلد من بلدان العرب والمسلمين. أين البطولة أو الشجاعة أو الجرأة أو النبل في تلغيم وسائل المواصلات المدنية، وإراقة دماء الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحدث للعرب والمسلمين؟ أليست مثل هذه الجرائم مثالاً ذهبياً على ما دأب الاستشراق السيئ ترويجه عن صورة العربي: القاتل الذي لا يرحم، والغادر الذي لا يقاتل بشرف؟ لم نعد نحتمل هذا الذي يُنسب إلينا من فعل أيدينا، وكأنه لم يعد يكفينا ما يُكال لنا من خصومنا، وليس ثمة قدر من المروءة أو الأخلاق يمكن ان يتحلى بها أي مدافع أو مبرر عن هذه الجرائم مهما كانت المسوغات. وكثيرة هي المسوغات التي ستساق، فحال بلداننا والظلم الواقع على شعوبها، إن من الداخل او الخارج، ليس بخاف على أحد. لكن لا يمكن ان يكون هذا مبرراً لأن تتحول الضحية الى أسوأ من جلاديها. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا.