تزايدت في الشهور الأخيرة وتيرة عمليات خطف الرهائن في العراق واحتجاز المدنيين بشكل يدعو كل مسلم إلى القلق الحقيقي على صورة الإسلام ومستقبل علاقته مع الديانات الأخرى حيث اختلطت المقاومة المشروعة ضد جيش الاحتلال الأجنبي بعمليات ذبح الرهائن ونحر المحتجزين. ومعظمهم - إن لم يكن كلهم - لا علاقة لهم بما جرى أو يجري. فهم ذهبوا إلى العراق إما عاملين في شركات أجنبية أو عربية وإما بمبادرة فردية للبحث عن مصدر للعيش خصوصاً الذين قدموا من دول فقيرة طلباً للرزق مثلما حدث لاثني عشر نيبالياً، لا أتصور أن أعمالهم تجاوزت الخدمات البسيطة أو عمليات تنظيف المكاتب والمهام المتواضعة التي لا يقدم عليها إلا ذوو الحاجة، فإذا بهم صرعى رصاص أحمق برع في صنع الأعداء واكتساب الخصوم حتى خرج فقراء نيبال يحرقون المسجد رمز الإسلام الذي يبدو أمامهم وكأنه قاتل الأبرياء وذابح المستضعفين ثم اتجهوا إلى السفارة المصرية بالعاصمة كاتمندو في هجوم بالحجارة وتبادل لإطلاق النار لمجرد أن السفارة المصرية هي التي ترعى المصالح العراقية في تلك الدولة الجبلية فقيرة الموارد وعرة المسالك. وبذلك نجحنا - والحمد لله - في اكتساب عداوة شعب بأكمله تجاه الإسلام والعروبة في وقت واحد، كما أن غيرهم من الرهائن الذين ذبحهم الخاطفون ذبح الخراف في وحشية يرفضها الشعور الإنساني العادي وترتجف لها أحاسيس البشر، بدت هي الأخرى حلقة في سلسلة تشويه صورة الإسلام والمسلمين. إننا لا نعترض على المقاومة ضد قوات الاحتلال بعد غزوها لأرض العراق ونرى أن المبررات القومية والقانونية والأخلاقية متوفرة تماما في ذلك، لأن سيادة الشعوب لا تقبل الانتهاك، كما أن حرية العراقيين هي حق تاريخي وطني لا جدال فيه. ولكن الأمر الذي يؤرقنا جميعاً - مسلمين وعرباً - هو تلك الممارسات التي بدت وكأنها اختراق لصفوفنا ومؤامرة على مستقبلنا. ويدخل في هذا الإطار أيضاً تلك المذبحة الدامية ضد الأطفال الأبرياء ضحايا المدرسة في اوسيتيا الشمالية والتي روّعت كل أسرة في أرجاء الدنيا وأظهرت المسلمين بمظهر القتلة الذين يمارسون أعمالاً بربرية ويمثلون خطراً على الإنسانية، ناهيك عن عشرات الأحداث الأخرى والتفجيرات العشوائية بدءاً من جزيرة بالي مروراً باستراليا واندونيسيا وصولاً إلى أسبانيا وغيرها من دول العالم في هجمة تبدو مخططة لإلصاق الإرهاب بالمسلمين رغم أن لنا قضايا عادلة وحقوقاً مشروعة، ولكن الدخان الكثيف الذي يتصاعد من تلك الجرائم يحجب الحقيقة ويطمس الحق ويشوه تماماً صورة دين يدعو في جوهره إلى التسامح والاعتدال واحترام الآخر. وتحضرني الآن سطور كتبها أديب مصري معروف بعباراته التي تفيض عاطفة وتنطق إحساساً. لقد كتب مصطفى لطفي المنفلوطي منذ أكثر من تسعين عاماً في كتابه الشهير"النظرات"تعليقاً على"المسألة الأرمنية"ومذابح الأتراك المسلمين التي مارسوها في وحشية ضد تلك القومية المسيحية الضعيفة في ذلك الوقت، يقول المنفلوطي:"أيها المسلمون إن كنتم تعتقدون أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق غيركم فقد اسأتم بربكم ظناً وأنكرتم عليه حكمته بأفعالكم وتدبيره في شؤونه وأعماله وأنزلتموه منزلة العابث اللاعب الذي يبني البناء ليهدمه، ويزرع الزرع ليحرقه، ويخيط الثوب ليمزقه، وينظم العقد ليبدده... ولو جاز لكل إنسان أن يقتل كل من يخالفه في رأيه ومذهبه لأقفرت البلاد من سكانيها". ثم يستطرد قائلاً: عذرتكم بعض العذر لو لم تقتلوا الأطفال الذين لا يسألهم الله عن دين ولا مذهب قبل أن يبلغوا سن الحلم، والنساء الضعيفات اللواتي لا يحسن في الحياة أخذاً ولا رداً... أما وقد أخذتم البريء بجريرة المذنب فأنتم مجرمون لا مجاهدون وسافكون لا محاربون"، ثم يستكمل الأديب المصري كتاباته في مطلع القرن الماضي وكأنه يعيش بيننا الآن فيقول"أيها المسلمون اقتلوا ما شئتم وشاءت لكم شراستكم ووحشيتكم ولكن حذاري أن تذكروا اسم الله على هذه الذبائح البشرية فالله سبحانه وتعالى أجل من أن يأمر بقتل الأبرياء أو يرضي باستعطاف الضعفاء فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين". ثم يفرق الكاتب الراحل الكبير بين مقاومة الظالمين والحرب على الغزاة والطغاة في جانب وبين الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين الأبرياء في جانب آخر فيقول"عذرتكم لو أن هؤلاء الذين تريقون دماءهم كانوا ظالمين لكم في شأن من شؤون حياتكم.. من أية صخرة من الصخور أو هضبة من الهضبات نحتم هذه القلوب التي تنطوي عليها جوانحكم ولا تروعها أنات الثكالى ولا تحركها صرخات الضعفاء". وأود هنا أن أطرح بعض الملاحظات المتصلة اتصالاً وثيقاً بالأحداث الأخيرة التي أقلقت المسلمين في كل مكان وأشعرتهم بأن الجرائم التي تحدث من اختطاف رهائن وذبح أبرياء هي محاولة لوضع الإسلام والمسلمين في موقع الإدانة مع أنهم أصحاب للحق وأهل للإشادة وتلك الملاحظات هي: أولاً: إن الذي حدث في الفترة الأخيرة يعطي مؤشراً لانحراف المقاومة عن مسارها الطبيعي واتجاهها الى نوع من الجرائم السهلة في شكلها الفظيعة في نتائجها والغريب في الأمر أن الحابل اختلط بالنابل، فمرة تكون الفدية المطلوبة هي قرار تعلنه احدى الشركات العاملة في العراق بإيقاف نشاطها أو موقف مطلوب من دولة لها وجود عسكري في بلاد الرافدين. ولكن الغريب هو أن بعض تلك المنظمات المجهولة الهوية بدأت تطلب ايضاً فدية مالية في ابتزاز واضح يخرج عن إطار الكرامة الوطنية ومشروعية المقاومة الشعبية ضد القوى الأجنبية. ثانياً: إننا في الحقيقة لا نكاد نميز بين تلك الأعمال البربرية وبين أعمال شبيهة في نتائجها تقوم بها قوى الاحتلال الغاشم سواء في فلسطين أو العراق، ولا شك أن الذين يقومون بالاختطاف وحجز الرهائن هم إما ضعيفو الثقة بالله والوطن أو أنهم لا يدركون مغبة ما يفعلون. إننا نستمع كل يوم إلى أحاديث مستفيضة عن مشروعية المقاومة، ولكن الذي لا نقبله هو أن يجري اختزال هذه المقاومة الباسلة في تلك العمليات المشبوهة. ثالثاً: إننا لا نعرف حتى الآن وبشكل محدد من الذي يقف وراء تلك العمليات التي تنال من صورة المسلمين وتترك بصمات سلبية على مستقبل علاقاتهم بالعالم الخارجي، هناك من يرى انه بن لادن وتنظيم"القاعدة"أو أبو مصعب الزرقاوي وجماعته، ولا نعرف حتى الآن يقيناً أي هذه التنظيمات مسؤول عن تلك الجرائم ام أنها تنسق أدوارها بشكل خفي حتى تصبح ذات صوت مسموع ومواقف متطرفة، ومثل هذه الافعال لا تستقيم مع تطلعنا جميعاً لاستقرار المنطقة وسلامة شعوبها. رابعاً: إنه في الوقت الذي يناقش الغرب فيه قضايا الإصلاح الشامل وحقوق الإنسان المعاصر، تبدو مثل هذه الجرائم كالبقعة السوداء في الثوب الأبيض وهنا تكمن الخطورة إذ أن داعمي القضايا العربية والمتعاطفين مع الشعوب الإسلامية ومؤيدي برامج الإصلاح في المنطقة لا يتفهمون تلك التصرفات الخرقاء ويصبحون عاجزين عن مواصلة الدعم المعنوي والسياسي لقضايانا العادلة بسبب ما ينتج عن تلك الجرائم من آثار ونتائج تنعكس بالضرورة على حجم المساندة الدولية للقضية الفلسطينية والمسألة العراقية. خامساً: إن المؤسسة الدينية الإسلامية لم تقم بدورها المطلوب بل ظلت محدودة التأثير محلية المواقف مع ان الإسلام ليس كذلك أبداً. وحسناً فعل الداعية الإسلامي المعروف الشيخ يوسف القرضاوي عندما قام بنفي صدور تصريح عنه يدعو فيه الى قتل المدنيين في العراق. فالمؤسسة الدينية الرسمية في العالمين العربي والإسلامي ضعيفة التأثير متهالكة البنيان يقودها موظفون أكثر منهم، علماء دين ولم يتخذوا من المواقف الدينية والقومية ما ويبرئ تلك الجرائم ويبرأ ساحة المسلمين منها كما وقفت حدود إدانتهم على التصريحات العابرة والبيانات المكررة، بينما يحتاج الأمر إلى عقد لقاء مشترك بين أئمة المسلمين - سنة وشيعة - لفك الارتباط كاملاً بين الإسلام الحنيف وتلك الجرائم الوحشية. هذه ملاحظات قصدنا منها تصوير الواقع وتشخيص الحالة لكي نبدي قلقنا على صورة ديننا في المستقبل ومخاوفنا من فاتورة باهظة الثمن يدفعها بسطاء المسلمين والعرب في حياتهم اليومية لدى الدول الاجنبية. ونحن ندعو بهذه المناسبة الى انعقاد جلسة طارئة لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي يبحث فيها أصحاب الحل والعقد من زعماء المسلمين في ما يتعرض له الإسلام والمسلمون من تصرفات سلبية وممارسات غبية وجرائم يقع في مقدمها اختطاف الرهائن وذبح الأبرياء ونحر العمال الفقراء وقتل الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، وليعلن المؤتمر بصوت مرتفع أننا مع المقاومة المشروعة ضد قوات الاحتلال الأجنبي ولكننا ضد قتل المدنيين عمداً والتفاخر بذلك على شاشات التلفزيون ومواقع الانترنت. فإذا لم تجتمع منظمة المؤتمر الإسلامي في مثل هذه الظروف فمتى تجتمع إذاً؟ إن صمت المسلمين جريمة في حقهم قبل غيرهم ولا بد أن تكون الإدانة والرفض قاطعين. فالمقاومة ضد الاحتلال شيء والعبث بحياة الأبرياء شيء آخر، إنه صمت سيؤدي الى آثار سلبية إذا استمر، وسيترسب في ذاكرة الأمم وأعماق الشعوب ليصنع أزمة ثقة كبيرة بين المسلمين وغيرهم ويزرع من المخاوف ما يجعلنا نقول بحق إننا لم نتدارك ما يحدث فإن الكراهية المتبادلة ستظل قائمة وموجات العنف العشوائي ستكون مقبلة، وإذا كنا ندين إرهاب الدولة في إسرائيل وبطش قوات الاحتلال في العراق فإننا يجب أن نعتصم بالمقاومة المشروعة والمواجهة الباسلة والنضال الصبور. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.