الغز Oghuz هي التسمية العربية لفرع من القبائل التركية التي كانت تقطن، قبيل ظهور الاسلام، رقعة واسعة من أواسط آسيا تمتد من تخوم الصين شرقاً الى البحر الأسود غرباً. يقول ابن خلدون: "وكان الظهور فيهم الأتراك لقبيلة الغُز من شعوبهم، وهو الخوز، الا أن استعمال العرب لها عرَّب خاءها المعجمة غيناً، وأدغمت واؤها في الزاي الثانية فصارت زاياً واحدة مشددة" . وكانت هذه القبائل في معظمها تعيش على الرعي وتربية الخيول، واشتهر ابناؤها فرساناً ورماة بالقوس والنشّاب، ويذكر ابن خلدون "ان أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام". ويحدثنا المروزي - الذي كتب في حدود سنة 514ه 1120م - عن هؤلاء الأغزاز في موطنهم الأول في أواسط آسيا فيقول: "الترك أمة عظيمة كثيرة الأجناس والأنواع، كثيرة القبائل والأفخاذ... ومن قبائلهم العظيمة الغُزِّيَّة... فأما الذين يسكنون البراري والصحارى، وينتقلون شتاء وصيفا، فهم أشد الناس بأسا، وأصبرهم على القتال والحروب... ونساؤهم يحاربن مثل الرجال، وانهن يقطعن أحد الثديين لترجع القوة كلها الى الذراع، وكي تخف أبدانهن ويثبتن على صهوات الخيل... ولا يمنعن من قطع الآخر الا حاجتهن الى رضاع أولادهن واستبقاء النسل، وانما يقطعن الواحد لئلا يحبسهن عن رمي النشاب على ظهور الخيل". كان اعتناق الغُز للاسلام في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فأخذ أمراء المسلمين في تجنيدهم في جيوشهم للقيام بغزوات الجهاد، وقد عرفوا لدى المؤرخين العرب باسم "التركمان"، ولدى الروم البيزنطيين باسم "Ouzoi". ومن أشهر قبائلهم السلاجقة الذين انتزعوا الأناضول آسيا الصغرى من أيدي الروم البيزنطيين بعد انتصارهم الكبير في وقعة مانزيكرت سنة 1071م، وسيطروا على معظم بلدان الشرق الأدنى في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي والأتراك العثمانيون هم أبناء عمومتهم . وفي المصنَّفات المغربية ترد كلمات "الغز" و"الأغزاز" و"الغُزِّيون" و"الغُزِّية" للدلالة على الجنود المرتزقة من التركمان الذي وفدوا الى شمال افريقيا عن طريق مصر منذ منتصف القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي. قام الغز بعد اعتناقهم الاسلام - بفضل قِسِيِّهم وخيولهم الخفيفة السريعة الحركة - بدور بارز في الذود عن أرض الاسلام في المشرق، كما فعل معاصروهم المرابطون في المغرب والأندلس. وكان الصليبيون - بخيولهم ودروعهم الثقيلة - يخشون هجماتهم، لما كان يتمتع به هؤلاء الغز من خفة وسرعة في الحركة، واجادة لأسلوب الكر والفر في القتال، وحذق في رشق النبال، يرمون بالنشاب وهم على متون جيادهم . ويحدثنا مؤرخ فرنسي شارك في الحملة الصليبية الأولى عن قتال السلاجقة ضد الصليبيين في معركة دوريلايوم Dorylaeum في غرب الأناضول 1097م فيقول انهم "رماة بالنشاب، وكانوا كلهم من الفرسان، أما نحن الصليبيون فكنا مشاة وفرسانا... ووسط الصيحات وقرع السلاح ودوي الطبول، أمطرنا الأتراك بوابل من النبال، فبهتنا وكدنا نهلك، وجرح الكثيرون منا، وولينا الأدبار. وليس هذا بالأمر الغريب، اذ ان مثل هذا الاسلوب في القتال لم يكن مألوفاً لدينا" . ويضيف هذا المؤرخ الصليبي ان الأتراك كانوا ينصبون الكمائن ثم يرشقون بالنبال، وهم واثقون من شجاعتهم. وجيادهم سريعة الجري، مما يساعدهم على الكر والفر . كان المحاربون الأتراك أسرع وأكثر مرونة في المناورة من الفرنجة، وقد عزي ذلك الى سرعة جيادهم وخفة أسلحتهم. كان القوس سلاحهم الرئيسي، وكانوا يحملون كذلك التُرس والرمح والسيف والهراوة، وهي أخف من أسلحة أعدائهم الثقيلة. واستغل الفرسان الأتراك ذلك من أربعة وجوه: فكان بوسعهم أولاً البقاء بعيداً عن عدوهم، مختارين اللحظة المناسبة لهم لشن الهجوم، ويلجأون الى الكر والفر. وثانياً، استخدموا كثيراً التصنع في الانسحاب، فينسحبون أحياناً لأيام عدة بغية انهاك الفرنجة وابعادهم عن قواعدهم، ونصب الكمائن لهم. وثالثاً، فانهم بفضل خفتهم وحركتهم كذلك كانوا يهاجمون العدو ويجبرونه على القتال أثناء زحفه، مركزين على ساقة الجيش . والى جانب سرعة الحركة mobility، كانت الميزة الأخرى لقتال السلاجقة الرمي بالنُشاب، يرشقونها وهم على صهوات جيادهم من دون توقف وحتى عند التقهقر، كان بوسعهم الدوران فوق سروجهم ورشق نبالهم على مطارديهم. وكانت النبال تخرق دروع الفرنجة من دون ان تجرح لابسيها في كثير من الأحيان. وكثيراً ما شبه من كان يتعرض لهذه الهجمات بالقنافذ هم وخيولهم. وكان من نتيجة ذلك القضاء على تماسك العدو، والحاق الخسائر لا بالرجال فحسب بل وبالخيول أيضاً. ولما كان الفرنجة يعتمدون في انتصاراتهم في المعارك على هجمات فرسانهم، فإن الأتراك كانوا يدركون أهمية تدمير خيول أعدائهم. وبعد انهاك العدو وإرباكه، كان الأتراك يواقعون العدو بالرماح والسيوف. ولم يكن الأتراك على عجل لمواقعة العدو، بل كانوا يمهدون لذلك برشق العدو بالنبال لانهاكه وتفريق شمله، والحاق الخسائر برجاله وخيوله، ثم يختارون اللحظة المناسبة للاشتباك مع العدو . وبعد شبه الكارثة التي حلت بالصليبيين في موقعة دوريلايوم، تبيّن للقادة الصليبيين أن أساليبهم الحربية التقليدية لا تصلح لمجابهة فرسان السلاجقة الذين كان من عادتهم ان يبدأوا هجومهم برمي النبال من بعيد فترة من الزمن على أمل ان يحملوا العدو اما على شن هجوم سابق لأوانه - وكان بوسع فرسان الأتراك ان يتفادوا هجوماً من هذا القبيل بسهولة - واما ان يفرقوا بين صفوف العدو، وبذلك يتسنى للأتراك شن هجوم بالرماح والسيوف، مستغلين الثغرات في صفوف الأعداء. كان الغز السلاجقة من الأنصار المتحمسين للاسلام السُنّي، ولمحاربة الصليبيين في بلاد الشام ومصر. ولكن الفاطميين في مصر لم يكونوا مرتاحين لقدومهم الى مصر لصد حملة صليبية على البلاد. فقد كتب السلطان نورالدين زنكي الى الخليفة الفاطمي العاضد في القاهرة مهنئاً برحيل الفرنج عن ثغر دمياط، وتلقى كتاباً من العاضد يشكو فيه من الأتراك في مصر. فكتب اليه نورالدين يمتدح الأتراك "ويعلمه انه ما أرسلهم واعتمد عليهم الا لعلمه بأن قنطاريات رماح الفرنج ليس لها الا سهام الأتراك، فإن الفرنج لا يرعبون الا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية". الأغزاز في المغرب والأندلس أ - قبل قيام دولة الموحدين ثمة اشارتان في المصادر المغربية الى وجود بعض عناصر الغز في المغرب في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. فابن أبي زرع الفاسي يذكر ان يوسف بن تاشفين، سلطان المرابطين، جنّد الأجناد في سنة 454ه/ 1095م "وجعل في جيشه الأغزاز والرماة" . إلا أنه ليس ثمة ما يؤيد هذا القول. ويبدو أن ابن أبي زرع - الذي ألّف كتابه بعد ذلك التاريخ بقرنين ونصف القرن - يحسب ان كلمة "الغز" تعني فقط رامياً أو رامياً يستعمل قوساً من نوع خاص . ويذكر ابن عذاري انه ظهر في افريقيا البلاد التونسية في حدود سنة 488ه/ 1095م غُزِّيٌّ يشار اليه أحياناً بأنه تركي ومعه مئة من اتباعه، فتلقاه الأمير الزيري تميم بن المعز وأكرمه، وقال انه سينتفع بهم كما ينتفع بمئة ولد، وانه يعرف كيف يستخدمهم. إلا أنه سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء الأتراك وبين سيدهم الجديد، وبعد مناوشة، اختفوا من التاريخ من دون أن يتركوا - كما يبدو - أي أثر. ويرد ذكر الغز في احدى رسائل "جنيزة القاهرة" في قرينة غير منتظرة تماماً، وذلك في خطاب من طليطلة الى ألمريَّة بالاندلس في العشرينات أو الثلاثينات من القرن الثاني عشر للميلاد، أي في أواخر أيام المرابطين في الاندلس. وكاتب الرسالة هو الشاعر اليهودي يهودا بن ليفي اللاوي Judah La-Levi الذي يكنيه العرب بأبي الحسن، وكان طبيباً ومن رؤساء الطائفة اليهودية. وقد تناول في الخطاب قضية امرأة يهودية كانت سافرت في قافلة من تجار المسلمين، وأسرها النصارى. وكانت فدية الشخص الراشد 33 دينارا. وتذكر الرسالة ما تم جمعه من ذلك المبلغ أملاً في أن يدفع الباقي الشخص الموجهة اليه الرسالة في مدينة ألمرية. وكان من بين من تبرعوا "الترك الغز" بقيمة أربعة دنانير. ولعل من أشار اليهم خطاب يهودا بن ليفي كانوا تجاراً سلاجقة مسافرين في القافلة نفسها كالمرأة اليهودية . * استاذ جامعي في اكسفورد.