أثناء عقد القمة الاسلامية الأخيرة القمة العاشرة في ماليزيا تقدمت الرئيسة الأندونيسية ميغاواتي سوكارنو بوتري ابنة الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو باقتراح يدعو الى تنظيم مؤتمر لعلماء المسلمين تكون مهمته بحث ودراسة التحديات الفكرية التي يواجهها العالم الإسلامي بما يساعد على كبح جماح التطرف والغلو وإظهار الإسلام على حقيقته دين سلام واعتدال ورحمة للعالمين. وافقت القمة على الاقتراح، وعهدت الى أندونيسيا تنظيم هذا المؤتمر. في الأساس، لم تكن صدفة ان تعقد القمة الاسلامية في ماليزيا، ولم تكن صدفة أن تتقدم اندونيسيا بالاقتراح، ولم تكن صدفة أن يلبي الدعوة الاندونيسية اكثر من 250 عالماً من مختلف دول العالم الاسلامي وأن يصدروا ما يعرف الآن باسم "اعلان جاكرتا". فقد بدا منذ بعض الوقت الحديث عن ان الشرق الأوسط كان مهد الاسلام وتاريخه... وان منطقة شرق آسيا هي حاضنة الإسلام ومستقبله!! يترافق هذا الحديث مع سلسلة النكسات السياسية والاقتصادية في دول العالم العربي من جهة، ومع ما شهدته دول شرق آسيا وبخاصة ماليزياواندونيسيا من تقدم اجتماعي ومن ازدهار اقتصادي يزاوج بين الحداثة والاسلام. ففي الوقت الذي يُربط فيه الإرهاب بالاسلام يستعيد الأندونيسيون والماليزيون كيفية دخول الاسلام الى بلادهم في القرن الثالث للهجرة من خلال التجار والدعاة المسالمين. في ذلك الوقت كانت تتنازع اندونيسيا مملكتان. مملكة سريويجايا الهندوكية في سومطرة، ومملكة مجايهيت البوذية في جاوه. ولعل أول تجمع إسلامي من أهل البلاد الأصليين قام في بلدة "فرسيك" قرب سورابايا، وذلك في القرن العاشر الميلادي. وتوجد اليوم في هذه البلدة التي أصبحت مدينة كبيرة، مقبرة تضم قبوراً قديمة، يحمل أحدها اسم "فاطمة بنت ميمون" المتوفاة عام 495ه/ 1089م. وقد نقل المؤرخ الأندونيسي الدكتور همكا والذي شغل منصب رئيس مجلس العلماء في كتابه Notes de Malay Archipelego and Malaceca, Compiled from Chinese Sources ملاحظات حول أرخبيل الملاوي وملقة جمعها من المصادر الصينية مفادها انه كان هناك اتصال عبر البعثة الخاصة بين أحد الخلفاء الأمويين وبين ملكة كالينغكا في جاوه الشرقية وذلك خلال عامي 674 - 675م. *** عندما زرت أندونيسيا للاشتراك في مؤتمر علماء المسلمين والذي اتخذ شعاراً له "الاسلام رحمة للعالمين"، انتقلت بالطائرة من مدينة جاكرتا الى مدينة جوكجاكرتا ساعة طيران. وفي هذه المدينة الجبلية التي يطلّ عليها بركان ناشط انفجرت وسالت حممه في عام 1996، ولا يزال الدخان الكثيف يتصاعد من فوهته حتى اليوم، توجد ثلاثة معالم دينية بارزة: يوجد معبد هندوسي هو الأكبر في العالم. وقد استغرق ترميمه بعد أن هدمه زلزال ضرب المنطقة أكثر من 50 عاماً. ويوجد معبد هندوسي آخر هو معبد بروبودور الذي يُعتبر واحداً من عجائب الدنيا، ويقع خارج المدينة. أما المؤسسات التربوية الاسلامية التي تأسست في أندونيسيا منذ الحقبة الأولى فأهمها: 1 - لنقار مصلى وزاوية يستخدم لبعض النشاطات التربوية على الطريقة الفردية. 2 - بسنترين المعهد الديني التقليدي. وخلال هذه الفترة الأولى شهدت اندونيسيا حركة اصلاحية في المجال الديني والوطني، متأثرة بالحركة الاصلاحية المماثلة التي حدثت في شمال افريقيا والجزيرة العربية والهند. وكان من رواد هذه الحركة مجموعة من العلماء الشباب قوم مردوا منهم: الشيخ عبدالرحمن 1878 - 1933م والشيخ محمد طيب عمر سونجاينج 1874 - 1920م والشيخ الحاج عبدالكريم أمر الله 1879 - 1945م أبو الدكتور همكا، والشيخ محمد جميل جمبيك 1860 - 1947م والشيخ محمد ابراهيم موسى براجاي 1884 - 1963م. اتبعت هذه الحركة خطة استراتيجية تتمثل في تحديث المناهج والطرق التربوية والتعليمية في المدارس و"البسنترينات" وبخاصة تلك التي تقع في نطاق معهد سومطرا "الطوالب" وبارسال المدرّسين والدعاة الى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة والقاهرة، واصدار مجلات توعية مثل "المنير" 1918 و"البيان" و"الايمان" و"البشير" و"الاستقلال" وغيرها. وازدادت خطوات هذه الحركة تقدماً بعد عودة هؤلاء الطلبة والشبان الأندونيسيين حاملين شهادات في الشريعة والفقه من مكةالمكرمة والازهر الشريف. فتوسعت مناطق عملها ونفوذها حتى بلغت جميع انحاء البلاد وتواصلت علاقتها مع حركة النهضة الاسلامية العالمية. وكان من أبرز الحركات الاسلامية في مجال التربية والدعوة خلال هذه الفترة: 1 - جمعية الخير التي أنشئت في جاكرتا عام 1905 واهتمت بإرسال الطلاب الى تركيا وهي تعتبر رائدة في إقامة العلاقات بين أندونيسيا وغيرها من الدول الاسلامية. 2 - جمعية الإرشاد الاسلامية العربية، وقامت على أكتاف أعضاء سابقين في "جمعية الخير" عام 1915 ومن أبرز رجالاتها الشيخ احمد الشركتي السوداني الأصل. وعلاوة على نشاطها في مجال التربية والتعليم فقد نظمت نشاطات اخرى في مجالات الدعوة والصحافة والنشرة. 3 - جمعية العلماء، أنشأها الحاج عبدالكريم أمر الله في ماجالنكا جاوه الغربية عام 1911م. وكثيراً ما تأثرت الجمعية بأفكار جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، إلا أنها كانت أكثر تأثراً بنظام التعليم السلفي الذي أرساه الإمام محمد عبدالوهاب. 4 - جمعية المحمدية، أنشأها كياهي الحاج أحمد دحلان عام 1912م. بهدف العمل على العودة الى شرع القرآن والحديث الصافي والبعد عن البدع والخرافات. 5 - جمعية الاتحاد الاسلامي، أُنشئت هذه الجمعية في باندونغ عام 1920م. على يد الحاج زمزم والحاج محمد يونس وكان من أشهر زعمائها أحمد حسن والدكتور محمد ناصر. ومن أبرز نشاطها في مجال التربية انشاء معهد الاتحاد الإسلامي Pesantren Persis عام 1930م. في باندونغ. ثم افتتح فروعاً عددة في المدن الأخرى. 6 - جمعية نهضة العلماء، أنشئت هذه الجمعية في سورابايا عام 1926م. بصفتها جمعية اجتماعية دينية تعمل في مجالات التربية والتعليم والدعوة والمساعدات الخيرية. وانشقت عنها في عام 1929م. هيئة متخصصة في مجال التربية والتعليم سميت "معارف". واليوم تعتبر أندونيسيا أكبر دولة إسلامية. ولكنها ليست بلداً يسهل حكمه. فهي رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين والهند والولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 220 مليون نسمة، وتتألف من 13000 جزيرة. وتعترف الدولة بأربعة أديان هي الإسلام 87 في المئة والمسيحية والبوذية والهندوكية. أما عدد اللغات فيبلغ الخمسمئة، منها خمس لغات رئيسية محكية على نطاق واسع في جزيرة جاوه وحدها. ترك الهولنديون بصماتهم في مناطق من البلاد المترامية الأطراف، وترك البرتغاليون بصماتهم في مناطق أخرى. مما أدى الى تفاوت لغوي وديني وثقافي. من هنا كانت مطالبة تيمور الشرقية بالاستقلال ذلك ان هذا الجزء من الجزيرة كان خاضعاً للبرتغاليين الذين نقلوا اليه لغتهم ودينهم الكاثوليكي. أما بقية الجزيرة فإن سكانها من المسلمين المتأثرين بالثقافة الهولندية. في عام 1975 انسحب البرتغاليون من تيمور الشرقية تحت الضغط الاندونيسي. يومها احتفل الاندونيسيون بتطهير آخر بقعة من أرخبيلهم من الاحتلال الاجنبي. وفي عام 1976 ضُمَّ هذا القسم من الجزيرة الى الوطن الاندونيسي. ولكن لم تمض سنوات قليلة حتى قامت حركة انفصالية تطعن بشرعية الضم بحجة انه لم يتحقق من خلال استفتاء شعبي. كان للحركة قائدان. الأول ديني وهو المطران الكاثوليكي كارلوس فيليب بيلو، والثاني ميليشيوي - عسكري هو الصحافي السابق جوزيه راموس هورتا. حصلت هذه الحركة الانفصالية على دعم من العديد من الدول الغربية ومن المؤسسات الكنسية حتى ان المطران بيلو وهورتا منحا في عام 1996 جائزة نوبل للسلام بسبب جهودهما من أجل فصل تيمور الشرقية عن اندونيسيا. وكان لهما رفيق ثالث هو اكسانانا غوسماو الذي اعتقلته السلطات الاندونيسية اثناء قيادته حركة عسكرية مسلحة ضد قوات الجيش. ثم أطلق سراحه قبل أشهر من انسحاب القوات الاندونيسية واقرار منحها الاستقلال عملاً بقرار للأمم المتحدة، على رغم ما يعنيه ذلك من خطر على وحدة الأرخبيل المتعدد الأديان والعناصر واللغات. تتألف أندونيسيا من 27 اقليماً. وكان نظام الحكم اتحادياً في الأساس إلا أنه تحول مع الحكم العسكري في عهد الرئيس سوهارتو الى مركزية شديدة تلاشت معها الاتحادية لمصلحة وحدة مركزية بقيادة مقاطعة جافا جاوه أكبر الجزر الأندونيسية والتي توجد فيها العاصمة جاكرتا. وفيما تستعد أندونيسيا اليوم لانتخابات برلمانية ورئاسية جديدة، يبدو واضحاً ان الجماعات الاسلامية المنظمة تلعب دوراً أساسياً في هذه الانتخابات. ولعل تعاون وزارة الخارجية مع "جمعية نهضة العلماء" في تنظيم مؤتمر العلماء المسلمين كان في حد ذاته اشارة الى تعاون الجمعية مع الرئيسة ميغاواتي، واعتماد الرئيسة على الجمعية في حملتها الانتخابية. ولكن الجمعية ليست وحدها في الساحة، هناك رجلان يستقطبان "الشارع الإسلامي" في أندونيسيا. الأول هو الرئيس الأندونيسي السابق عبدالرحمن وحيد زعيم منظمة "نهضة العلماء"، التي تقول ان عدد أنصارها يبلغ 60 مليون شخص مما يجعلها أكبر منظمة ليس في العالم الاسلامي فقط، إنما في العالم كله. ولهذه المنظمة جناح ميليشيوي مسلح يخضع افراده الى التدريب العسكري المستمر. أما الثاني فهو الشيخ أمين ريّس الذي يترأس منظمة "المحمدية". صحيح ان انصار "المحمدية" أقل عدداً، إلا انهم لا يقلّون عن 30 مليوناً. وهذا يعني أن نحو مئة مليون اندونيسي من أصل السكان البالغ عددهم 210 ملايين ينضوون تحت لواء المنظمتين الاسلاميتين. والغريب في الأمر ان التنظيمين تخرجا من مدرسة واحدة. فالشيخ هاشم أشعري جد الرئيس وحيد درس الاسلام في مكةالمكرمة مع شخص أندونيسي آخر يدعى أحمد دحلان. وبعد عودتهما الى البلاد أسس الشيخ أحمد منظمة "المحمدية" في عام 1912 التي تفرغت للدعوة الاسلامية من طريق المدارس والمعاهد، ولذلك فإن معظم أنصارها هم من المثقفين والمتعلمين من أبناء الطبقة المتوسطة. وتشرف هذه المنظمة في الوقت الحاضر على مئة جامعة ومعهد عال، اضافة الى عدد كبير من المدارس في مختلف جزر الأرخبيل الأندونيسي. ومن خلال ذلك أصبح الشيخ أحمد صاحب نفوذ ديني واسع. وفي عام 1926 أسس الشيخ هاشم منظمة "نهضة العلماء" بهدف تثبيت الاسلام في اندونيسيا وتوسيع انتشاره. وعلى رغم هذه الخلفية التنافسية بين المنظمتين، فقد خاضا معاً وفي معسكر واحد معارك التغيير التاريخية التي شهدتها اندونيسيا. كانتا معاً في حرب الاستقلال 1945 - 1949. وكانتا معاً ضد الحكم الشيوعي. وكانتا معاً ضد ديكتاتورية الجنرال سوهارتو. وكانتا معاً في معركة المطالبة بالديموقراطية والحريات العامة. ولكن عندما أصبحتا في السلطة تغيّرت طبيعة العلاقة بينهما، وعادتا الى صراعهما التنافسي القديم. لقد كان مؤتمر جاكرتا بوقائعه، محطة انطلاقة جديدة لاسلام جنوب شرقي آسيا، وهي انطلاقة تطمح في أن تتعدى تلك المنطقة لتنقل مفهومها الى العالم الاسلامي كله. * كاتب ومفكر لبناني.