لن يقوم تكتل اقليمي بتوجيه ضربة عسكرية لحسم مسألة تيمور الشرقية على نسق تدخل حلف شمال الاطلسي في كوسوفو لوضع حد للمغامرات الصربية. ولن ينشأ تحالف دولي لشن حرب على اندونيسيا على نسق التحالف الدولي ضد العراق عند غزوه الكويت بهدف ضمها. اندونيسيا ستعاقب نفسها بنفسها اذا استمرت المؤسسة العسكرية باجراءاتها الدموية العنصرية وتفريغها تيمور الشرقية عبر تسريع عمليات النزوح. والثمن الذي ستدفعه اندونيسيا باهظ اقتصادياً علماً بأن المؤسسات المالية العالمية والدول المانحة ستحجب بلايين الدولارات عن جاكارتا التي هي في اشد الحاجة اليها في اعقاب الأزمة الاقتصادية التي واجهتها اخيراً. والكلفة الداخلية باهظة ايضاً لأن عقد الارخبيل الاندونيسي سينفرط الى دويلات ليس نتيجة التفريط بتيمور الشرقية وانما نتيجة تورط الاجهزة العسكرية الاندونيسية في الاقليم بالشكل الحالي. فاندونيسيا تتكون من حوالي 13 ألف جزيرة، عدد سكانها 213 مليون نسمة، ما يجعلها اكبر امة اسلامية في العالم، بأقلية مسيحية تبلغ 9 في المئة وأقلية هندوسية تبلغ 2 في المئة من عدد السكان. عدد المجموعات الاثنية في اندونيسيا يفوق 300 مجموعة، تشكل مجموعة جاوا العرقية بينها حوالي 45 في المئة من مجموع عدد السكان، وتضم مجموعات عرقية مختلفة ابرزها بين الأقليات، الاقلية الصينية التي تلعب دوراً بارزاً على الصعيد الاقتصادي. بعد رحيل الاستعمار الهولندي عن الاقاليم التي تشكل اندونيسيا اليوم عام 1949 تمسك الاستعمار البرتغالي باقليم تيمور الشرقية ولم يفك قبضته عنه حتى عام 1974. وفيما كان الاقليم يستعد للاستقلال كانت جاكارتا تعد لمنعه من تقرير المصير والتمتع بالحكم الذاتي. وفي كانون الاول ديسمبر 1975، في اليوم التالي لزيارة قام بها وزير الخارجية الاميركي حينذاك هنري كيسنجر برفقة الرئيس فورد للرئيس سوهارتو في جاكارتا، فهم سوهارتو ان واشنطن اعطته الضوء الاخضر لغزو تيمور الشرقية وضمها لتصبح المقاطعة السابعة والعشرين. فتحرك جنرالات المؤسسة العسكرية، ووقع الغزو بمباركة اميركية انطلقت من اولوية المصالح الوطنية المتمثلة في الحفاظ على علاقة جيدة باندونيسيا وسوهارتو بأي ثمن كان. ومنذ عام 1975 مارست المؤسسات العسكرية الاندونيسية ابشع اعمال البطش ضد اهالي تيمور الشرقية بهدف احباط احلام تقرير المصير والاستقلال، وقضى ضحية هذه الممارسات ربع عدد السكان الذي يقارب 800 ألفاً. لكن عناد تيمور الشرقية جعلها مشكلة مستعصية على جاكارتا، الامر الذي ادى بحكومة يوسف حبيبي التي جاءت الى الحكم السنة الماضية في اعقاب اضطرابات فرضت الاستقالة على سوهارتو - الى التفكير بوسائل الخلاص منها. فوافقت على عملية استفتاء تقوم بها الأممالمتحدة لمنح التيموريين الاختيار بين البقاء ضمن سيادة اندونيسيا وبين الانفصال عنها، وتعهدت السيطرة على الحال الأمنية لضمان نزاهة الاستفتاء واحترام نتائجه. وهذا ما لم يكن. جاءت النتائج الاسبوع الماضي لتوضح الدعم الساحق لخيار الاستقلال، وجاء معها التصعيد الفظيع لاعتداءات الميليشيات والقوات شبه العسكرية الموالية لجاكارتا التي هددت باحراق الاقليم وطالبت بتنظيم استفتاء جديد فيما اتخذت اجراءات تسهيل عملية النزوح لتغيير الطبيعة الديموغرافية وتفريغ اي استفتاء من مضمونه. واعلنت الحكومة الاندونيسية "حال طوارئ عسكرية" في تيمور الشرقية في الوقت الذي بدأ الكلام عن قوة دولية تقودها استراليا تدخل الاقليم، اذا وافقت الحكومة الاندونيسية عليها. فالكلام ليس عن قوة تدخل عسكرية دولية او اقليمية، للسيطرة على تيمور الشرقية بالقوة. وما تبحثه العواصموالأممالمتحدة لا يصب في خانة المواجهة العسكرية مع اندونيسيا من اجل الاقليم. فقوة "حفظ السلام" الدولية التي كانت الأممالمتحدة تعد لها اصلاً انطلقت من موافقة جاكارتا على تسليم الاقليم لها بعد شهرين ضمن سيناريو تصديق البرلمان على نتائج الاستفتاء. اما تشكيل "تحالف" دولي او اقليمي للتدخل العسكري السريع فانه مطروح ضمن: إما سيناريو الحصول على صلاحية لمثل هذا التدخل من مجلس الأمن الدولي، على نسق صلاحية العملية العسكرية في العراق، او القيام به من دون صلاحية دولية كما فعل حلف شمال الاطلسي في كوسوفو. والأمران مستبعدان في هذا المنعطف. فمجلس الأمن يصر على الحصول على موافقة الحكومة الاندونيسية المسبقة لأي قرار يعطي الدول صلاحية التدخل العسكري. والاجراء الذي اتخذه حلف شمال الاطلسي في كوسوفو كان استثنائياً وليس نموذجاً للتدخل الدولي لوقف اعمال القمع والتنكيل. ذلك ان اندونيسيا، رابع اكبر دولة في العالم، تمر في مرحلة حساسة وخطيرة على الاستقرار المحلي والاقليمي، سياسياً واقتصادياً. والمعركة القائمة معركة سياسية وعسكرية متعددة الابعاد. فليس واضحاً اذا كان حبيبي فقد السيطرة على المؤسسة العسكرية وباتت هي الطرف الذي يصنع القرارات الحاسمة في شأن الاقليم رغماً عنه، ام انه كان اصلاً في ذهنه وحساباته التنسيق مع المؤسسة العسكرية لدبّ الرعب في الاقليم وتفريغه لمنعه من الاستقلال وارغامه على الموافقة على الحكم الذاتي. فانتخابات رئاسة الدولة المقرر انعقادها في تشرين الثاني نوفمبر تشكل عاملاً اساسياً في السياسات كما في المناورات. ومنافسو حبيبي على الرئاسة يعارضون التفريط باقليم تيمور الشرقية ويعدونه ورقة ضده. فاما ان تنسق الحكومة مع المؤسسة العسكرية او انها في خلاف جذري معها، وللأمرين افرازات انتخابية. هناك اجندة عسكرية لا ترغب في التفريط باقليم تيمور الشرقية ليس لأن الصراع فيه اسفر عن مقتل اكثر من عشرين الف جندي فحسب وانما ايضاً لأن هذه الأجهزة استفادت من عمليات التهريب لثروة الاقليم كما وجدت فيه مصدر قوة ونفوذ. انما هذا لا يحسم موقف الجيش بأسره. وقد يكون داخل المؤسسة العسكرية في اندونيسيا انقسام اساسي ما يضيف بعداً آخر الى معادلة الصراع على السلطة. وهذا ما يجعل كثيراً من العواصم يفكر باندونيسيا ذات ال213 مليون نسمة مقابل تيمور الشرقية ذات ال800 الف نسمة. فمعادلة الهوية الاثنية تنحسر في كثير من الحسابات السياسية والاقتصادية. وما يخطر في اذهان اصحاب القرارات في العواصم المهمة ان في اقليم تيمور الشرقية الشجرة وفي اندونيسيا الغابة. لذلك، فان السعي في هذه المرحلة هو وراء اقناع اندونيسيا بما هو في مصلحتها من ناحيتي الاقتصاد وافرازات ما يسمى بتأثير "الدومينو" على عقد الأرخبيل. منطق انفراط عقد الأرخبيل اذا تم التفريط باقليم تيمور الشرقية يواجه منطقاً اقوى وهو ان التورط في الاقليم هو الذي سيقوي اثر "الدومينو" ويؤدي الى تقوية حركات الانفصال والاستقلال في مقاطعات اخرى. فالتخلص من مشكلة تيمور الشرقية المستعصية مفيد للمؤسسة السياسية والعسكرية لتركز على تماسك الأرخبيل الاندونيسي وتمنع تحوله الى دويلات. اضافة الى ذلك ان اقليم تيمور الشرقية متميز عن بقية المقاطعات، تاريخاً وتجربة، واذا اثبتت اندونيسيا حسن نواياها عند القبول باجراء الاستفتاء لحصدت الثقة بها بدلاً مما تحصده الآن نتيجة تراجعها وتقاعسها في تنفيذ تعهداتها. فالمجتمع الدولي لن يشن حرباً عسكرية على اندونيسيا لوقفها عن النهج الذي تتبناه في تيمور الشرقية، الا ان في اياديه وسائل ضغط اخرى تصب في عصب تماسك اندونيسيا. فاندونيسيا ما بعد ازمتها الاقتصادية الاخيرة تعتمد جذرياً على بلايين الدولارات التي تتسلمها من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول مساهمة اخرى بهدف انقاذها من الأزمة الاقتصادية الكارثية. استراليا وغيرها من الدول هددت بقطع مساهماتها في عملية الانقاذ التي يقودها صندوق النقد الدولي وتبلغ 49 بليون دولار. والبنك الدولي لمح الى اثر سلبي لاستمرار الممارسات الاندونيسية في تيمور الشرقية على رزمة المساعدات التي وضعها في تموز يوليو الماضي وتبلغ حوالي 6 بليون دولار. وجاكارتا طلبت من المؤسستين معونات قدرها 71 بليون دولار هذه السنة لانقاذ اقتصادها ومساعدة ملايين الاندونيسيين الذين وقعوا فريسة الفقر نتيجة الركود والتراجع في الاقتصاد الاندونيسي. المؤسسة العسكرية، او جزء منها اذا كانت حقاً منقسمة، قد لا تبالي بالافرازات الكارثية على الاقتصاد الاندونيسي في حال توقف المعونات الدولية. وقد يجد البعض في مثل هذا التطور فائدة للمؤسسة العسكرية كي تقوي قبضتها على الاوضاع وتفرض هيمنتها. بل قد تراهن هذه المؤسسة على استمرار الاستثمار في القطاعات الأهم مثل النفط والغاز بغض النظر عن التطورات في تيمور الشرقية نظراً لضخامة الارباح من هذه الاستثمارات، وقد يكون في صفوف الحكومة في جاكارتا متشددون يراهنون على استنتاج المستثمرين بأن العنف في اقليم تيمور الشرقية لن يندلع الى بقية البلاد. وقد يكون هذا الرهان صائباً لحسابات سلطوية الا انه سيكون رهاناً خائباً على المدى البعيد. فانحسار المعونات الدولية سيؤثر مباشرة في حياة الناس ويزرع بذور النقمة واللااستقرار. وتورط العسكر في تيمور الشرقية سيلهيهم عن تطورات انفصالية في اقاليم اخرى مما يعزز احتمالات انفراط عقد الأرخبيل. لن يدخل المجتمع الدولي مع اندونيسيا في مواجهة عسكرية بسبب تيمور الشرقية. ان اندونيسيا هي التي عليها مواجهة نفسها لاتخاذ القرارات الصائبة. فاذا تقاعست، انها الطرف الذي سيدفع الثمن بكلفة غالية.