Alexandre Messager. Indonesie: Chroniques de L'Ordre Nouveau. اندونيسيا: حوليات النظام الجديد. L'Harmattan, Paris. 1999. 160 Pages. هل جاء، بعد الاتحاد اليوغوسلافي، دور الاتحاد الاندونيسي؟ السؤال يبدو في غير محله اذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان السلطات صاحبة القرار في جاكرتا عرفت، بانسحابها من تيمور الشرقية، كيف تتفادى المصير الذي اطبق على بلغراد من الجو - ومن طائرات الحلف الاطلسي - من جراء اصرار السلطات صاحبة القرار فيها على الاستمرار في التنكر لارادة شعب كوسوفو في الحكم الذاتي. بيد ان الحريق الذي امكن اطفاؤه بسرعة في الاشهر الاخيرة من القرن الراحل عاد يتجدد في الاسابيع الاولى من القرن الجديد، ولكن هذه المرة ليس في جزيرة تيمور بل في ارخبيل ملوك، وان دوماً بالمواد المشتعلة نفسها: المواجهات الطائفية بين الاقلية المسيحية والغالبية المسلمة. والواقع ان الدولة الاندونيسية، التي هي بالمئتي مليون من سكانها اكبر دولة اسلامية في العالم، تخفي وراء واجهتها الضخمة قابلية كبيرة للتبلقُن، وهذا منذ يوم اعلان استقلالها القومي في 1945. فاندونيسيا تتألف من اكثر من سبعة عشر الف جزيرة، ويتكلم سكانها باكثر من مئتي لغة. وبالاضافة الى الاسلام، دين الغالبية الساحقة، فان بضعة ملايين من الاندونيسيين يعتنقون المسيحية والكونفوشية والبوذية والاحيائية. وعندما اعلنت اندونيسيا استقلالها لمرتين على التوالي في 1945 و1949 كانت تسمي نفسها باسم "الولاياتالمتحدة الاندونيسية"، ولم تتحول الى "جمهورية اندونيسيا" الا في 17 آب اغسطس 1950 بعد ان ضمت اليها طوعاً او بقوة السلاح آلافاً من الجزر المجاورة وعدداً من الدول او الجمهوريات المستقلة ذاتياً، ومنها جمهورية اندونيسياالشرقية التي كانت تتألف من جزر السوند وقيليب وملوك، وجمهورية ملوك الجنوبية التي كان سكانها مليونان اليوم قد اعتنقوا المسيحية منذ القرن السادس عشر وغدت عاصمتها - امبون - اكبر مرفأ اوروبي على طر يق التوابل. والواقع انه لم يكن من قاسم مشترك يجمع بين سكان آلاف الجزر الاندونيسية سوى كراهية المستعمر الاوروبي، الهولندي في المقام الاول، ولكنْ كذلك الفرنسي والانكليزي والبرتغالي. ثم اضاف احمد سوكارنو، صانع الاستقلال الاندونيسي، قاسماً مشتركاً ثانياً، هو اللغة القومية الاندونيسية التي طورها وعممها انطلاقاً من "البهاسا"، لغة سكان جزيرة جاوة التي كانت نخبتها المثقفة - ولا تزال - هي العمود الفقري للقومية الاندونيسية. وقد كان سوكارنو واعياً للطبيعة التعددية، الدينية والاثنية معاً، للامة الاندونيسية الفتية. ولهذا صاغ نوعاً من ايديولوجيا قومية توحيدية تقوم على الايمان بواحدية الله بالنسبة الى جميع الديانات، وبواحدية الوطن بالنسبة الى جميع الاندونيسيين مهما تعددت اثنياتهم ولغاتهم وارخبيلاتهم. وقد ادرك سوكارنو، بحسه الوحدوي، ان قوى الامة الاندونيسية ثلاث ولا بد ان تجتمع والا دمرت نفسها ودمرت معها الوطن الجديد في حرب اهلية لا هوادة فيها، وهذه القوى هي القومية والاسلام والماركسية كان الحزب الشيوعي الاندونيسي في حينه، بالثلاثة ملايين من اعضائه، اكبر حزب شيوعي في العالم غير الشيوعي. لكن هذه المعادلة الوحدوية لم يقيض لها ان تعيش طويلاً. وقد تفككت من جراء تطرف المتطرفين في القوى الثلاث. ففي معسكر القوميين كان هناك من يتأول القومية الاندونيسية على انها فرض الهيمنة اللغوية والثقافية لجزيرة جاوة على باقي الجزر والاثنيات. وفي معسكر الاسلاميين كان الدعاة المبكرون ل"الاسلام السياسي" يرفضون ان يروا في الاسلام مجرد عقيدة دينية او هوية ثقافية، ويسعون الى اقامة "جمهورية اسلامية" تفرض تطبيق "الشريعة" بالقوة على المسيحيين والبوذيين والاحيائيين كما على المسلمين العلمانيين. وفي معسكر الماركسيين كان المتطرفون اليساريون يسعون الى تكرار التجربة الماوية في اندونيسيا واقامة "جمهورية حمراء". ويبدو ان صعود الحزب الشيوعي الاندونيسي كان مصدر قلق وخوف حقيقي لدى قادة البيت الابيض ووكالة المخابرات المركزية الاميركية في فترة تاريخية شهدت تصعيداً خطيراً للحرب الباردة. ومن هنا تم تنظيم الانقلاب الذي قاده الجنرال سوهارتو في 1 تشرين الاول اكتوبر 1965 والذي اعلن من "البلاغ الاول" ان المطلوب استئصال الوجود الشيوعي "من الجذور". وبالفعل، وعلى امتداد عدة شهور، تتالت المجازر الجماعية في جاوة والجزر الاخرى، وقتل من الشيوعيين وانصارهم ما لا يقل عن خمسمئة الف ضحية. ودوماً بتأييد اميركي علني وسري معاً، نفذ الجنرال سوهارتو انقلاباً ثانياً ونصب نفسه في آذار مارس 1968 رئيساً للجمهورية الاندونيسية، واعلن عن قيام "النظام الجديد" ضد "النظام القديم" للرئيس سوكارنو الذي فرضت عليه الاقامة الجبرية بعد اتهامه بالفساد والفوضى وفرط "الليبيرالية". ومنذئذ تحولت الجمهورية الاندونيسية، وعلى مدى ثلاثين عاماً متتالية، الى واحدة من اعتى ديكتاتوريات العالم الثالث ومن اشدها فساداً ايضاً. فقد دشن سوهارتو، "منقذ الامة"، عهده بحظر الاحزاب السياسية، واحل محلها نوعاً من "اتحاد قومي" او "منظومة قيادية" باسم "غولكار" - تحاشياً لاستخدام لفظ الحزب - لتنتزع قوائم مرشحيها الفوز الحتمي في الانتخابات المتجددة كل خمس سنوات بفضل الدعم "الموازي" من قبل الاجهزة العسكرية والمباحثية. وحرصاً على المظهر الديموقراطي شكّل "برلماناً" من 1000 عضو، يسمى نصفهم من قبل رئيس الدولة مباشرة، ولا مهمة لهم غير ان يجددوا كل خمس سنوات انتخابه كرئيس على مدى الحياة في الواقع تم التجديد لسوهارتو سبع مرات على التوالي. وفي الوقت نفسه تحولت اندونيسيا الى "مزرعة" اقطاعية، من وجهة النظر الاقتصادية، لآل سوهارتو، اذ قدّرت الثروة التي جمعها الاخوة والاخوات والابناء والبنات والازواج والزوجات والاصهار والاعمام والاخوال خلال تلك الثلاثين من عمر "النظام الجديد" بما لا يقل عن 40 مليار دولار، اي ما يعادل خمس الدخل القومي السنوي للاندونيسيين قاطبة. وهذا فضلاً عن 15 او 20 مليار دولار من الاموال المودعة في المصارف الاجنبية ومن سندات المساهمة في نحو من 500 شركة عالمية. وعندما اندلعت الازمة الآسيوية الاقتصادية في صيف 1997 وامتد حريقها الى اندونيسيا، فخسرت عملتها الوطنية - الروبية - 80 في المئة من قيمتها خلال اسابيع معدودة، اعتبرت المصارف الاندونيسية، لا سيما منها المملوكة لأبناء سوهارتو، مسؤولة مسؤولية مباشرة عن انهيار قيمتها وعن تهريب عشرات المليارات من الدولارات الى الخارج. بل ان صندوق النقد الدولي، الذي تدخل بسرعة لانقاذ الاقتصاد الاندونيسي من الانهيار التام، اشترط - لتقديم مساعدته المالية التي قدرت يومئذ باكثر من 40 مليار دولار - اغلاق ستة عشر مصرفاً اندونيسياً مفلساً، ومنها مصرف يملكه بتمامه احد ابناء سوهارتو ومصرف آخر يملكه أخ غير شقيق له. والواقع ان الازمة الاقتصادية - وليس اي شيء آخر - هي التي زعزعت "النظام الجديد" وكشفت عن نخر الشيخوخة فيه. ففي الوقت الذي اجتمع فيه اعضاء البرلمان الألف في آذار مارس 1998 لتجديد انتخاب "الزعيم الملهم" للمرة السابعة، كان التضخم المتسارع يأكل مدخرات الطبقة الوسطى، والادوية قد اختفت من الصيدليات بسبب غلاء اسعارها محسوبةً بالدولار، واوتوبيسات النقل العام قد توقفت عن العمل، حتى في العاصمة جاكرتا، بسبب فقدان قطع الغيار. ونزولاً عند مطالب صندوق النقد الدولي اقدمت الحكومة في نيسان ابريل 1998 على رفع مفاجئ لأسعار الوقود والماء والكهرباء والمواصلات بمعدلات تراوحت بين 30 و50 في المئة في الوقت الذي كانت فيه اجور العمال ورواتب الموظفين قد فقدت 80 في المئة من قوتها الشرائية. وللحال انفجرت في الجامعات والثانويات والمصانع والاحياء حركة تظاهرات واعمال عنف لم تشهد البلاد مثيلاً لها منذ التصفية العنيفة للحزب الشيوعي الاندونيسي في 1965، فاحرقت في الساحات العامة دمى تمثل "الزعيم الملهم" وملئت الجدران في العاصمة والمدن الكبرى بعبارات الشتم لأفراد اسرته. وهاجمت الجموع "بنك سوهارتو" واحرقته، كما تركز غضب المتظاهرين على السيارات التي تحمل ماركة "تيمور" والتي تنتجها شركة طومي مندالا، الابن الاصغر لسوهارتو. وفي الوقت نفسه تعرضت مخازن الاقلية الصينية الغنية للنهب والحرق في شتى المدن الكبيرة، وادى سقوط ستة من الطلاب الجامعيين برصاص الشرطة يوم 13 ايار مايو الى تجذر خطير في الحركة الطلابية التي رفعت علناً شعار اطاحة رأس "النظام الجديد". وفي يومي 14 و15 ايار تحولت شوارع جاكارتا الى ساحة لحرب اهلية حقيقية. فعلى هتاف: "اشنقوا سوهارتو، اصلبوا سوهارتو" اندفعت الجموع تنهب وتحرق آلاف المخازن والمطاعم والمؤسسات المالية ومرائب السيارات والكنائس والمعابد البوذية. وتحت ضغط الاحداث، وبنصحية مباشرة من مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية، اضطر سوهارتو - الذي كان بلغ من العمر 76 عاماً - الى التنازل يوم 21 ايار 1998 عن سلطته لنائبه بشار الدين يوسف حبيبي الذي صار الرئيس الثالث للجمهورية الاندونيسية. ومع ان الرئيس الجديد كان تعهد لسلفه بحمايته وحماية اسرته من كل محاسبة او ملاحقة قضائية، الا ان تظاهرات الطلاب التي تجددت في تشرين الثاني نوفمبر 1988 وأدت الى مقتل 16 طالباً برصاص الشرطة، اضطرته الى التوجه بطلب رسمي الى القضاء لفتح تحقيق بصدد الفساد والاغتناء الشخصي لسوهارتو والافراد الآخرين من اسرته. وفي اثناء ذلك تجددت الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في جزيرة بورنيو وجزيرة تيمور وجزيرة ملوك. وسقط في امبون - عاصمة هذه الاخيرة - نحو من 600 قتيل. ويبدو ان انصار الرئيس المستقيل هم الذين اشعلوا نار تلك الفتن. كما ان الميليشيات المؤتمرة بأمرهم هي التي تسببت في الاشهر التالية، بسبب ما زرعته من رعب في تيمور الشرقية، في تهجير مئتي الف من سكانها الى تيمور الغربية او الى المناطق الجبلية المحيطة. وتحت ضغط الاممالمتحدة والرأي العام الدولي اضطرت سلطات جاكرتا الى اجراء استفتاء في تيمور الشرقية، ثم الى الموافقة على انفصال الجزيرة بعد ان صوّت التيموريون لصالح الاستقلال بغالبية 78 في المئة. ويبدو ان الخوف من تطور النزعات الانفصالية هو ما حمل الرئيس الجديد حبيبي على الامتناع عن ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 20 تشرين الاول اكتوبر 1999 وأدت الى تنصيب عبدالرحمن وحيد، زعيم حزب نهضة العلماء الاسلامي، رئيساً رابعاً للجمهورية الاندونيسية. لكن الاضطرابات الطائفية التي تجددت في جزيرة ملوك مع اطلالة القرن الحادي والعشرين تشير الى ان مارد النزعات الانفصالية لم يعد قابلاً للارجاع الى قمقمه. ولا يمكن لأحد طبعاً ان يتنبأ بمآل التطورات، لكن قوى عديدة في المجتمع المدني الاندونيسي، لا سيما في صفوف المثقفين واساتذة الجامعات وطلبتها، باتت تعتقد ان السبيل الوحيد لانقاذ الوحدة القومية للبلاد هو التراجع عن صيغة الجمهورية المركزية لاعادة احياء صيغة "الولاياتالمتحدة الاندونيسية". لكن التقدم باتجاه مثل هذا الحل مرهون بانتصار القوى الديموقراطية في المجتمع المدني، وهو انتصار كانت تعترضه - ولا تزال - قوى كبيرة ثلاث: المؤسسة العسكرية، والنزعة القومية الشوفينية القائلة بمركزية جاوة للامة الاندونيسية، واخيراً قوى الاسلام السياسي المتطرفة والرافضة للاعتدال التقليدي للمؤسسة الدينية الاندونيسية ممثلة بمجلس علماء اندونيسيا الذي حذر رئيسه حسن صبري علناً من خطر تلك القوى التي "تتقن التوظيف السياسي للرموز الدينية كي تشحنها بالحقد الطائفي والعصبية الاثنية".