كشف استفتاء التيموريين على تقرير مصيرهم عن انقسام اندونيسيا وعمق أزمة وحدتها الوطنية. وزادت ظروف الاستفتاء السياسية والاقتصادية من تعرية هذه السوأة، كما ساهمت وسائل الاعلام العالمية في تغطيتها الواسعة لتطورات الأحداث في أندونيسيا من قبل ومن بعد الاستفتاء في إبراز جذور الأزمة وابعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولم يزل، منذ الاستقلال عام 1945، التوازن بين المركز والأطراف التحدي الأكبر في وجه حكومة جاكارتا، وقد أثقل كاهلها كمّ وزخم كبيران من تمردات وحركات انفصالية عرقية ودينية عصفت بالبلاد، ولا تزال، وذهبت بها كل مذهب. جربت جاكارتا بادئ عهدها صيغة "دوي توتغال" القيادة الثنائية في الحكم، الرئيس سوكارنو من المركز جاوة، ونائب الرئيس محمد حتّي من الجزر البعيدة الأطراف. ولم تفلح "دوي توتغال" في استعادة التوازن المفقود وخفض التوتر بين هيمنة جاوة وتمرد الأطراف، فتصاعدت موجة الحركات الانفصالية الدينية والقومية بدءاً بقيام دولة اسلامية في غرب جاوة عام 1949، وسقوطها وقيامها تترى، الى تمرد الأطراف - أكثر من 3000 جزيرة - وشقها عصا الطاعة على المركز. وسقطت "دوي توتغال" وتبعتها "الياتكاسلد" في "الديموقراطية الموجهة"، حتى العسكرتارية في ظل سوهارتو. وإبان مسيرتها، وتقلبها ذات اليمين وذات اليسار، من تآلف وتحالف سوكارنو والشيوعيين، الى مقاربة ومبايعة سوهارتو للاسلاميين، أفرزت الساحة الأندونيسية وتركيبة مجتمعها العرقية والدينية الفسيفساء طيفاً حزبياً واسعاً. وما زاد في سعة هذا الطيف وكثافة ألوانه المتداخلة موجة التغييرات والاصلاحات التي اجتاحت منطقة جنوب شرقي آسيا مطلع التسعينات. ونجحت الحركة الاصلاحية، إثر سقوط سوهارتو عام 1998، بعقد انتخابات عامة شارك فيها كل أحزاب الطيف السياسي، بما فيها العسكر والشيوعيون، وعبرت نتائج الانتخابات عن انقسامات الشارع الأندونيسي أوضح تعبير. وانتفضت اشباح الانفصال والاستقلال من رقدتها، وطلّت برؤوسها، من جديد، على جاكارتا تحاصر حركتها الاصلاحية وتضعها وجهاً لوجه أمام تحدي الأمس القريب والبعيد في ترسيخ الوحدة الوطنية. وما "أشبه الليلة بالبارحة"، انتخبت الجمعية الوطنية الاستشارية الرئيس عبدالرحمن وحيد، كما نصبت سوكارنو رئيساً من قبل عشية الاستقلال. وجاء انتخاب الرئيس وحيد تبعاً لشروط أملتها المرحلة وقررتها ظروف وأوضاع تيمور الشرقية وشقيقاتها الجزر الأطراف في اكسيه وسيلبيس وموليوكاس وسولاويسي. وجميعها - الجزر المتمردة - فرضت عليها أحكاماً عرفية طويلة المدى. وجاء انتخاب الرئيس وحيد، ولم يفز خصوم حزبه "نهضة العلماء" إلا بأقل من عشر المقاعد البرلمانية لجملة أسباب يأتي في مقدمها، ترؤسه، أباً عن جد، "نهضة العلماء" وهي أكبر جمعية اسلامية يصل تعداد أعضائها 40 مليوناً. وقد وضعت نفسها منذ تأسيسها عام 1924 في خدمة العملية الديموقراطية من خلال دعوتها الى تطبيق الاسلام كتعاليم اجتماعية وأخلاقية في اطار الوطنية والقومية بعيداً من التوجهات العقائدية والسياسية. كما يؤمن الرئيس وحيد بأن تكون بين الدين والحكومة مسافة تضمن للدين قداسته وتوفر للحكومة حرية التسامح والتعاون مع مختلف الديانات والمعتقدات الكثيرة في اندونيسيا. والى تسامح "نهضة العلماء" تعود مبادئ "الباكاسيلا" الخمسة: الوطنية، التمثيلية، العدالة الاجتماعية، العالمية، والايمان بالله. وكانت هذه المبادئ القاسم المشترك للطيف الحزبي الاندونيسي، وعاملاً كبيراً وراء انتخاب الرئيس وحيد. وثمة عامل آخر، هو العسكر وتركته الثقيلة، ساعد على انتخاب الرئيس وحيد بمقدار ما بات يشكل، من خلال نفوذه في أجهزة أو مناصب الدولة العليا، عقبة كأداة أمام الحركة الاصلاحية. ولأسباب داخلية وخارجية، منها ارتفاع صرخات وتنديدات المنظمات الدولية لانتهاك حقوق الانسان في أندونيسيا، اعتمد الرئيس وحيد سياسة متشددة تجاه العسكر، فسحب البساط الذي مده ووسعه سوهارتو على مدى 32 عاماً 1965 - 1998، من تحت أقدامه، وجدد مقولة "ان مشاركة العسكر في السياسة تؤدي الى انقسامات خطيرة داخل الجيش من شأنها تهديد أمن البلاد واستقرارها". وطبعاً جاء رد فعل العسكر عنيفاً، إذ كانت اياديه وأيادي صنيعته الميليشيات، من بين أهم الأسباب وراء تفاقم أوضاع البلاد الأمنية وتدهورها، لا سيما الحركات الانفصالية في الجزر الأطراف. وبين شد الرئيس ورد العسكر انقسمت الأحزاب السياسية واختلفت، وصبت جام غضبها على الرئيس وحيد متهمة اياه "بعدم الكفاية" في ادارة شؤون البلاد. وألقت هذه الانقسامات والاختلافات والاتهامات ظلالاً ثقيلة على علاقة المركز بالأطراف. وهدد الرئيس بإعلان الأحكام العرفية، وحذر ثم أنذر بأن استقالته أو اقالته تؤدي الى تفكك اندونيسيا المؤلفة من 3000 جزيرة، تنشط الحركات الانفصالية في جميع اطرافها. وكأن لسان حال الرئيس ومقاله يردد مقولة سوكارنو وقراره في حل البرلمان عام 1957، قائلاً: "لقد اقتنعت أخيراً بأن سبب اضطرابنا السياسي هو ممارستنا نظاماً لا يتفق مع حاجاتنا الخاصة، واعتمادنا لكل خاصة من خصائص الديموقراطية الغربية... وتنطوي هذه الديموقراطية على مفهوم المعارضة الفاعلة... فجعلنا هذا المفهوم لنفكر بطريقة غريبة عن النسق الأندونيسي للحياة". وتحمل الكلمة القرار في طياتها معاناة وتحديدات معارضة بل تمرد الجزر الأطراف قديماً وحديثاً، من نزاعات واشتباكات سلطنات ما قبل الاستقلال - 300 سلطنة - الى حركات ودعوات الانفصال بعد الاستقلال. وضعت تطورات الأحداث في غضون العامين الماضيين اندونيسيا على شفير الانهيار. وما ساعد على تفاقم الأوضاع، الأسوأ في تاريخ اندونيسيا بعد الاستقلال، على تعبير نائبة الرئيس ميغاواتي سوكارنو، جملة عوامل: أولها، تسامح سياسة الرئيس وحيد، وتساهله الذي أكسبته الضغوط والتأثيرات الدولية زخماً وتعجيلاً كبيرين، تجاه الحركات الانفصالية، "لقد مارست تيمور الشرقية حقها في الاستفتاء، فلماذا لا تمارسه اكسيه". وثانيها، تواصل أزمة عام 1997 المالية وتفاقمها جراء استئثار الجزر الأطراف بمعظم عائدات ثرواتها الطبيعية وفق مشروع اللامركزية الجديد، المشروع الذي وسّع دائرة الخلاف والمواجهة بين الرئيس وحيد من جهة والأحزاب القومية والدينية يساندها العسكر من جهة أخرى. وما انفكت الأخيرة تردد وتشدد على أن "أكسيه يمكنها ان تعيش وتبقى من دون اندونيسيا، لكن اندونيسيا لا يمكنها أن تعيش من دون اكسيه". ويشار الى ان اكسيه غنية بالثروات النفطية والغازية والمعدنية. وبموازاة التفاوت الكبير في توزيع الثروات والطبيعية يأتي التفاوت الأكبر في توزيع الكثافة السكانية. فبينما تتركز الأخيرة، أكثر من نصف مجموعها البالغ 220 مليون نسمة، في المركز - جاوه وضواحيها - تنتشر في الأطراف مجموعات عرقية ودينية صغيرة. ولم يفشل مشروع الهجرة في تحقيق التوازن السكاني فحسب، بل زاد من اشتباكات العرقيات المختلفة صينية وهندية ومالوية وجاوية. وثمة عامل آخر زاد من توتر أو تدهور العلاقة بين المركز والأطراف، يتمثل في النقلة السريعة التي تجاوزت المرحلة الانتقالية من ديكتاتورية واستبداد العسكر الى الديموقراطية والتعددية الحزبية. ولا نجانب الصواب اذا ما وصفنا قرارات حكومة جاكارتاالمدينة الأولى، على عهد الدكتور يوسف حبيبي، بأنها قرارات، بما فيها قرار استفتاء التيموريين على تقرير مصيرهم، سابقة لأوانها، استعجلتها ونضجتها اجواء انتصارات الحركة الاصلاحية وسقوط سوهارتو عام 1998. تجاوزت هذه القرارات التركة العسكرية الثقيلة، واشكالية القطبية الثنائية بين استبداد المركز وتمرد الأطراف. وتجاهلت الحكومة المدنية مرحلتها الانتقالية. وأول ما تتميز به المرحلة الانتقالية في الحكم اعتماد سياسة الحيطة والحذر ازاء الاصلاحات والتغييرات الجذرية. كانت تيمور الشرقية، وكذلك الجزر الأطراف الأخرى، حتى يوم صدور قرار استفتائها في قبضة العسكر، تقود "جزماته" في جميع شؤونها السياسية والاقتصادية. وكان أمراً مألوفاً، ان لم يكن محتوماً، وحال كهذه، ان ينفلت الوضع الأمني، سلسلة تفجيرات وانتهاكات طاولت حقوق الانسان في الأرخبيل الاندونيسي. ولم يقف تدهور الوضع الأمني وأزمة الحكم في جاكارتا عند حدود العسكر وتشبثه في مواطئ نفوذه السابقة، بل امتد الى داخل الطيف الحزبي واطرافه المتباعدة والمتناقضة سياسياً وايديولوجياً. تقلبت الأحزاب واختلفت مواقفها تجاه حكومة الرئيس وحيد لأسباب دينية اصولية لدى جبهة المحور الاسلامي برئاسة امين ريس، وأسباب قومية وطنية يتقدم بها حزب النضال الديموقراطي برئاسة ميغاواتي سوكارنو. وأمام هذه الصورة القاتمة التي تهدد وحدة البلاد، يقف الرئيس وحيد في حيرة من أمره، مسلوباً ثقة البرلمان، تثقله الإدانات والمشكلات. ولم يبق في حوزة الرئيس ما يستعين به في رئاسته سوى اتباعه وأنصاره في "نهضة العلماء" التي شمرت عن ساعدها تشدها على الرماح والسيوف المعقوفة. وهنا تبرز مفارقة تكاد تطبق على أندونيسيا ومستقبلها المجهول هي: ان مسيرة 80 عاماً طوتها "نهضة العلماء" في خدمة الوطنية والديموقراطية، بما فيها جهودها ونشاطاتها الدينية والاجتماعية في مواجهة الخطر الشيوعي ومقاومته، أمست تاريخاً في خبر كان، عندما ارتدت الى الاصولية وفي غضون عشرين شهراً من حكم اندونيسيا. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.