ما الذي يقوله الأدب، وهل بصيرة الأديب ترى القادم عارياً ام انها تطرد الواقع وتكتفي بالمشتهى؟ يعثر السؤال على جوابه ولا يقع في الخطأ، يأتي ما رآه الأديب المغترب ويزيده اغتراباً، ويأتي ما يحرض الاديب على تسجيل نص مغترب جديد. غير ان في الادب الفلسطيني، الذي صب في كؤوس اليأس آمالاً كبيرة، ما ينزاح عن سؤال الادب العادي، محيلاً على ادب المضطهدين الذي لا يشبه غيره، ومحيلاً اكثر على مأساة الادب التبشيري العاثر الحظ، الذي ينتظر بيتاً سماوياً ويقع على الشوك، ويترقب طفلاً من السماء ويلتقي بطفل فاقد الذاكرة. فلا الذكرى بقيت جليلة ولا الحاضر لبّى نداء الاديب، كما لو كان في الكلمات العطشى ما يقودها الى بئر مسموم، وكان في البئر ما يسخر من الاديب الى حدود العبث. واذا كان جبرا ابراهيم جبرا، كما غيره، كتب في زمن اللجوء الكثيف عن شعب طرد من ارضه، فإن في الحاضر الفلسطيني ما يطرد جبرا وأحلامه، معلناً عن هزيمة الاديب الكاسحة وانتصار مدارس الربح والخسارة. في زمن غير هذا كان الفلسطيني جبرا، في بغداد التي كانت، يكتب عما كان وما سيكون، مرتاحاً الى ايمان سهل سعيد، يرد اللاجئ الى اهله ويرد الاهل الى ارضهم السليبة، فالخير يهزم غيره، والفلسطيني هو الخير الشامل الذي لا يهزم. كان جبرا وكانت معه "جمالية الحقيقة"، التي تحوّم بأجنحتها النظيفة الملونة المبهرة فوق القدس وتاريخ القدس والناصرة ودلالات الناصرة وبيت لحم التي تهزم الدنس وأولاد الخطيئة. ولذا ارتاح جبرا في روايته "السفينة" الى مجاز الصخر، لأن في الصحر ما يعبر عن فلسطين المرغوبة وعن الفلسطيني الذي لا تقبل بغيره فلسطين. فالصخرة، لغة، هي الحجر العظيم الصلب، والصاخر، لغة، هو صوت الحديد بعضه على بعض، وفي الحديث النبوي ان "الصخرة من الجنة". واذا كان نسيم الطفل الفلسطيني في "البئر الاولى" من الجنة، فإن الصخرة التي يعشقها الطفل، الذي اصبح كهلاً، من الجنة ايضاً. كل شيء هناك الصخرة والجنة وفلسطين المنتظرة المخلوقة من الصخرة والجنة، وكل شيء هناك نقاء الصخرة المقدس وأطياف الجنة الماضية المقبلة وصلابة الفلسطيني التي تنهك الزمن ولا ينهكها الزمن، وكل شيء هناك اغتراب جبرا وعشق القدس وذلك الايمان المحزن والغريب بقوة الكلمات... ومن مأساة الانسان، فلسطينياً كان او غير فلسطيني، ان الزمن يزحف ويتقدم ويسير، ملغياً المسافة بين ما كان وما سيكون، مدللاً على فساد الازمنة ويُتْم الكلمات، فلا الماضي الفلسطيني احتفظ بمهابته ولا كلمات جبرا عثرت في المستقبل المنتظر على ميتم كريم، من الحبر اتت والى الحبر تعود، احلام جميلة اسقطتها طلقات الفساد وألقت بها خارج المقبرة. لا احد يجير الكلمات ولا احد يذكر "وليد مسعود"، الفلسطيني الكامل الذي هزم الرذيلة، ولا احد مشغول بأحلام الادباء، لأنها لا تقبل بالبيع والشراء والمقايضة. وفي زمن جبرا كانت هناك فلسطينية اخرى تدعى "سميرة عزام"، تؤمن بأن في نقاء فلسطين ما يمنع عنها الاشرار والمتسفّلين، وان للذكريات المقدسة البعيدة قوة لا تصاول، وان لأشجار البرتقال ملائكة تحفظها صفراء خضراء زرقاء مرفوعة الجبين. لم تعلم تلك الاديبة المناضلة، التي فتنتها الاخلاق وأعرضت عن التاريخ، ان لبعض الازمنة فسادها المتين الذي يتلف الالوان، وان "هوية اللاجئ" قابلة للاهتراء والتداعي، وان في مكر الازمنة ما ينصر الرؤوس الخفيضة. على الاديب ان يرضع اليائسين املاً يحتاجون اليه، اعتقدت سميرة عزام، وعلى الكلمات المنتصرة ان تغدو حقيقة، ظن جبرا، وان في الاصول المقدسة ما يردع الظالمين، توهم ذات مرة المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة. غير ان الاصل اسطورة وقوة الكلمات المتفائلة اسطورة اخرى ونشيد الامكنة اغنية يفرقها فيض الكلام البذيء... تولد الاساطير في فصول الربيع وتموت عزلاء في ظهيرة الخريف، وتقف "رسالة الأديب" عارية في الخلاء. "فم المستقبل مملوء بالشعر، وفم المستقبل مملوء بفلسطين"، هذا ما قاله في ساعة نشوة الراحل معين بسيسو، الذي مات مخذولاً في مدينة الضباب. نطق الشاعر برغباته وأوكل الى الكلمات السهلة وظيفة تشخيص الكلمات، فغدا الشعر هو المستقبل وغدت فلسطين قصيدة اخرى... والقصائد، كما الاساطير تموت، وتبقى رفات الشاعر في قبر يصعب الذهاب اليه، وتبقى صحراء الخيبة تغمر رغبات القصائد وقصائد الرغبات. لا يبقى إلا ما ارادت له ازمنة التداعي ان يبقى، فلا موقع للشعر وعلى "وليد مسعود" ان يلعن اليوم الذي ولد فيه، وعلى سميرة عزام ان تشكر قبرها وعلى الشهيد ان يرى الى ملصقه اليتيم ويذهب في النحيب. انه زمن النثر الهجين القائم على الفصل الباتر بين الكلمة والمعنى، بل انه زمن التحبير الذي يرى في الكذب مرشداً للكلام. من قال ان الخير في ذاته منتصر، ومن زعم ان في الاصول ما يدافع عن صورة الاصول ومن قال بجوهر انساني عادل لا يطاوله الفساد؟ بين جبرا وغسان كنفاني لقاء وفراق، جاء اللقاء من رفض المنفى، وجاء الفراق من براءة جبرا ومعادلاته اللغوية المشرقة. لم يقبل غسان، الذي اختبر الحياة واختبرته الحياة، بأسطورة الجوهر الفلسطيني، التي توحد بين الانسان والمكان وأثير السموات، فقسم الفلسطيني الى قسمين: فاسد بائر عميل ذليل وآخر يرى في الموت الكريم درباً الى الحياة. وعن ذلك الموت، الذي على الفلسطيني ان يصارعه ويصرعه، صدر الصبي الجميل في "ما تبقى لكم"، الذي لم يشأ ان يلحق ذليلاً ب"رجال في الشمس". لم يكن غسان مخطئاً، لم تجذبه الاساطير ولا الجوهر الفلسطيني الذي لا يعابثه الزمن، فانصاع الى قانون الانقسام الضروري وآمن بضرورة "الانسان المتمرد". لم يكن يدري، وهذا من طبائع البشر، ان في مسار الانسان المتمرد ما يبدد التمرد وان سطوة الخراب تجتاح من تمرد على الخراب في زمن مضى. مع ذلك اعلن غسان عن فضيلة الانقسام، الذي تقدم لاحقاً وانتشر، فقوض ما شاء واستبقى حيزاً نقياً هامشياً. ومن اجل ذلك الهامش النقي، الذي صارع الزيف وصرعته سلطة تكره الجمال، قاتل راحل آخر استقرت عظامه في مدينة الضباب، يدعى: ناجي العلي، المشاكس الناقد الساخر العابث بالمقامات العالية التي اغتصبتها قامات واطئة... الانقسام والقلم والتمرد والثقافة مرة اخرى و"الجهر بالحق في مواجهة السلطة" كما يقول ادوارد سعيد. رحل جبرا وغسان وسميرة وناجي وادوارد ورحل كل الذين اشتاقوا الى دنيا تظللها السماء وبقي ما تبقى: عيون تطرد الجمال وآذان رخيصة وألسنة كاذبة وعقول تسفّه العقل وضمائر متفسخة ومتسفلون لهم شكل الجثث المتحركة... وبقي بقايا من فلسطين. ما العلاقة بين جبرا وتجار الانقاض وأين هو "وليد مسعود" من جماعة جيوبها في عقولها وعقولها في لا مكان، وما الذي ينسب ادوارد سعيد الى زمر متبطرة تمتهن السياسة وهي تتحدث بالسياسة وتدوس على ثقافة القيم وهي "تلقي خطاباً" عن فلسطين؟ ما الانسان إلا قضية قال غسان في "عائد الى حيفا"، وما الانسان الفلسطيني إلا الملتزم عملاً ونظراً وقيماً بقضية فلسطين... تنحل الرابطة الجغرافية وتتداعى وتتضامن وتنشر على الناس سخف الجغرافيا منتهية، لزوماً، الى تسخيف التاريخ، لأن التاريخ المهذب ذاكرة اخرى لا تقبل التسويق. لا شيء إلا عبث الجغرافيا والتاريخ وذلك الاختناق الثقيل الرابض في صدور من عرفوا ناجي العلي ودرسوا حكمة ادوارد سعيد وأشفقوا على جبرا وترحموا على سميرة عزام ونظروا طويلاً الى صورة غسان واكتفوا بالصمت. ولا شيء إلا يُتْم الحقيقة ولوعة الأدب وهوان الاحلام. من اين تأتي الافكار والى اين تذهب؟ تأتي من الرغبات الجماعية والاحزان الفردية وتذهب الى لا مكان. فلو عرفت الافكار الصادقة الى اين تذهب لما فسد العالم وساد الفاسدون. تأتي الافكار من بياض العزلة وتموت في صقيع المنفى. كافح الفلسطينيون، ولا يزالون، من اجل العودة الى ارض سليبة، وحينما رجعوا عاشوا استلاباً جديداً، لا هالة له ولا هيبة ولا وقار. ذلك الذي اجهده العطش مات عطشاً حين وصل الى البئر الاولى، لأن البئر كانت موصدة بأقفال كثيرة.