لا مكان في الأرض لإنسان خذل وطنه ولاذ بالفرار، ولا وداع لجثة مخدوع قاده وعي ضليل. هذا ما قاله غسان كنفاني، بكلمات قاطعة، في عمله الفريد «رجال في الشمس» (1960)، مطالباً بفلسطيني يذهب إلى اتجاه واحد، ويعود منتصراً أو يموت. صاغت كلماته معنى «العار» ، الذي يلاحق لاجئين لم يقاتلوا، ويدعوهم إلى مسحه بمعركة لا تعرف المساومة. بعد ثلاث سنوات ولدت «منظمة التحرير»، وازدهر «أدب البنادق» الذي احتفى ب «الأبطال العائدين»، ولم يتذكر دموع الأمهات. بيد أن تداعي المآل أصمت «الأبطال» وأدباءهم، واستبقى «شظايا» لمحها عزمي بشارة بفطنة عالية. في رواية جديدة قد يرى بعض الفلسطينيين فيها هجاء ذاتياً يساوي الفضيحة، ساجلت الفلسطينية سامية عيسى في روايتها «حليب التين» (دار الآداب) رواية غسان، متحدثة عن «العار الفلسطيني»، الذي استبقته أمور كثيرة وأمدّته بعافية قاتلة. فالمخيم الموحل، الذي ضاق ببنادق العودة، ذات مرة، ذهب شهداؤه حيث ذهبوا، وانكمشت مساحته، أو مُحي عن الأرض، والمسؤول العسكري باع بنادق غيره وهتك أعراض «أرامل الشهداء». والمتبقي للاجئين، كما تقول الرواية، نار «الامتهان» التي تختصر الفلسطيني الأعزل، في مخيم منسي، إلى بقية إنسان، ونار «التعهير»، التي تسوق زوجة الشهيد إلى زوايا الدعارة. حلم غسان كنفاني بلاجئ يستعيد فلسطين، وأنجبت «الأقدار» لاجئين يحلمون بالوصول إلى الدنمارك، واحتج على «رجال في الشمس» اطمأنوا إلى وعود الرمال، وتطلّع إلى فلسطين، ورثت سامية عيسى «شظايا بشرية»، ورمت فلسطين بوداع أخير. أخذت «حليب التين» في لغتها الغاضبة الصادقة المشرقة والمتزيّدة أحياناً، بشكل السيرة الذاتية، التي تبدو مفردة، للوهلة الأولى، وتتكشّف سيرة جماعية، لاحقاً. والمفرد المخذول «بقايا امرأة فلسطينية» تبحث عن معجزة في الوحل وفي «الرمل»، وتعثر عليها في «الشمال» لا أحد يذهب في اتجاه غسان كنفاني والجماعي يصعب تحديده، بسبب تبدّلات المخيم وتكاثر اللجوء. يصوغ الشكل الروائي دلالته من علاقتين تتداخل فيها الضحايا واستبداد المكان. تتمثّل الأولى، التي يكون الفلسطيني فيها ضحية وجلاداً، بسير متوالدة وغير متجانسة ، تبدأ بالعجز المبين وتنتهي بانتظار لا يراهن عليه، ذلك أن «صلابة الأرواح» لا توسّع الأمكنة المسيّجة. فبعد سيرة أرملة الشهيد، التي تأكل بجسدها ، في «مكتب التنظيم» أو في فنادق الخليج، تأتي سيرة العائلة، التي كان لها رجال أصبحوا شهداء. وبعد العائلة الكسيرة تأتي سيرة المخيم الجديد الذي يحمل أنقاض مخيم سبق تداخله سيرة الكفاح المسلح، الذي أعطى مفتاحه الأخير لكائن هجين، لا هو بالمقاتل ولا بالمسؤول، وإن كان يحمل دفاتر التنظيم، .. وفي السير جميعاً سيرة القضية الرمز، التي استولدت شهداء بلا قبور، أو سيرة الرمز القضية، الذي أودع بنادقه في مكان مجهول وسقط في النسيان. والكل بقايا، المخيم الذي طارده مخيم آخر، والكهل المقاتل الذي ضاق ببقايا الذكريات، والثكالى الأقرب إلى أموات أجّل دفنهم. تأتي دلالة العلاقة الثانية من المكان الذي يستبد باللاجئ، فيطرده من المرئي إلى موقع محتجب، ومن الضيق إلى ما يتجاوزه ضيقاً، ومن مساحة فاسدة الهواء إلى أخرى لا هواء فيها، ... والفلسطيني، في الحالات جميعاً، أكثر من لاجئ وأقل من إنسان، له بؤس أقداره، وله صورته البائسة عند ألوان مختلفة من المستبدين. ولهذا يودّع اللاجئ فلسطين ويرحل إلى «الشمال» ، بعد جحيم «معسكر أوزو» في مكان من لبنان. المنفى نافذة شائكة على احتمال الوطن. ولهذا تزرع الفلسطينية في أرض الشمال شجرة تين، يذكّرها حليبها «المستحيل» بشجر الجليل، كما لو كان الشجر الصناعي، في ملمسه البارد، هو كل ما تبقى من الوطن البعيد. ولعل رمزية الحليب، التي تحتمل الدفء والنمو والحنان، هو ما جعل المرأة واسعة الحضور في رواية عيسى، وهو ما جعل من نحيب المرأة في «مكتب التنظيم» رثاء مراً لقضية مهزومة، أرادت محاربة «العار» وأنجبت عاراً له عدة رؤوس. هل الفلسطيني يتعرّف بالمكان أم بالوطن؟ وما هو المكان المجاز الذي يسرد سيرة الفلسطيني السائر فوقه؟ إنه المكان الذي يضيق باللاجئ ويطرده خارجاً، فطبع المكان من طبيعة أهله، وإنه المكان الذي يلدغ المغلوب، لأن أهله يكرهون الوجه الخارجي، أو إنه المكان المزروع بالألغام والحرّاس والطلقات الجاهزة...، من أجل غايات كثيرة. عن الفلسطيني المقاتل، الذي يختلف من مكان إلى مكان، كتبت ليلى حوراني روايتها الأولى : «بوح» ( دار الآداب)، حال سامية عيسى، الإعلامية التي تبدو واعدة في عملها الأول. صاغت ليلى، بكتابة لا تنقصها الموهبة، سيرة ذاتية، كشفت أدبيّتها الحقيقية عن تجربة جماعية، قوامها نفس بشرية، لها ما تتمتع به النفوس البشرية، من فرح وحزن وطموح وانتظار ودموع، وتتضمن سيرة الأمكنة، التي اختارت الفلسطيني، ولم يخترها . وإذا كان في النفس البشرية موقع لطفلة بريئة ومراهقة مضطربة وشابة مجتهدة، فإن في متاهة المكان ذلك الرحيل الطويل : بيروت، قبرص، موسكو، تونس، دمشق، وأصداء من فلسطين الممزقة بعد «الاتفاق». غير أن الجديد الحقيقي في رواية «بوح»، كما في رواية «حليب التين»، هو الابتعاد عن لغة الخشب التي لازمت «أدب البنادق»، فالكاتبتان تحاولان نثراً حقيقياً، ولا تعترفان بالتنميط الذهني، الذي يضع روح الفلسطيني خارجه. فالشخصية عند ليلى حوراني فلسطينية وأنثى معاً ، تلاحق بحنان آثار أبيها المتسرّب من مدينة إلى أخرى، وتعرف «أخبار القضية»، من دون أن تنسى الجسد ونداء الجسد: الذي يختلط بالرغبة والشوق والمداعبة والرطوبة، ويمتزج بما يريده حراً ندياً، ... ولعل «صفة الأنثى» التي عالجتها ليلى بصراحة ورهافة، هي التي قادتها إلى لغة التفاصيل، التي تترجم حوار الروح والجسد في أبعادهما المختلفة، وتنفي المجردات وتحتفظ بالإنسان المشخص. وإذا كانت صاحبة «حليب التين» قد فاجأت «الكفاح المسلح» برعب المعيش اليومي الغليظ الرائحة، فقد فاجأت «الأدب التبشيري» الذي يختصر البشر إلى شعارات، بصراخ «الجسد المعتقل»، حيث لأم الشهيد جسد ويد ورغبة ومتعة وصرخة «فاضحة» تتوّج النشوة. تحيل الكتابة الفلسطينية «النسوية» على شعور بالخيبة، حرّر الوعي من سديم الشعارات والمقدسات الزائفة، وأعاد الاعتبار إلى بداهات الروح والجسد، التي تحتاج إلى لغة طليقة. في روايتها الثالثة «أرق على أرق» (دار الانتشار العربي) عالجت سلوى الجراح، بشكل يجمع بين التعليم والمتعة، ثنائيات يمليها الوضع الفلسطيني : الوطن والوجود الإنساني السويّ (الفرح العابر يذكّر بالوطن)، الذاكرة والقيم، إذ الحفاظ على صورة فلسطين حفاظ على الطهر والمعرفة والبراءة، والأصل والوطن المستعاد، لأن اللاجئ له تراث وتاريخ، حتى لو ظنّ الذين يحذفون وجوده أنه سقط من لامكان، ... رأت الروائية «الأرق» في ظلم يقسم الفلسطيني أكثر من مرة، ويجعله مختلفاً عما كان عليه. لذا تجاهد الكتابة في تثبيت المعيش القديم ، وفي الإعلان عن حنين نبيل إلى جذور مهددة بالضياع. غير أن الحنان الذي تعالج به سلوى الجراح أطياف البيت القديم وملامح العجوز المحتضرة، ينقلب إلى حرقة كاوية وهي ترسم صورة ثري فلسطيني، في لندن، يشبه «مسؤولاً تنظيمياً قديماً»، يحرّضّ فتاة من شعبه على الدعارة، ، كما لو كان الوطن الحقيقي، في زمن تداعي المحرّمات ، هو المال في ذاته، الذي يسبغ على مرتزق مخادع شيئاً من الجاه الكاذب والهيبة المستعارة. وإذا كان ما يربط بين راية حوراني ورواية عيسى هو الجسد المتمرّد على لغة وتصورات من خشب، فإن ما يربط بين الرواية الثانية ورواية الجراح هو التنديد بفساد سياسي فلسطيني، ترك الشهداء لأقدارهم وتاجر بالسفينة الغارقة. أعلنت الروايات الثلاث عن الفرق بين الوطن والمكان، وعن رعب يلاحق المنفي، المنتشر في زوايا كثيرة، ويسقط عليه وهو يسير في بقايا فلسطين، كما جاء في رواية مهند أبو غوش «الكحل يسيل من النافذة»، التي بنت فضاء كابوسياً بنثر حقيقي، لا نعثر عليه عند الكتّاب الفلسطينيين إلا صدفة . يشبه الخوف في «رام الله»، الخوف الذي خارجها، وإن كان خوفاً لا تصاحبه الإهانة. خسر الفلسطينيون قبل حزيران 1967 معظم أرضهم، وفقدوا بعده ما تبقى، وأضاعوا، بعد حديث عجيب عن السلام، صور العدل والسياسة والشعارات الصغيرة والكبيرة، وبحثوا عن شيء جديد. هذه ما تقوله فلسطينيات ثلاث في ثلاث شهادات نبيلة لها مذاق الشوك والحقيقة.