في النصف الأخير من القرن الماضي قامت ثورات وانقلابات في اجزاء متعددة من العالم بما فيها المنطقة العربية، وكانت اذاعة البيان الاول من محطة الاذاعة تعني سقوط عهد وقيام عهد آخر. واختلفت تسميات الحدث: بعضهم سماه حركة كما حدث يوم 23 تموز يوليو 1952 في مصر، وبعضهم الآخر أطلق عليه انقلاباً كما حدث مرات عدة في سورية، وآخرون أطلقوا عليه ثورة كما حدث في ليبيا والعراق... هذا الخلط يثير سؤالين: الاول ما الفارق بين الثورة والانقلاب؟ والثاني هل الثورة غرض أم وسيلة؟ الانقلاب، بصرف النظر عن الأسماء التي ترث اسماء، هو تغيير باستخدام القوة والحيلة. محمد أحمد بدلاً من أحمد محمد... من دون وجود خطط وأهداف للتغيير. أما الثورة فهي عملية هدم الفاسد من مخلفات العهد الذي ولىَّ وبناء الأفضل لتحقيق أهداف معينة، ولذلك فإن أي تغيير في النظم لا يمكن أن يطلق عليه ثورة في فتراته الاولى الى أن تحدد خططه في التغيير والبدء الجاد في تنفيذ الأهداف المعلنة. كانت ثورة تموز 1952 حينما تفجرت مجرد حركة، ولكن بعد أن وضحت اهدافها واتخذت طريقها الى التنفيذ عبر اصدار قانون الإصلاح الزراعي، والقوانين التي هدفت الى معالجة احوال العمال والفلاحين، واتفاقية الجلاء، وتأميم القناة، وتغيير نظام الحكم الملكي الوراثي الى حكم جمهوري، أطلق عليها ثورة عن جدارة وبامتياز. ولكن، هل قيام الثورة غرض في حد ذاته أم أنه وسيلة لتحقيق أغراض معينة أهمها انشاء الدولة بمقوماتها الصحيحة من تشريعية ودستورية، وقاعدة انتاجها الوطنية وقواتها المسلحة الرادعة؟ هل غرض الطليعة الثورية هو الحكم أم أن الغرض هو اتخاذ الحكم كوسيلة لتنفيذ الأغراض التي قامت من أجلها الثورة؟ إذا أصبح الحكم والبقاء فيه والاستمرار على كراسيه وقممه غرضاً، انقلبت الامور كلها الى مجرد انقلاب تغيرت فيه الاسماء، وحينئذ يصبح من حق طلائع ثورية أخرى أن تقوم بحركات تصحيحية قد تنقلب فيها الامور الى صراعات على السلطة ويصبح الاستقرار المرموق بعيد الاحتمال. وفي رأيي أن الذي يبعد هذه الاحتمالات هو العمل على الانتقال من حال الشرعية الثورية الى حال الشرعية الدستورية لإزالة التشوهات التي قد تحدث هنا وهناك أثناء استخدام الاجراءات الاستثنائية التي اقتضتها الضرورة. لأنه اذا كان من حق الطلائع الثورية ان تستخدم الشرعية الثورية للتغلب على العقبات التي تعترض التحولات المطلوبة، فإن هذا الحق لا يجوز له أن يستمر الى فترة أطول مما تقتضيه الاحوال. وقد يردد بعضهم المثل العراقي "إحنا وين وطنبورة وين" أي "وهل هذا وقته؟" في ظل تزاحم الأزمات التي يمر بها العالم العربي. ومع موافقتي التامة على ذلك، إلا أن الدافع لذلك كان مقالاً أثارته صحيفة "الزحف الاخضر" الليبية الناطقة باسم اللجان الثورية الليبية بعنوان "وجاء زمن الرئيس الليبي" بتاريخ 22/1/2004. بعض ما ورد في المقال: "هناك وقت للبناء ووقت للثورة وهناك وقت للدولة. كان العالم في الستينات في ثورة ضد الامبريالية وضد الظلم الاجتماعي والتفرقة العنصرية وكان لا بد لليبيا من أن تتحول من دولة ضعيفة الى ثورة يهابها الجميع، وكان لا بد لهذا الفارس الآتي على جواده الاخضر من أن يشعل النار في الدولة المهترئة ويحولها الى ثورة يهابها الاعداء. وقد نضجت ثمار الثورة وأمسى من الضروري أن تتغير قواعد اللعبة لتواكب تطورات العالم على أرضية الواقع. فقد جاء إذاً زمن الدولة وحان الوقت للفارس المحارب الذي قاد الثورة أن يترجل ليبني الدولة ويكون رئيسها". وعلينا أن نأخذ هذه الاقوال في اطار أن "الزعيم" الليبي العقيد معمر القذافي لا يتولى حالياً أي منصب في الحكم الليبي، إذ هو الزعيم الذي قاد الثورة والمطلوب أن ينتقل من خانة الزعامة الى خانة الرئاسة ليبني الدولة المواكبة للتطورات العالمية. وأضيف فقرة اعتراضية قبل ان نختتم بالتعليق والرأي. كانت الجماعات التي كنت اتشرف بقيادتها وقت قيام ثورة الفاتح هي أول من قابل مندوبها الغامض بعد منتصف ليلة أول أيلول سبتمبر 1969 وقبل اذاعة بيانها الاول في احد الابنية في طرابلس. ثم كنت احد اثنين اشتركا في إعداد بيان اعتراف مصر بالثورة بناء على أوامر الرئيس عبدالناصر، ثم توليت بعد ذلك شؤون المساعدات التي قدمتها مصر الى العهد الجديد مع الاخ عبدالسلام جلود الذي بدا في تلك الفترة انه الرجل الثاني في القيادة الثورية الجديدة بعد العقيد القذافي. ونعود الى مقال صحيفة "الزحف الاخضر" لنعلق بحياد احد المواطنين الذين يتخبطون في الشارع العربي، مؤيداً ما ذهبت اليه الصحيفة من ضرورة اعلان انتهاء الثورة بعد مضي اكثر من 35 عاماً على قيامها. فهذا هو الاجراء الطبيعي الذي ربما تأخر كثيراً، إذ انه يدل على أن الثورة نجحت في بناء الدولة التي قامت من أجل تحقيقها، علاوة على أن الإجراءات الاخيرة التي اقدمت عليها الجماهيرية لتخرج من العزلة التي فرضت عليها في طريق انضمامها الى المجتمع الدولي، كانت خطوة دراماتيكية نحو هذا الاتجاه. فقد تغيرت قواعد اللعبة وما كان جائزاً في منتصف القرن الماضي اصبح متحفظاً عليه او محظوراً في اوائل القرن الحالي وأصبح تاريخاً نتحفظ عليه ونحن نندفع الى واقع الجغرافيا. أما ما ورد في المقال من انه "حان للزعيم الذي قاد الثورة أن يترجل من على ظهر جواده ليبني الدولة ويكون رئيسها"، فهو إلزام للرجل قد لا يرحب به بعد مواجهته العاصفة في الإعداد للثورة وهو في بداية شبابه وما كبده ذلك من عناء، الى فترة دعم الثورة بما تم فيها من احداث خطيرة توالت طوال 35 عاماً. الالزام هنا فيه إحراج للرجل كان على المقال أن يعفيه منه لأن الجلوس على الشاطئ ليس مثل السباحة في نهر كثرت امواجه وتعاظمت عواصفه. ونختتم باقتراح قد يكون مناسباً مع كل الانظمة العربية في اطار ما نلمسه من الاتجاه العام للاصلاح فيها وهي ظاهرة ايجابية لمحو التشوهات الموجودة والتي ربما دعت العوامل الضاغطة في الماضي الى وجودها. ويتعجل بعضهم إحداث التغيرات حتى تتم "بيدنا لا بيد عمرو" أو بوش بينما يدعو بعضهم الآخر الى التأني ليكون التغيير خطوة خطوة. وهذا رأي لا غبار عليه شرط أن يعلن عن مراحل التغيير وما يتم في كل مرحلة مع تحديد خط احمر أو أزرق أو أخضر تتخلص فيه النظم من شوائبها، لأن البطء في التنفيذ قد يعني السير بسرعة السلحفاة وهذا غير مرغوب فيه محلياً وعالمياً. والإسراع في التنفيذ قد يعني الجري بوثبات النمور وهذا خارج قدرتنا. وخير الأمور الوسط. المهم أن نبني الدولة بشرعيتها ومؤسساتها وعلاقاتها الافقية والرأسية السليمة والسوية من دون قوانين استثنائية حتى تصبح الدولة دولة الشعب ولخدمة الشعب. الإصلاحات القطرية حتمية لأنها تردع الغير من التدخل بدعوى الاصلاح، ولأنها أيضاً أساس العمل القومي الجماعي لئلا تصبح الإرادة القومية صفر " صفر تساوي صفراً! * كاتب، وزير دفاع مصري سابق