فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    وزير الطاقة: الربط الكهربائي مع اليونان أثمر عن تأسيس شركة ذات غرض خاص    الريال يتجاوز مايوركا ويضرب موعداً مع برشلونة في نهائي السوبر    أنشيلوتي معجب ب «جماهير الجوهرة» ويستعد لمواجهة برشلونة    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    أدباء ومثقفون يطالبون بعودة الأندية الأدبية    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    الخروج مع الأصدقاء الطريق نحو عمر أطول وصحة أفضل    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    الحمار في السياسة والرياضة؟!    ماذا بعد دورة الخليج؟    عام مليء بالإنجازات الرياضية والاستضافات التاريخية    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    أسرار الجهاز الهضمي    "منزال" يعود بنسخته الجديدة في موسم الدرعية..    السياحة الإعلاميّة    مريم بن لادن تحقق انجازاً تاريخيا وتعبر سباحة من الخبر الى البحرين    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    «سلمان للإغاثة» يوزّع مواد إغاثية متنوعة في سوريا    الضمان الاجتماعي.. 64 عاماً من التكافل    الصدمة لدى الأطفال.. الأسباب والعلاج    كيف تكسبين زوجك؟!    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    «متطوعون» لحماية أحياء دمشق من السرقة    «الأوروبي» في 2025.. أمام تحديات وتوترات    حوادث طيران كارثية.. ولا أسباب مؤكدة    العقل والتاريخ في الفكر العربي المعاصر    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    المقدس البشري    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    سالم ما سِلم    تموت الأفاعي من سموم العقارب!    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    إنجازات المملكة 2024م    أفضل الوجبات الصحية في 2025    ثنائية رونالدو وماني تقود النصر للفوز على الأخدود    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من رئيس السنغال    حقيقة انتقال فينيسيوس جونيور إلى دوري روشن    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    «الجوازات»: اشتراط 30 يوماً كحد أدنى في صلاحية هوية مقيم لإصدار تأشيرة الخروج النهائي    أمانة الشرقية تكشف عن جهودها في زيادة الغطاء النباتي للعام 2024    المرور السعودي: استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في جازان    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    من أنا ؟ سؤال مجرد    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    طالبات من دول العالم يطلعن على جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    «الثقافة» تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإصلاح أجدى من الثورات وأقل كلفة لإجراء التغييرات
نشر في الوطن يوم 28 - 06 - 2016

يعرض كتاب "الحرية بلا ثورة" لمؤلفه سعد الحمودي إلى أن الإصلاح قد يكون طريقة أقل كلفة لإجراء التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي من الثورة. مستعرضاً تجارب ثورات عدة والكلفة التي نجمت عنها والنتائج التي آلت إليها، مقارنة بإجراء إصلاح بلا عنف ولا هدم.

جراحة الثورة أم كبسولة الإصلاح؟
يمكن القول إن التغييرات الكُبرى في الدول والنظم والمجتمعات الإنسانية انطلقت في بدايتها في أحد طريقين: إما (الثورة)، وإما (الإصلاح).
الثورة على مدار التاريخ الإنساني كله كانت إجراء شعبياً عنيفاً، يعبر عن غضب هائل ومرحلة من الرفض الكامل للنظام القائم، والسعي لاجتثاثه من جذوره وإنهاء دوره بشكل نهائي.
أما الإصلاح، فهو نزعة تدريجية تستند إلى فكر محدد، وتنطلق بناء على رؤية واضحة، تحمل إصلاحات تدريجية بسيطة تظهر آثارها بسيطة على المدى القصير، وكبيرة على المدى البعيد بهدوء وانسيابية. وكلا المنهجين لهما أسبابهما، ومميزاتهما، وعيوبهما، وتكاليفهما، وعقولهما، وخلفياتهما، إلا أن ثمة فروقاً أساسية بين مفهومي (الثورة) و(الإصلاح) تم رصدها عبر آلاف التجارب الإنسانية والمجتمعية طوال التاريخ، باختلاف اللغات والثقافات والخلفيات والأديان والعقليات، يمكن أن نجملها بشكل سريع في خمسة محاور:
1 الحلول
الثورات لا تأتي أبداً بحلول كونها عملاً (شعبوياً) بالأساس، أبطالها ومفجروها هم طوائف الشعب والجماهير بالمعنى الواسع، فليس من مهمة الثائر أن يقدم حلولاً للنظام الذي ثار عليه، أو الواقع الذي يثور من أجل تغييره!
الثورة والثوار مهمتهم فقط هدم القديم، والقضاء على الأوضاع القائمة، دون طرح فكر مستقبلي للنهوض أو التجديد أو التغيير.
أما الإصلاح، فأبطاله ومفجروه هم طوائف النخب والمفكرين والأكاديميين والساسة من مختلف التيارات سواءً الحاكمة أو المعارضة، وليس طوائف الشعب أو عامة الناس، مهمتهم الأساسية هي تقديم حلول للنظام يتبنّاها لصالح المجتمع والدولة والحُكم!

2 منهجية التغيير
الثورة هدفها التغيير الجذري، وليس إعادة ترتيب الأوضاع، ولا الإصلاح التدريجي!
منهجية التغيير في الثورة، هي هدم كل شيء والبدء من الصفر، أما الإصلاح، فمنهجية التغيير من خلاله متدرجة وربما بطيئة، ولكنه يُبنى على بناء قائم بالأساس، ويستمر في تطويره وتحديثه.

3 الوقت
الثورة تتبع فكرة فيزيائية معروفة هو أن (الهدم أسهل بكثير جداً من البناء)؛ لذلك فانهيار النظم الحاكمة تحت وطأة الثورات الشعبية سريع للغاية، إلا أن إعادة بناء (نظام) من جديد يكون أمراً شاقاً ويتطلب سنوات طويلة.
أما في الإصلاح، فالنظام قائم بالفعل وغير مُهدّم. صحيح أنه يحتوي على أخطاء – أو حتى خطايا – إلا أن كونه قائماً يجعل عملية الإصلاح في كافة مستوياته أسهل وأكثر أماناً وقدرة على التحقق والظهور، وإن طال وقت الإصلاح.

4 الاستقطاب
الثورة منحازة بشكل مُطلق لا تعرف الوسطية، بل هي انحياز كامل لمن قام بتفجيرها، وتهمل الجوانب والطوائف الأخرى في المجتمع، مما يؤدي عادة إلى نشوب صراعات عرقية أو طائفية أو طبقية لسنوات طويلة.
أما الإصلاح، فهو في الأصل دعوة وسطية تضمن الحياد بين كافة أطراف المجتمع والدولة والنظام، وتركز على العمل التوافقي الجمعي بشكل أكبر، ويراعي كافة الأركان التي يتكون منها المجتمع.

5 النتائج
نتائج الثورات ليست كلها رخاء واستقراراً، وكثير جداً منها آلت إلى نُظم قمعية استبدادية، ولكن في المقابل لا يذكر التاريخ بالسوء، أي حركة إصلاح تدريجي تمت في أي دولة، أو أي مجتمع، حتى تلك الدول التي استغرق فيها الإصلاح مئات السنين!
باختصار، الإصلاح – تاريخياً – مأمون النتائج.. والثورة غير مضمونة العواقب!
عنف في فرنسا وإصلاح في بريطانيا!
في 14 يوليو سنة 1789 اندلعت شرارة الثورة الفرنسية التي ساهمت في بناء فرنسا المعاصرة بالفعل، لكن ما يجهله الكثيرون جداً أن الثورة الفرنسية صنّفها كثير من المؤرخين على أنها ثورة فاشلة في نتائجها المباشرة، باعتبار أن كل ما نادت به من قيم عادلة لم تظهر إلا بعد عقود طويلة جدا.
من دون الدخول في تفاصيل معقدة، فالثورة الفرنسية – مثل أي ثورة أخرى – اندلعت ضد الملك "لويس السادس عشر" لأسباب اقتصادية بحتة يعاني منها الشعب الفرنسي، أهمها عدم توفر الخبز، وغياب مُطلق للعدالة الاجتماعية ونظام حُكم أمني قمعي إلى أبعد الحدود.
على مدار 10 سنوات كاملة (1789– 1799) مرت الثورة الفرنسية بثلاث مراحل:
الأولى (1789 – 1792): هي أساس الثورة.. تم إلغاء الملكية المطلقة واستبدالها بملكية دستورية، ووضع أول دستور، وإصدار بيان حقوق الإنسان والمواطن، وإلغاء امتيازات النبلاء ورجال الدين، وإجبار الملك على اقتسام السلطة مع الجمعية الوطنية، وإقرار مبدأ مجانية التعليم والعدالة الاجتماعية وتوحيد الأمة.
المرحلة الثانية (1792 – 1794): إلغاء الملكية تماماً وإعلان الجمهورية الفرنسية الأولى، وإعدام الملك "لويس السادس عشر"، إلى جانب مقتل حوالي 40 ألف مواطن فرنسي، وانتشار الإرهاب وعدم الأمان في طرقات المدن الفرنسية، ومواجهات ما بين الثورة والثورة المضادة.
المرحلة الثالثة (1794 – 1799): (فترة اندثار الثورة) وتراجع التيار الثوري، وعودة البرجوازية إلى الحكم التي ثار ضدها الشعب الفرنسي، وتم وضع دستور جديد يعطي الجيش صلاحيات كبيرة.
انتهاء الثورة بالمفهوم الشعبي المؤسسي، وقيام "نابليون بونابرت" بعمل انقلاب عسكري، وإلغاء الجمهورية الفرنسية وإعلان الحُكم الإمبراطوري للبلاد.
عادت الملكية مرة أخرى (التي قامت ضدها الثورة الفرنسية) والتي استمرت حوالي ثلاثين عاماً تقريباً من (1815 – 1848)!
ثم اندلعت الثورة الفرنسية الثانية "ثورة فبراير1848 مرة أخرى على الملكية وإعلان الجمهورية الفرنسية الثانية لمدة 4 سنوات (1848 – 1851)، ثم تمت عودة النظام الإمبراطوري مرة أخرى بقيادة "لويس نابليون - نابليون الثالث" الذي أعاد مرة أخرى نفس سيناريو السلطة الفردية المطلقة والتوسعات العسكرية الطائشة حتى الهزيمة العسكرية على يد الجيوش الألمانية في عام 1870، ثم جرى إعلان الجمهورية الثالثة التي استمرت من عام 1870 حتى عام 1940.
أكثر من 140 عاماً تقريباً قضتها فرنسا في التغييرات الثورية العنيفة المفاجئة، والتنقل السريع والمُدهش من نظام ملكي.. إلى جمهوري.. إلى انقلاب عسكري.. ثم عودة للملكية.. ثم إلى إمبراطورية فردية.. ثم جمهورية.. حتى وصلت في النهاية – بعد الحرب العالمية الثانية – إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي الكامل.

حتى النُخب يثورون
في بريطانيا كان المواطنون يشعرون بالظلم والغضب بسبب النظام الحاكم المُستبد، ففي عام 1688 كانت بريطانيا تمر بمرحلة غليان حقيقية وغضب شديد من سياسات الملك "جيمس الثاني"، إذ كان:
يحكم البلاد حُكماً فردياً مُطلقاً.
يعطي نفسه صبغة دينية كاملة بأنه الملك المُفوّض من الإله لحكم بريطانيا.
فرض ضرائب هائلة، وانهيار الاقتصاد، وشعور المواطن العادي بالعبء الاقتصادي الكبير عليه.
العصبية المذهبية، إذ كان "جيمس" من الرومان الكاثوليك فحابى الكاثوليك في المناصب وقربهم إليه في سياسة الدولة.
النتيجة الطبيعية والمُنتظرة هي أن تندلع ثورة شعبية هائلة من قبل المواطنين والطبقة الدنيا من الشعب تطيح بالملك وتشيع الفوضى، إلا أن بريطانيا شهدت حدثاً عجيباً بحق، ففي عام 1688، ومع بلوغ الغضب الشعبي منتهاه، اندلعت (الثورة المجيدة)، أو (الثورة البيضاء)، كما يطلق عليها التاريخ البريطاني، التي قادها (البرلمانيون) ضد الملك باعتبارهم ممثلين للشعب من كافة الطوائف وأرجاء البلاد، وبدعوة من المعارضة المحلية، تم استقدام أحد القادة "حاكم هولندا - ويليام الثالث" على رأس قواته إلى إنجلترا عام 1688، ثم قام بخلع صهره الملك "جيمس الثاني" في الثورة المجيدة‏، واعتلى العرش بعده هو و(ماري الثانية).
وفي عام 1689 أصدر (البرلمان الإنجليزي) الذي قاد الثورة، ما يسمى (إعلان الحقوق) الذي استعرض المظالم والأخطاء والفساد الذي ارتكبه الملك "جيمس الثاني" – الذي تم عزله – في حق الشعب البريطاني ووضع إطاراً وضوابط صارمة على (الملك الجديد).

أثر الثورة
حق الملك في التاج والحُكم، مستمد من الشعب.
ليس من حق الملك إلغاء أو إصدار قوانين جديدة، إلا بموافقة البرلمان.
لا تُفرض ضرائب جديدة ولا يتم تشكيل جيش جديد، إلا بموافقة البرلمان.
حرية الرأي والتعبير في البرلمان مكفولة ومصانة.
كم يبلغ عدد الذين سقطوا في هذه الثورة؟.. صفر.. باختصار تحققت المعادلة: إصلاحات ثورية.. بدون ثورة!.

ثورة 23 يوليو المصرية
المكان، والزمان: "القاهرة"، 23 يوليو 1952
الحدث: اندلاع ثورة يتزعمها مجموعة من الضباط داخل الجيش المصري، يُطلق عليهم (الضباط الأحرار).
الهدف: رغبة الجيش في تنازل الملك عن العرش لابنه "أحمد فؤاد" وتغيير الحكومة القائمة وإعادة الحكومة التي أقالها الملك. مصر قبل ثورة 23 يوليو
عانت مصر سلسلة من الفساد السياسي إبان الحقبة الملكية، ومع ذلك كان فيها:
نسبة البطالة بها 2% فقط.
الاقتصاد الكلي قوي للغاية؛ لدرجة أن العملة المصرية (الجنيه المصري) كان يعادل 4 دولارات.
مصر أقرضت بريطانيا العظمى حوالي 350 مليون جنيه إسترليني.
حصلت القاهرة على المركز الأول في مسابقة أجمل مدن العالم.
سيارة الأجرة في القاهرة كانت من نوع (كاديلاك) الأميركي.
كان الأجانب يتوافدون على مصر للعمل في الوظائف الدنيا (حلاقين، نوادل في المطاعم والمقاهي)!
بعد ثورة 1952:
تم إلغاء البرلمان وحل الأحزاب السياسية والتأصيل لمنهجية الحُكم الفردي المُطلق.
انهار الجنيه المصري الذي كان يعادل 4 دولارات إلى دولارين ونصف في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي استلم الحكم في البلاد وبريطانيا مدينة لمصر ب350 مليون جنيه إسترليني، وتوفي تاركاً ديوناً على مصر بقيمة ملياري دولار إلى جانب ديون عسكرية بقيمة 3 مليارات دولار.
تعرضت مصر لخسارتين عسكريتين فادحتين كلفتاها الآلاف من الجنود والضباط، وخسائر اقتصادية هائلة (حرب السويس 56، ونكسة 67).
ظهور ما يعرف بدولة (القبضة الأمنية الحديدية).
حدث هذا في بلد محكوم بنظام ملكي دستوري برلماني، مَلِكه يملك ولا يحكم إطلاقاً، وليس من أدواره تعيين رؤساء الحكومة، بل البرلمان الممثل من قبل الشعب هو المسؤول عن ذلك.

وفي بلد لديه حركة حزبية قوية للغاية، ومؤسسات حكومية، وأركان دستورية، تمت الإطاحة بكل هذا بإجراءات استثنائية، أعادت الحياة السياسية في مصر كلها إلى تحت الصفر، واختفت الديموقراطية التي تكوّنت على مدار 150 عاماً في مصر، وظهرت الممارسات الأحادية لمفهوم التنظيم السياسي الواحد واستمرت على مدار 60 عاماً تقريباً!
الإصلاح أفضل أم الثورة؟

هل الإصلاح التدريجي هو بديل أفضل من الثورة المفاجئة؟
لكل بلد خصوصياته وطبيعة معطياته الجغرافية والتاريخية والإنسانية، إلا أن الإصلاح يبقى هو الأساس؛ لأن المصلحين ينطلقون دائماً من خلفية فكرية، بينما ينطلق الثوار من دوافع الحماسة الوطنية.
يمكن القول إن الثورة انفعال، والإصلاح تفكير، فالتاريخ يؤكد أن جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ومارتن لوثر كينج، وغاندي... وغيرهم هم مصلحون إلى حد الثورة إن جاز التعبير! ف"الأفغاني" داعية اتحاد المسلمين وإصلاح شؤونهم، و"محمد عبده" مصلح ديني واجتماعي رفيع القدر والعقل، و"غاندي" كان ثائراً مصلحاً اعتنق نظرية اللاعنف وطرح مبدأ المقاومة بلا عنف، و"مارتن لوثر كينج" هو شهيد الإصلاح في المجتمع الأميركي ومواجهة العنصرية واضطهاد السود. كلهم كانوا الأوقع تأثيراً في تاريخ مجتمعاتهم، ولديهم منهجية خلّدها التاريخ في الكتب والمراجع، واعتبرت منهاجاً إصلاحياً متجدداً.

فساد يُزكم الأنوف ويُعمي العيون!
على مدار التاريخ الإنساني كله لم تتحرك الجماهير الغاضبة والشعوب المتألمة بشكل فوضوي عارم للإطاحة بالحُكم – أياً كان - إلا ووضعت (الفساد) السبب الأول والرئيس والمُباشر لهذا التحرك.
الواقع أنه، ومنذ فترة طويلة أصبح الفساد الإداري والمؤسسي والاقتصادي والاجتماعي، أمراً يكاد يكون طبيعياً في الدول العربية، مما دفع إلى معدلات هائلة من الفقر والتراجع الاقتصادي والتنمية المُجتمعية المتخلفة، أدت إلى اضطرابات شديدة أحياناً، أو اندلاع ثورات غاضبة أحياناً أخرى.
وما يدعو للهلع الحقيقي، أنه بعد اندلاع الثورات في أكثر من بلد عربي والإطاحة بعدد من الحُكام، كانت النتيجة أن معدلات الفساد ومؤشراته قد ارتفعت بشكل حاد، بدلاً من أن تنخفض أو تتوقف عند نسبة ثابتة على الأقل؛ تمهيداً لانخفاضها التدريجي.
ولكن هذا لم يحدث للأسف؛ وهو ما يعيدنا إلى سيناريو (الفوضى) بعد اندلاع ثورة نبيلة غرضها الإصلاح والتغيير.

معدلات مخيفة للفساد!
في حوار مُطوّل نُشر في جريدة الأهرام المصرية في سبتمبر 2012 صرّح "الدكتور رفعت الفاعوري" المدير العام للمنظمة العربية للتنمية الإدارية، تصريحاً مخيفاً، إذ أوضح أن حجم الفساد المالي والإداري في العالم العربي نتج عنه خسائر تقدّر بحوالي (ثلاثة تريليونات دولار) خلال الستين عاماً الماضية فقط.
أي 3 آلاف مليار دولار خسائر ناتجة عن الفساد في المنطقة العربية ككل، خلال ال 60 عاماً الماضية!
كما أوضح "د.الفاعوري" أن أكثر أنواع الفساد تأثيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية العربية، تتمثل في أوضح صورها في أن 10% من المواطنين العرب يمتلكون مقدرات 80% من ثروات الدول، بينما النسبة الباقية من الشعب لا تملك سوى 20% فقط.
تقرير لمنظمة الشفافية الدولية، قيّم فيه مصر عام 2010 (قبل اندلاع الثورة المصرية بشهور) بأنها تحتل المرتبة رقم 98 من أصل 178 بلداً من حيث الفساد، وهو رقم خطير جداً جعلها تأخذ نقاط (3,1) في الفساد السياسي والمحلي والإداري.
وهو ما جعل اندلاع ثورة يناير في عام 2011 أمراً مفهوماً إلى حد كبير، ولكن التقارير الآتية من نفس المنظمة بعد عام 2011 تشير إلى أن معدلات الفساد زادت بشكل مخيف بعد اندلاع الثورة، ففي عام 2011، وهو العام الذي اندلعت فيه الثورة، تراجعت مصر في تقرير مؤشرات الفساد من الخانة (98) إلى الخانة 112، ثم تراجعت أكثر لتحتل المركز 114 من حيث مؤشرات الفساد لتكون من أكثر الدول فساداً مالياً واقتصادياً وإدارياً! وقد أعلن الجهاز المركزي للمحاسبات في مصر، في تصريح مثير، أن حجم الفساد في مصر يصل إلى 200 مليار جنيه سنوياً. وفي عام 2012، صدر تقرير الشفافية الدولية حول أكثر الدول فساداً، حاملاً معه صدمات أخرى، بخصوص الدول العربية تحديداً. فمن بين 174 دولة تم إجراء استطلاعات بخصوص انتشار الفساد بها، احتلت الدول العربية أسوأ مراكز بالقائمة من حيث انتشار الفساد، إذ جاءت السودان والصومال في المركزين 173 و174 على التوالي، تلتهم العراق في المرتبة 169، ثم ليبيا في المركز الرابع عربياً وال160 عالمياً. وجاء في القائمة اليمن بالمركز الخامس عربياً وال158 عالمياً، وسورية السادس عربياً وال144 عالمياً، بالإضافة إلى لبنان السابع عربياً وال 122 دولياً، ومصر الثامن عربياً وال 118 عالمياً. وجاءت كل من الجزائر في المرتبة التاسعة على مستوى الدول العربية والمرتبة ال 105 على مستوى العالم، ثم المغرب عاشراً وفي المرتبة ال 88 عالمياً.
في عام 2013
استمرت الدول العربية في احتلال أسوأ مراكز بقائمة أكثر دول العالم فساداً، إذ احتلت الصومال المركز 175، تلاها السودان في المركز 174، ثم ليبيا في المركز 172 من بين 175 دولة أجري عليها الاستطلاع.
العراق أيضاً لم يسلم من دائرة الفساد بعد مرور 10 سنوات من الإطاحة بحاكمه العسكري "صدام حسين" في 2003، فقد سجّل المركز 171 على مؤشر الفساد العالمي في عام 2013 على الرغم من ثرواته النفطية والطبيعية والبشرية الهائلة.
في سورية البلد الرحب متعدد الطوائف والمذاهب والألوان وصل مؤشر الفساد به في عام 2013، وبعد مرور عامين على اندلاع الثورة ضد نظام "بشار الأسد" وما تلاه من أحداث دموية رهيبة هي الأقسى والأعنف في تاريخ الثورات العربية على الإطلاق، إلى المركز 168 للعام على مؤشر الفساد الدولي.
وفي مصر وصل مؤشر الفساد الداخلي لمرحلة جعلت البلد الذي يسكنه حوالي 90 مليون نسمة يحتل المركز 114 عالمياً من حيث الفساد.
المخيف أكثر أن مؤشر الفساد لا يقف فقط على الدول التي اندلعت بها الثورات، أو التي تعاني من اضطرابات سياسية وطائفية فقط، بل يمتد ليشمل معظم الدول العربية، فجاءت الجزائر في المركز 94 عالمياً من حيث الفساد، بينما احتلت المغرب المركز 91 عالمياً، ثم تونس التي احتلت المركز 77 من حيث أوجه الفساد.
المؤلف في سطور
سعد بن محمد الحمودي
إعلامي.
صدر له: "تأثير لا يقاوم، ذكاء المشاعر، شخصيتك بين يديك، لا تشبه أحداً سواك، ذاتك علامة تجارية، فاشل ولكن".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.