من المؤسف أن تتحول وفاة المرحوم الدواليبي الى مناسبة متأخرة للتراشق السياسي بدلاً من أن تكون مناسبة لتذكر مناقب الرجل، ولوقفة أكثر تريثاً تحاول تقويم تلك الفترة من تاريخ سورية بشكل جاد، فقد كان الدواليبي آخر من توفي من رجالاتها. واحتراماً لذكراه، دعني أبدأ فأبلغك ما سمعته من والدي أكرم الحوراني عن الدواليبي لأنه حدث ان سألته يوماً في شكل مباشر عنه. فقد كانت مجلدات الجرائد القديمة تملأ المنزل حين كتابة والدي لمذكراته، ولفتني لقب "الشيخ الأحمر" الذي ورد في صحيفة "الرأي العام" على ما أذكر، فقال لي أكرم الحوراني ان الدواليبي كان "من الفطاحل" وذكر دوافع استعداده للتعامل مع دول الكتلة الشرقية من أجل تسليح سورية، وقال ان الدواليبي كان يتقبل الأمور بعقل متنور وأن تأييده - وهو عالم الدين الفقيه - منح المرأة حق الانتخاب بموجب قانون 1949 الانتخابي والذي كان الحوراني عضواً في اللجنة الوزارية التي وضعته، ولما ورد في دستور 1950 من أن "حرية الاعتقاد مصونة والدولة تحترم جميع الأديان السماوية" كان له دور مهم في اقناع بعض الفئات المحافظة. وأعود الى مقال السيد النونو الذي جاء فيه: "كان أكرم الحوراني أول المتعاونين مع الزعيم، إذ وضع البلاغات العسكرية التي أذيعت في الإذاعة بصوته". وكنت أرجو أن يفسر لنا السيد النونو في مقاله كيف يتوافق هذا مع اسناد منصب وزاري الى أكرم الحوراني في الوزارة الأولى التي أعقبت ازاحة الزعيم واعدامه، فقد كان الحوراني وزيراً للزراعة في حكومة هاشم الأتاسي التي تولت الحكم الى حين مجيء اللجنة التأسيسية. لقد كتب الحوراني وبوضوح في مذكراته عن استدعاء الزعيم له في 29-3-1949 اليوم الأول للانقلاب وعن ذهابه في اليوم الثاني الى وزارة الدفاع للاحاطة بالجاري الذي أخذ الجميع على حين غرّة فقد كان هذا أول عهد سورية بالانقلابات العسكرية. ولكن الحوراني لم يكن وحيداً لا في ذهابه الى وزارة الدفاع ولا في عدم ادراكه أبعاد هذه الحركة، فقد انهالت تصريحات التهنئة ومذكراتها والتوصيات على حسني الزعيم من الكثير من رجالات سورية وحركاتها السياسية. وأذكر على سبيل المثال الرئيس هاشم الأتاسي وسلطان باشا الأطرش وحركة الاخوان المسلمين ومرشدها مصطفى السباعي وحزب البعث وموجهه ميشيل عفلق، وهذا كله موثق ومنشور لمن يبحث عن الحقيقة. ولم يكن موقف بعض أقطاب حزب الشعب يختلف أيضاً، ففي 15-4-1949 قبل فيضي الأتاسي أحد رجالات الحزب البارزين، رسمياً تكليفه تأليف الوزارة من جانب الزعيم، إلا أن الزعيم فاجأ الجميع وعيّن نفسه رئيساً لها، وقد كتبت جريدتكم "الحياة" البيروتية الصادرة في 17-4-1949 تفاصيل الحادثة. لقد كانت هذه المواقف بمعظمها أولية جاءت كجزء من رد الفعل على هزيمة 1948 والاعتقاد السائد بتقصير الحكومة القائمة بالإعداد لها، إلا أن الأمر اختلف تماماً عندما توضحت الأبعاد الحقيقية للانقلاب. وانه من السهل ان نطلق الأحكام القاسية على كل هؤلاء إذا ما نحن حكمنا عليهم خارج السياق التاريخي للحدث وبعد خمسين عاماً من التجربة في الحياة السياسية السورية. وأما عن اذاعة بلاغات الانقلاب بصوت أكرم الحوراني، فإنه ليس أمامي من وسيلة للرد على التهم المجحفة حين توجه من دون أي دلائل إلا ذكر الحقيقة، وهي ان هذه الادعاءات محض افتراء. واستمر خلط الأمور عندما عرض المقال قضية انقلاب العقيد لا اللواء الحناوي كما جاء على لسان السيد النونو، إذ وجه الذم ضمنياً الى التدخلات العسكرية باستثناء انقلاب الحناوي الذي جاء كما ورد "بهدف تسليم أمور سورية الى رجال السياسة ولتحقيق الاتحاد مع العراق"، وأني لأعجب كيف يمكن التوفيق بين شطري هدف الانقلاب، إذ ان هدف اعادة الحياة الدستورية الى البلاد يتعارض جذرياً مع تدخل الجيش لتحقيق أهداف سياسية محددة. ولا أعلم ان كان الدواليبي من أشد المؤيدين للاتحاد مع العراق كما ورد في المقال. ولكن وبحسب علمي، فقد كان شقيقه الملازم مصطفى الدواليبي أحد الذين نفذوا حركة ازاحة الحناوي من الجيش. لقد ورد في المقال ان انقلاب الشيشكلي "كان بتحريض من أكرم الحوراني لأن تحقيق الاتحاد مع العراق سيذيب شخصيته". لكن السيد النونو أغفل في مناقشته للاتحاد بين سورية والعراق موضوع ارتباط العراق في تلك الفترة بمعاهدة مع بريطانيا وأنه كان لها وجود عسكري على أراضيه ولو لم يغفل ذلك لاستنتج بعض القراء أن معارضة الحوراني للاتحاد مع العراق لم تكن بدوافع شخصية، بل لتخوفه من تمدد النفوذ البريطاني الى سورية، ولربما اتفقوا معه على أن تنشيط صناعة النسيج في حلب ليست سبباً كافياً لفتح نافذة أمام النفوذ البريطاني بعد فترة وجيزة من تكبد الشعب السوري عناء طرد الفرنسيين من الباب. وأما في استعراض وقائع انقلاب الشيشكلي، فإن المقال يلجأ من جديد الى ليّ الحقائق، إذ يذكر أن الانقلاب وقع في 19-12-1949 مع ان الحياة السياسية الدستورية كانت لا تزال قائمة في ذلك التاريخ. فقد لجأ السيد النونو الى تبسيط مرحلة معقدة ليتمكن من اطلاق أحكامه المسبقة. ولا يتسع المجال للكلام على تلك الفترة الآن. ومن يريد معرفة تفاصيلها فربما عليه الاطلاع على مذكرات حسن الحكيم رئيس الوزراء 1951. وللتصحيح: لقد أذيع البلاغ الرقم 1 لانقلاب الشيشكلي في 21-11-1951، في 6-4-1952 جاء أمر بإغلاق جميع فروع العربي الاشتراكي - الذي أسسه أكرم الحوراني - وأغلقت جريدته ومكاتب بقية الأحزاب في اليوم ذاته. بدأت حملة اعتقالات في صفوف الحزب وأصبح الحوراني قانعاً بأن الدور آت عليه لا محالة، فقرر الذهاب الى لبنان في 12-1953، رفضت الحكومة اللبنانية بضغوط من سورية السماح له بالبقاء وغطت الصحف اللبنانية ما جرى "الدستور"، "الهدف"، اضطر الحوراني الى الذهاب الى ايطاليا حيث مكث خمسة أشهر شعر خلالها بأنه أصبح عاجزاً عن التأثير، فقرر العودة الى سورية واعتقل وزج به في سجن الشيخ حسن في اليوم الأول من عودته هو والعشرات من الذين جاءوا للسلام عليه بعد عراك دار بينهم وبين قوى الأمن في الشارع الذي كان يقطنه في منطقة الأزبكية. وكان الحوراني وهؤلاء المعتقلون الوجبة الأولى التي تلقاها سجن الشيخ حسن بعد أن تم اغلاقه مع خروج الفرنسيين، ولم يفرج عن الحوراني الا بعد انقلاب مصطفى حمدون في 25-2-1954 الذي أزاح الشيشكلي وأعاد هاشم الأتاسي الى رئاسة الجمهورية. وقد يسأل البعض لماذ هذا الاهتمام بأشياء مضت عليها عقود. ولكن الحقيقة تكمن في أن تناولنا محاولة فهم التاريخ قد تكون مؤشراً الى أسلوب تعاملنا مع المستقبل. لم تتميز فترة الخمسينات من تاريخ سورية بالتناحر السياسي والانقلابات العسكرية الشيء الذي يستشف جلياً من مقال السيد النونو والمؤامرات التي تثبت سجلات القضاء السوري ووثائق الخارجية الأميركية تورط بعض الأشخاص بها. لكنها وعلى رغم كل ذلك تميزت باستفادة سورية من المد الشعبي المعادي للنفوذ الأجنبي ومن التنافس الدولي للحفاظ على هامش كبير من سيادتها مقارنة بالدول المجاورة، فصدت سورية النفوذ وسياسات الاحلاف وأفشلت تمدد النفوذ الأميركي الذي جاء مع الانقلابات. لم يكن التصدي للنفوذ الأجنبي يجرى ضمن دوائر مغلقة، بل شارك به المهتمون من كل فئات المجتمع السوري ودارت المعركة في الصحافة وفي مجلس النواب وعلى ألسنة الناس. وربما رسخت تلك الفترة ثوابت وطنية تساهم اليوم في الحيلولة دون بروز أي حركة معارضة سورية لها جذور في الشارع السوري ومستعدة للاستقواء بالأجنبي على أبناء الوطن. وبالتوازي مع ذلك وفي الفترة ما بين 1946 - 1958 تمكنت سورية من مضاعفة دخلها القومي وحققت نمواً اقتصادياً يكاد يكون حلماً بمقاييس المنطقة العربية اليوم. لا يمكن أياً من أحزاب تلك الفترة أو رجالاتها ادعاء كل ذلك لنفسه، ولكنه جاء نتاج تلك الحقبة بكل تناقضاتها واضطرابها. ومن المؤسف أن يختزل تاريخها من منظور عصبيات ضيقة عفا عنها الزمن، لأن تعاملنا الموضوعي معها يعبر عن استفادتنا من تراكم تجاربها وهو الرثاء الحقيقي لأي من رجالاتها. وفي النهاية، أود أن أقول إنني لا أدافع عن أكرم الحوراني لأنه كان والدي فقط، بل ان الدفاع عنه يعني لي أيضاً الدفاع عن تجربة ربما كانت فريدة على صعيد الدول العربية تمثلت في المشاركة السياسية الديموقراطية لفئات مهمشة من المجتمع السوري. لقد منح صندوق الاقتراع هذه الفئات فرصة للتأثير وبرز الحزب العربي الاشتراكي حركة سياسية تؤمن بتحسين وضعها الاجتماعي كجزء لا يتجزأ من أهداف وطنية عامة، سامياً فوق الولاءات التقليدية والفئوية، فالتفت بعض هذه الفئات حول الحزب وتنحّت بذلك ولاءاتها الفئوية. ومثل نواب العربي الاشتراكي في مجلس النواب مناطق وقرى عكست كل الفسيفساء الطائفي للمجتمع السوري. وعلى رغم كل ما قيل في المقال عن علاقته بالانقلابات، فالحقيقة أكرم الحوراني لم يأتِ الى مجلس النواب خمس مرات متتالية بين عامي 1943 - 1963 على ظهر دبابة ولم تكن غالبية الأصوات التي فاز بها في مجلس 1954 وهي الغالبية العظمى، بسبب ضغوط العسكر ولا انتخب رئيساً لمجلس النواب عام 1957 بسبب ذلك أيضاً، بل جاء الى مجلس النواب بسبب المشاركة السياسية لتلك الفئات، وان من يعرف الظروف الاجتماعية والاقتصادية لمدينة حماه في تلك الفترة ويؤمن بالديموقراطية، فإنه سيقدر أهمية وصوله الى المجلس وايصاله صوت تلك الفئات. * ابنة السياسي السوري أكرم الحوراني.