توفي في 15 كانون الثاني يناير الجاري الدكتور محمد معروف الدواليبي أحد رؤساء الوزارات في سورية، والمستشار في الديوان الملكي السعودي عن عمر ناهز ال97 عاماً قضاها في خدمة الوطن والعقيدة والجهاد من أجل الحرية والسيادة والسعي الدائم لنصرة الشعوب العربية والإسلامية وتحرير أراضيها من الاحتلال الأجنبي. وولد معروف الدواليبي عام 1907 في حلب التي كانت موطن سيف الدولة، ثم أصبحت في تاريخ سورية الوطني في القرن العشرين الماضي معقل الزعيم الوطني المجاهد الكبير ابراهيم هنانو زعيم الثورات الوطنية في سورية ضد الجيش الفرنسي. عرفت معروف الدواليبي عام 1947 وكان ممثلاً لحلب في البرلمان السوري، وحافظ على مقعده النيابي حتى عام 1963 عندما تسلم حزب البعث مقاليد السلطة في سورية. وهو رجل علم وعالم ومتفقه في العقيدة الإسلامية، ورجل ادب وقانون، بارعاً في الحوار مع السياسيين، ساعياً خلف السيادة والحرية مطالباً بالديموقراطية والالتزام بالدستور من دون كلل. وكان في كل مواقفه وبصلابته الحازمة مدافعاً عن العقيدة الإسلامية، وعن الوطن وعن الأخلاق مطالباً بالإصلاح السياسي والانفتاح المتزن ضمن العقيدة وما تسمح به الشريعة. جاء من موطنه حلب وأقام في دمشق مع زميله ورفيق دربه العالم الإسلامي الشيخ مصطفى الزرقا لحضور جلسات المجلس النيابي، وكانا يعتمران العمامة "الحلبية" التي اختص بها مشايخ حلب ويلقبان بالشيخ الدواليبي والشيخ الزرقا، وإن كانا تخليا بعد فترة عن العمامة، ونزعا لباس المشيخة واختارا الهندام المعروف لدى عامة الشعب. أكمل الدواليبي دراسته العليا في جامعة السوربون في باريس وحصل على اجازة في الشريعة والعلوم الإسلامية - ليسانس في الحقوق، ودبلوم في الدراسات العليا في الحقوق من جامعة السوربون، كما حصل على ليسانس من كلية الآداب من جامعة دمشق. وخلال اقامته الدراسية في أوروبا استطاع أن يتعمق بمبادئ الشريعة الإسلامية وبأصول الدين والعقيدة لذلك أصبح بمثابة موسوعة علمية في فقه الدين الإسلامي، ثم أخذ يدرس العديد من الكتب الدينية المسيحية واليهودية، ما أتاح له أن يكون محاوراً صلباً في أمور الأديان السماوية. وأجمع الطلاب العرب الذين يتابعون دراساتهم العليا في فرنسا على انتخابه رئيساً للجنة الطلاب العرب ليتولى بصلابته الدفاع عن حقوقهم على الأرض الأوروبية، في وقت كانت الظروف الدولية تمر في مراحل صعبة وهي تقع بين حربين عالميتين. مغامرة تهريب أمين الحسيني بعد عودة الدواليبي الى وطنه الأم سمعت منه عن مغامرة قام بها في العاصمة الفرنسية أشبه بقصص ألف ليلة وليلة عندما أنقذ المجاهد الفلسطيني الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الذي كان معتقلاً في احد السجون الفرنسية عقب هربه من فرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الحسيني يقيم في المانيا بحماية الزعيم هتلر، ولكن عندما دخلت قوات التحالف من الولاياتالمتحدةوبريطانياوفرنسا الأراضي الألمانية استطاع الحسيني التسلل الى الحدود الفرنسية لأن الولاياتالمتحدةوبريطانيا طالبتا الجنرال ديغول بتسليمه اليهما لتنفيذ حكم الاعدام في حقه بسبب عدائه للعنصر اليهودي في فلسطين. ويقول الدواليبي ان الولاياتالمتحدة قدمت لفرنسا قرضاً مالياً كبيراً في عهد رئيس وزراء فرنسا عام 1936 ليون بلوم - اليهودي - الذي استعان على الولاياتالمتحدة بالجالية اليهودية في أميركا بهدف الضغط على ديغول زعيم الثورة الفرنسية ومحررها من الاحتلال الألماني وتسليمها أمين الحسيني. فوضع قيد الاقامة الاجبارية في فيلا خاصة تبعد 30 كيلومتراً عن العاصمة باريس. ومن خلال علاقة الدواليبي مع المنظمات الوطنية في شمال أفريقيا العربية من تونس والجزائر ومراكش، وكان لأحد المراكشيين دور في هذه العملية هو عبدالهادي ديوري من كبار التجار المراكشيين في باريس، حيث رجاه أن تطلب الجالية المراكشية من السلطان محمد الخامس ملك المغرب الذي سيزور باريس ليهنئ ديغول بتحرير فرنسا، أن يطلق الحسيني وأن لا يسلمه للسلطات البريطانية. وبالفعل خلال طلب السلطان محمد الخامس ذلك وقال لديغول الذي استفسر منه عن الحسيني: "انني لا أعرفه شخصياً ولكنه من العائلة المنتسبة الى آل الحسيني أمثال عائلة السلطان، فهو ابن عمنا فالرجاء العفو عنه، فقال ديغول: لكم ما طلبتم يا جلالة الملك. لذلك كان لحكمة السلطان محمد الخامس مساهمة فعالة في اطلاق الحسيني من سجنه السري عام 1945 من طريق المفوض السامي السابق في سورية ولبنان مسيو بونسو الذي كان يشرف على الحسيني في معتقله وتلقى أوامر الجنرال ديغول بإطلاقه، حيث وجه الدعوة لسفراء الدول العربية في باريس لتناول الشاي في داره وهم سفير لبنان أحمد الداعوق، وسفير مصر فخري باشا، وسفير سورية الدكتور عدنان الأتاسي. وخلال وجود السفراء في منزل بونسو فتح باب القاعة الخلفي ودخل منه الحاج أمين الحسيني على السفراء العرب، فكانت مفاجأة سارة لهم استقبل خلالها الحسيني بالفرحة والسرور وأعلمهم المسيو بونسو ان مفتي فلسطين أصبح الآن حراً طليقاً وبحماية الدول العربية تنفيذاً لتعليمات الجنرال ديغول وسيسلم الى السيد الدواليبي ليكون تحت مسؤوليته. ومنح الحسيني وثيقة فرنسية رسمية باسم مستعار هو الدكتور منصور ليتاح له التجول، كما تم استئجار فيلا في باريس لاقامته طيلة وجوده في فرنسا. وأوفدت الجامعة العربية رئيس وزراء لبنان رياض الصلح ووزير خارجيته حميد فرنجية الى باريس لتهنئة الحسيني بالافراج عنه، وسلمه الصلح رسالة من عبدالرحمن عزام الأمين العام لجامعة الدول العربية يطلب منه باسم الدول العربية عدم مغادرة فرنسا الآن لأن الدول العربية الثلاث وهي مصر وسورية ولبنان ما تزال تخضع للنفوذ البريطاني ولأنه عرضة للاعتقال، ولذا يجب أن يبقى في فرنسا حتى يتم جلاء القوات البريطانية عن هذه الدول. وتمكن الدواليبي عام 1946 من تهريب الحسيني على طائرة أميركية عسكرية "تي دبليو" من دون علم السفارة الأميركية وبجواز سفر مزور الى القاهرة، ورافقت ذلك بلبلة بين الدول الثلاث بعدما اتهمت الولاياتالمتحدةوبريطانيا ديغول بتهريبه على طائرة فرنسية. لكن ديغول كان يقسم لهم بعدم علمه بطريقة هروبه. الا انه تمكن بعد شهر من اكتشاف أن سفر الحسيني كان على طائرة أميركية. ويقول الدواليبي انه بعد الموقف الشجاع الذي اتخذه ديغول من قضية الحاج أمين، انهالت على الجنرال برقيات الشكر والتقدير من العالم العربي، وانتقلت موجة الاستياء العربي في فرنسا الى انكلترا وبلغت ذروتها بسبب موقف بريطانيا المعادي للعرب ومطالبتها بتسليم الحاج أمين لمحاكمته، وهكذا زال هم كبير كان على كتفي ديغول واستطاع أن يمحو موجة استياء العالم العربي علىه بعدما قصف دمشق والبرلمان السوري بالمدافع في 29 أيار مايو 1945. ولم يشأ الدواليبي كشف بقية الأسماء التي تعاونت في تهريب الحسيني، وبقيت هذه الأسماء سرية، لكنه قال ان ديغول كان محاطاً بقادة الوكالة اليهودية العالمية التي دفعته الى عرقلة استقلال سورية الذي أعلنته أميركا وبريطانيا عقب ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق أثناء الحرب العالمية الثانية ضد بريطانيا عام 1941، كما سبق لوايزمان رئيس الوكالة اليهودية أن أقنع ليون بلوم رئيس وزراء فرنسا عام 1936 بالغاء معاهدة استقلال سورية، مؤكداً له بأن ذلك سيكون عقبة أمام اقامة دولة اسرائيل. وأكد الدواليبي ان هذه المعلومات السرية المحفوظة لدى الخارجية الفرنسية سقطت في يد هتلر بعد احتلاله لباريس، وأَطلع الحاج أمين عليها. مناصب الدواليبي أسندت للدواليبي بعض المناصب العلمية فعين أستاذاً في كلية الحقوق، ثم رئيساً لقسم تاريخ القانون والحقوق الرومانية في جامعة دمشق، وأستاذاً في كلية الشريعة. ثم دخل العمل في الحياة السياسية السورية فانضم الى حزب الشعب الذي يتزعمه الرئيس هاشم الأتاسي من حمص والذي تخلى بعد انتخابه عن رئاسة الحزب للسياسي المخضرم رشدي الكيخيا الذي أطلق عليه لقب زعيم الشمال "حلب" وهو خلف في تلك الزعامة الرئيس سعدالله الجابري الذي خلف أيضاً ابراهيم هنانو. والكيخيا سبق أن رفض منصب رئاسة الجمهورية السورية أكثر من مرة باعتبار انه كان يعارض كل المداخلات العسكرية في الشأن السوري. وكان الشخص الثالث من أقطاب حزب الشعب الدكتور ناظم القدسي الذي سبق أن تقلد مناصب وزارية متعددة ومنها رئاسة الحكومة كما اختير لتقلد منصب رئاسة الجمهورية في عهد انفصال الوحدة عن مصر. حزب الشعب والانقلابات العسكرية كان عام 1949 الذي جاء بعد حرب فلسطين عام النكبات السياسية في سورية، اذ ألغيت فيه الديموقراطية الدستورية البرلمانية وحلت مكانها أنظمة عسكرية، فبدأت الانقلابات في 30 آذار مارس عندما قام حسني الزعيم رئيس الأركان العامة بأول انقلاب على الحكم الوطني واعتقل رئيس الجمهورية شكري القوتلي ورئيس الوزراء خالد العظم ووضعهما في سجن المزة العسكري. وأوفد زعيم الانقلاب النائب الاشتراكي خليل كلاس وهو من جماعة أكرم الحوراني زعيم الحزب العربي الاشتراكي لمفاوضة حزب الشعب للتعاون في ادارة الشأن السوري، وكان الحوراني أول المتعاونين مع الزعيم اذ وضع البلاغات العسكرية التي أذيعت يوم الانقلاب من الاذاعة الرسمية وكانت بصوته. لكن حزب الشعب رفض التعاون لأن سياسته تقوم على عدم تدخل الجيش في الحكم، وعقد مؤتمراً في بعلبك للتشاور، وصدر بيان أكد التمسك بالمبادئ التي رسخها الحزب في نظامه الداخلي منذ تأسيسه خلال العامين الماضيين ومنها رفض العنف ومقاومة محاولات الاعتداء على الدستور واغتصاب السلطة بالقوة لا سيما من قبل القوات المسلحة التي مهمتها حماية الحدود من كل اعتداء خارجي. لم يتوقع قائد الانقلاب هذا الموقف الصريح لذلك أصدر أوامره بحل الأحزاب السياسية واعتقال أقطاب حزب الشعب والكثير من أعضائه. وعرف عن حزب الشعب بأنه في طليعة الأحزاب السورية الداعية الى إقامة اتحادات عربية لخدمة المصالح العربية المشتركة، ولذلك جرت نقاشات بين بغدادودمشق من أجل قيام اتحاد بين البلدين، وكان أقطاب حزب الشعب وبخاصة الدواليبي من دعاة هذا الاتحاد الى جانب الحزب الوطني الذي يتزعمه نبيه العظمة والاتحاد مع العراق من وجهة نظر الحزبين انما يهدف الى رفع المستوى الاقتصادي في سورية وان العراق يعتبر في طليعة الدول التي تستورد من سورية خصوصاً ما ينتج في حلب من صناعات القطن والنسيج والحرير الطبيعي، لذلك كان أقطاب الحزب يسعون لفتح الأسواق أمام الصناعات السورية ومنها ما ينتج في مدينة حلب القريبة من الحدود العراقية، لذلك شكل الموضوع ترابطاً مشتركاً بين البلدين ويضاف اليه الارتباط القائم بين العشائر القبلية على حدود البلدين حيث تم احداث خط حديدي في الشمال السوري في عهد الامبراطورية العثمانية لنقل الركاب والجيوش التركية ونقل المنتوجات السورية الى العراق. لذلك وقع الانقلاب العسكري الثاني في سورية في 14 آب أغسطس 1949 بزعامة اللواء سامي الحناوي بهدف تسليم أمور سورية الى رجال السياسة ولتحقيق الاتحاد مع العراق، وفي ذلك العهد جرت انتخابات تشريعية لايجاد جمعية تأسيسية تتولى شؤون البلاد وانتخب هاشم الأتاسي لرئاسة الدولة ووضع دستور للبلاد ونص على القسم للأعضاء الالتزام بتحقيق وحدة الأقطار العربية. لكن الحوراني لم يعجبه تحقيق أي اتحاد مع العراق لأن ذلك سيذيب شخصيته إذ كان يسعى لبلوغ الرئاسة السورية ليحكم البلاد على طريقته الثورية، لذلك حرض العقيد أديب الشيشكلي وهو من مدينة حماه على القضاء على حكم الحناوي وابعاد فكرة أي اتحاد مع العراق. وبعد أقل من 24 ساعة على موافقة أعضاء الجمعية التأسيسية على نص القسم حتى ظهر الشيشكلي على المسرح السياسي وأقصى الحناوي بموجب بلاغ عسكري جديد. ووقع الانقلاب الثالث في 19 كانون الأول ديسمبر 1949م. الا ان الشيشكلي وحتى لا يفلت منه زمام الحكم حافظ على وجود الأتاسي في منصب رئاسة الدولة وعلى الجمعية التأسيسية البرلمان وعدم المساس بالشخصيات الحزبية ومنها حزب الشعب الذي ينتمي اليه الأتاسي والكيخيا. فمارس الأتاسي مهامه وسلطاته الدستورية وكلف خالد العظم وهو السياسي الاقتصادي الملقب بالمليونير الأحمر لتشكيل وزارة برلمانية وبمشاركة حزب الشعب واختير الدواليبي لمنصب وزارة الاقتصاد الوطني، وأكرم الحوراني لمنصب وزارة الدفاع بهدف ايجاد توازن سياسي. قنبلة سياسية تزعج الغرب ترأس العظم الوفد السوري الذي شارك في اجتماعات الدورة الثانية عشرة للجامعة العربية بهدف اقرار مشروع الضمان الجماعي العربي في القاهرة واختار الدواليبي وزير الاقتصاد لعضوية الوفد فاجتمع رؤساء الوفود العربية في 13 نيسان ابريل 1950 وكانت القضية الفلسطينية من القضايا الرئيسية المطروحة على بساط البحث. وأراد الدواليبي استغلال اجتماعات مجلس الجامعة لتوجيه رسالة الى الدول الغربية المؤيدة لقيام اسرائيل في قلب العالم العربي. فاستدعى الصحافي السوري زهير الكزبري مراسل جريدة المصري في دمشق الى مقر اقامته في فندق شيبرد، وكنت في ذلك اللقاء المثير، وأدلى الدواليبي بتصريح هز الدول الغربية الكبرى أكد فيه انه يتحدث بصفته الخاصة لا بصفته مسؤولاً في الدولة السورية. وقال: "إذا استمر ضغط الحكومة الأميركية على البلاد العربية لجعلها تسير في سياسة لن تنتهي إلا بتهديد بقية أبناء الشعوب العربية، فإنه يرجو اجراء استفتاء في العالم العربي ليعرف الملأ إذا كان العرب يفضلون ألف مرة أن يصبحوا جمهورية سوفياتية على أن يكونوا طعمة لليهود". ونشرت "المصري" الحديث في صدر الصفحة الأولى وبعناوين بارزة، ونفدت الطبعة الأولى بسرعة فاضطرت الجريدة لإعادة طباعة العدد أكثر من مرة. وشجب رئيس الوزارة المصرية اسماعيل صدقي باشا تصريح الدواليبي. لكن المصادر السياسية الحزبية ومنها حزب الوفد المصري رحبت بالتصريح الذي كشف الحقيقة المخزونة في صدور العرب. كما اغتاظ رئيس الوزارة السورية للوهلة الأولى من تصريح الدواليبي لأنه لم يستشره بصفته رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية، ولم يراع قواعد الزمالة واللياقة، وبخاصة ان التصريح أثار ضجة قل ان يحصل مثلها في العالم العربي ونقلته أسلاك البرق وأمواج الأثير الى العالم. استدعى العظم الدواليبي الى غرفته في فندق شيبرد وعاتبه على عدم اطلاعه على التصريح قبل الادلاء به وقال له: "من الوهلة الأولى اغتظت لهذا التصريح وفكرت أن أطلب منك تكذيبه أو تصحيحه، ولكن قد يكون التصريح جاء في وقته لأن معشر الأميركيين يتبعون سياسة مساندة اليهود، ويقفون في وجه العرب ويعاكسون مساعيهم". وكادت تقع أزمة سياسية كبيرة بين مصر وسورية، لكن تأييد الأحزاب الأخرى حال دون وقوعها. "الشيخ الأحمر" وبعد هذا التصريح، أطلق على الدواليبي لقب "الشيخ الأحمر" من بعض الأحزاب السياسية الاشتراكية المعادية لسياسة حزب الشعب فاستقبل الدواليبي ذلك ببرود ولم يتأثر وضعه السياسي في البلاد. واثر هذه "القنبلة السياسية" التي أزعجت الدول الغربية دعي وزراء خارجية الدول الغربية الداعمة للكيان الاسرائيلي وهي الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدةوفرنسا لاستعراض المسائل التي تمس الاستقرار والسلام بين الدول العربية واسرائيل، وما يتصل بتزويدها السلاح والمعدات الحربية. كما ناقش الوزراء شؤون الشرق الأوسط في ضوء تصريح الدواليبي. وصدر عن اللقاء في 26 أيار مايو 1950 "التصريح الثلاثي" وهو المعروف عن أزمة السلاح في المنطقة العربية ومعارضتها قيام سباق تسلح بين الدول العربية واسرائيل. وأكدت ضرورة الحيلولة دون انزلاق الحكومات العربية نحو التفاهم مع الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، وانها تطمئن الرأي العام العربي من جهة الخطر الصهيوني، سواء بضمان الحدود وخطوط الهدنة، والاستمرار في بيع الأسلحة للدول العربية شرط التعهد بعدم استعمالها ضد الكيان اليهودي. الأزمة مع الشيشكلي بعد ظهور الشيشكلي على المسرح السياسي أخذت الأزمة السياسية تتفاعل بينه وبين حزب الشعب وفي أمور مجلس النواب الذي يرأسه رئيس الحزب رشدي الكيخيا الذي عرف بصلابة مواقفه السياسية مع صموده في وجه العسكريين الذين يتداخلون في أمور الحكم، فقدم استقالته من رئاسة المجلس النيابي وأصر عليها على رغم محاولات خالد العظم ونواب المجلس ثنيه عن ذلك، وهو رد على ذلك بالقول "ان الموضوع يتعلق بصميم الحياة النيابية في هذه البلاد، لذلك أرجو من اخواني ومن مقام الرئاسة أن يعطوني فترة قصيرة من الوقت حتى إذا تمكنت من الوصول الى نتيجة مرضية تضمن المصلحة العامة وتحقيق أحكام الدستور يسعدني آنئذ أن أكون رئيساً أو عضواً في هذا المجلس بل موظفاً من أصغر موظفيه، أما إذا لم أتمكن من الوصول الى نتيجة مرضية فسلام على الرئاسة والنيابة والحياة النيابية في هذه البلاد". وتكشف هذه الكلمات القليلة واقع الحياة السياسية في سورية ومدى تدخل القيادات العسكرية وعلى رأسها الشيشكلي الذي يحاول أن يحكم سورية بدعم كبير من الإدارة الأميركية. وثبت للكيخيا هذا التصور الواضح أمامه، ولم يشأ ان يكشفه صراحة أمام نواب الأمة من حرصه على أن يبعد أي صدام بين الشعب والجيش. وبقي مصراً على استقالته من رئاسة المجلس النيابي وفشلت كل الجهود في سبيل اقناعه بالعودة عنها. . وفي 23 حزيران يونيو 1951 انتخب الدواليبي رئيساً لمجلس النواب خلفاً للكيخيا وفاز ب57 صوتاً، كما نال النائب عبدالباقي نظام الدين وهو نائب الجزيرة وكان من المقربين للشيشكلي 38 صوتاً، وشكر الدواليبي النواب على الثقة التي أولوه اياها ووعد بأن يقوم بأعباء الرئاسة التشريعية بإخلاص. وقبل نهاية عام 1951 شهدت الساحة العربية ومنها مصر والدول في المغرب العربي توتراً وتأزماً مع الدول المستعمرة وهي فرنساوبريطانيا وشهدت العواصم العربية تظاهرات عنيفة وصدامات دامية مؤيدة للدول العربية والمغربية في سبيل حقها وسيادتها وكانت سورية في مقدم الجميع حماسة واندفاعاً. لذلك وقف الدواليبي بصفته رئيس وفد الشعوب العربية موقف المدافع عن تلك الشعوب بشدة تجاه الدول الاستعمارية ومنها فرنسا مستغرباً تناسيها الموقف البطولي للحركة الوطنية في المغرب العربي والتي كان يتزعمها السلطان محمد الخامس علانية للمطالبة بالحرية والاستقلال واستنكر الانذار الذي وجهه المقيم الفرنسي العام للسلطان محمد الخامس. وعندما بلغت التظاهرات الوطنية في دمشق مبنى البرلمان وكانت تهتف بحياة العالم العربي، خرج الدواليبي الى المتظاهرين وبجانبه بعض نواب المجلس، وألقى كلمة حمل فيها بشدة على الحكومة الفرنسية. وأزعج خطابه الشيشكلي وتأزم الوضع بينهما، وانصب عداء ضباط الجيش على الدواليبي مما كان سبباً في فقدان الانسجام الحكومي وقدمت الوزارة استقالتها وعاد الصراع مجدداً بين المدنيين والعسكريين. وزاد الموقف تعقيداً عندما تحدى الأتاسي الشيشكلي عندما كلف الدواليبي تشكيل الوزارة فاعتبر الشيشكلي ذلك تحدياً مكشوفاً لحاكم سورية القوي لأن حملة الدواليبي على فرنسا أضرت بالعلاقات معها، لا سيما ان فرنسا هي مصدر تزويد سورية بالسلاح. لكن الدواليبي كان يهدف من حملته الدفاع عن محمد الخامس احتجاجاً على الانذار الذي وجهه المقيم الفرنسي العام، لأنه كان يذكر دائماً حكمة السلطان التي أفرجت عن الحاج أمين، ويرى ان من واجبه الدفاع عنه باعتباره الملك الشرعي للمغرب. وامام مداخلات العسكريين في شؤون الحكم واستمرار ازدواجية السلطة وتوجيهات الجيش لبعض السياسيين، اخذت الأزمة السياسية بالتأزم وأدى الأمر الى انقطاع الأتاسي عن عمله الرسمي وأخذ النواب يغمزون من قناة الوزارات السابقة خصوصاً وزارة العظم التي كانت تتأثر بتوجيهات الجيش، ما ادى الى وضع العصي بين عجلات المجلس والحكومة. وعلى رغم اعتراض الشيشكلي على تكليف الدواليبي تشكيل الوزارة، كان الرئيس المكلف اشد حرصاً على ان يبسط قوته على بكل قواه السياسية وبقوة الدستور، فشكل الوزارة وتولى منصب وزارة الدفاع، ما زاد التحدي للشيشكلي والقيادات العسكرية، واختار الدكتور منير العجلاني القانوني الفذ المستقل لوزارة العدل، واحمد قنبر من حزب الشعب لوزارة الداخلية. وأصدر الأتاسي المراسيم الخاصة بتشكيل الوزارة فوراً، مساء الأربعاء 28 تشرين الثاني نوفمبر 1984. عندها فقد الشيشكلي صوابه واختار اولاً ان تحل الأمور بالحكمة والتروي مع رئيس الجمهورية وبحضور الدواليبي، فعرض في هذا اللقاء ملاحظاته على التشكيل الوزاري وعلاقاته بالأوضاع العامة في البلاد، واعتبر التصرف في تأليف الوزارة وبخاصة اسناد وزارة الدفاع الى الدواليبي بمثابة تحد للجيش، وطالب بإلغاء التشكيل الوزاري وتأليف وزارة اخرى تنسجم مع تطلعات القوات المسلحة. فرفض الدواليبي وأصر على ممارسة الوزارة صلاحياتها وتطبيق الدستور وأن تحافظ على الديموقراطية البرلمانية وعدم تدخل الجيش في امور الدولة. وفي الساعات الأولى من صباح 29 تشرين الثاني اعتقل الدواليبي مع اعضاء الحكومة كما اعتقل الكيخيا وبعض اقطاب حزب الشعب ووضع الجميع في سجن المزة وأفاقت دمشق على البلاغ العسكري الأول الذي يشير الى ان الجيش تسلم زمام الأمن بقيادة الشيشكلي، الذي حمل في بلاغ آخر على حزب الشعب واتهمه بالعمل على الإطاحة باستقلال سورية. وحاول الشيشكلي ان يحصل على استقالة الدواليبي ووزارته، ولكن رفض الطلب وقدم استقالة الوزارة الى الرئيس الأتاسي مباشرة. كما قدم الأتاسي استقالته من منصبه وشكل الشيشكلي مجلساً عسكرياً لتولي امور الدولة. وبذلك ظهر الشيشكلي على حقيقته، ورشح لمنصب رئاسة الجمهورية واستمر في منصبه حتى 25 شباط فبراير 1954 عندما وقع انقلاب عسكري وغادر دمشق الى لبنان. ثم اقام في الأرجنتين حيث لقي مصرعه ثأراً لدماء الذين حصدتهم مدافع الجيش السوري في جبل الدروز في عهده. وفي مؤتمر سياسي وطني في حمص تمت عاد الأتاسي الى رئاسة الجمهورية ليكمل مدة رئاسته وشكلت وزارة برئاسة صبري العسلي الأمين العام للحزب الوطني وأسندت وزارة الدفاع الى الدواليبي. الدواليبي يستنجد بالسوفيات وكان تقرر في مؤتمر حمص السياسي عودة شكري القوتلي الى منصبه في رئاسة الجمهورية نظراً الى الجهود التي بذلها خلال معركة سورية مع فرنسا وللحصول على الاستقلال والسيادة عام 1946. وفعلاً عاد القوتلي الى هذا المنصب الرئاسي بعد انتخابات برلمانية دستورية. ثم قامت الوحدة مع مصر في شباط 1958 بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر واستمرت حتى 28 ايلول سبتمبر 1961، حيث انتخب الدكتور ناظم القدسي القطب الثاني في حزب الشعب لمنصب رئاسة الجمهورية في كانون الأول 1961 وشكلت الوزارة الجديدة برئاسة الدواليبي. لكن فترة الانفصال لم تدم طويلاً لأسباب عدة منها كثرة تدخلات القاهرة في الأوضاع السورية الى جانب الاتصالات السورية بين القاهرة وبعض العسكريين السوريين. وبذل الدواليبي جهوداً مضنية ليقف الحكم السوري على قدميه في مواجهة المؤامرات الداخلية والخارجية، الى جانب تدخل القاهرة وحملتها على النظام السوري الجديد. وبذل الدواليبي اهتمامه الأول من اجل اعادة تسليح الجيش السوري بالمعدّات والآليات العسكرية التي فقدها خلال عهد الوحدة حيث نقلت الأسلحة السورية الى القاهرة مع الطائرات التي سبق ان اشترتها سورية قبل الوحدة، وكان الرئيس عبدالناصر يخطط لئلا يكون لدى الجيش السوري الأسلحة التي قد تساعده على القيام بأي حركة انقلابية، وترك الأسلحة لدى قوات البادية وهي عبارة عن سيارات مصفحة قديمة العهد. لكن استطاعت تلك الآليات فصل الوحدة عن مصر، وكان الجنود يدفعون بتلك السيارات للسير في شوارع دمشق لتفكيك الوحدة. كما نقل عبدالناصر كل موجودات النقد السوري والأجنبي في مؤسسة النقد السوري وأصبحت الخزينة السورية خالية. وكانت الدول الكبرى في عهد الانفصال باستثناء دولة الاتحاد السوفياتي لم تعترف بعد بالحكم السوري الذي انفصل عن القاهرة، لأن الولاياتالمتحدة كانت ترغب في استمرار الوحدة بزعامة جمال عبدالناصر والقبض على سورية بيد من حديد لئلا تمارس دورها في إشعال الحدود مع اسرائيل. فالجيش السوري كان في المرصاد لكل تحركات اسرائيل، وكان يلقنها دروساً. وكانت رغبة اميركا في استمرار الوحدة ناجمة عن اعتبار ان عبدالناصر يلتزم امام الإدارة الأميركية حل القضية الفلسطينية. لذلك استدعى الدواليبي فور تسلمه رئاسة الوزارة السفير السوفياتي في دمشق وأطلعه على حقيقه الوضع في البلاد وما تعانيه سورية من ازمة في السلاح والما، وما كان من تسلط نظام الرئيس عبدالناصر على مقاليد السلطة في سورية ومقدراتها الاقتصادية والعسكرية. وطلب إليه الاتصال بالقيادة السوفياتية بهدف مساعدة الحكم السوري في شراء السلاح بالدين المؤجل وبهدف بناء الدولة السورية من جديد. وأعلم الدواليبي السفير السوفياتي ان النظام السوري الذي يتمسك بالنظام الحر ويعارض النظام الشيوعي الاشتراكي، بحاجة ماسة الى دعم الاتحاد السوفياتي الذي اعترف بالحكم الجديد. كما اكد له ان سياسة الحكم الجديد ستكون واضحة وصريحة، وأننا سنطلع سفراء الدول الكبرى وبخاصة الولاياتالمتحدة على ما سيقدمه الاتحاد السوفياتي لنا. كما استدعى سفير الولاياتالمتحدة في لبنان وأبلغه بما جرى بينه وبين سفير الاتحاد السوفياتي، وطلب إليه ايضاً ابلاغ حكومته بضرورة الاعتراف بالنظام السوري الجديد خلال اسبوع واحد، وأن تأخذ الإدارة الأميركية علماً بأن الحكم السوري متمسك بالنظام الاقتصادي الحر ولا يقبل لنفسه النظام الشيوعي. وبعد 48 ساعة على اللقاء عاد السفير السوفياتي بجواب الكرملين المتضمن موافقة موسكو على تقديم ما تحتاج إليه القوات السورية من عتاد، وأصدرت موسكو تعليماتها الى السفير الروسي في بغداد وكلفته ابلاغ طلب القيادة الروسية الى الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم ليسلم الحكومة السورية 400 دبابة من اصل الكمية التي ارسلتها موسكو الى الحكم العراقي. وعلمت من الدواليبي في حينه ان جواب القيادة السوفياتية على رسالته وضع في 48 ورقة من الحجم المتوسط شرحت فيها موسكو ما يكتنف مبادئ السياسة الناصرية في المنطقة من غموض. وكان الجواب شفهياً قدمه السفير في ضوء المعلومات المشفرة بين وزارة الخارجية وسفارتها. وأحتفظ لنفسي بتلك المعلومات الخطرة التي قدمها الكرملين للدواليبي وهي على جانب من الأهمية وتتعلق بما يخططه جمال عبدالناصر في المنطقة العربية في محاولة منه لتوسيع مناطق نفوذه، كما ابلغني الدواليبي في حينه بأن تلك المعلومات المثيرة قدمت الى زعماء الدول العربية المعنية بالأمر للوقوف على مخططات عبدالناصر. ومنذ عام 1965 اقام الدواليبي في المملكة العربية السعودية كمستشار اسلامي في الديوان الملكي ومثل المملكة في كثير من المؤتمرات الإسلامية العالمية.