قبل رفع الستار عن مسرحية "اللعب في الدماغ" المقدمة حالياً على مسرح الهناجر كان من النادر أن تجد لافتة "كامل العدد" تتصدر واجهة هذا المسرح الزجاجية. وهذا المسرح تبنى لأكثر من عقد نوعية معينة من العروض التجريبية التي يغيب عن معظمها الخطاب السياسي بنزعته النقدية اللاذعة... ويرفع في المقابل من القيم الجمالية الخالصة التي جعلته في أحيان كثيرة يبدو مسرحاً للنخبة التي يتّمها غياب المسرح الطليعي بعد توجه مسرح الدولة الرسمي إلى منافسة القطاع الخاص بعروض لا تخلو من صور الابتذال. هات من الآخر ويمكن القول أن عرض "اللعب في الدماغ" من تأليف الممثل خالد الصاوي واخراجه هو محاولة واعية في هذا الاتجاه تسعى إلى استثمار غضب الشارع العربي من الأنظمة التسلطية القائمة وتفضح تواطؤها وتعاونها أو استسلامها لقوى الهيمنة والاحتلال، ولكن عبر صيغ جمالية واضحة على رغم حدة النبرة ووضوح الرسالة السياسية التي تبناها العرض وهو يرفع مقولة روزا لوكسمبورغ: "حينما يصبح الظلم قانوناً تصبح المقاومة واجباً". يبدأ "اللعب في الدماغ" من الكافيتريا الملحقة بالمسرح حيث يجد الجمهور نفسه محاطاً بجنود يرتدون زي قوات "المارينز الأميركية"، يطلقون الرصاص لإجباره على الدخول إلى المسرح الذي يصرخ فيه مدير إنتاج لأحد البرامج التلفزيونية، مشدداً على إتباع التعليمات. وهنا يجد الجمهور نفسه جزءاً من مشهد في برامج "التوك شو" التي تبثها الفضائيات العربية، وعندما يبدأ البرنامج، نجد في عمق المسرح شاشة تلفزيونية تقدم مادة مصورة، إضافة الى وجود كاميرا محمولة تعرض على الشاشة تفاصيل ما يجري داخل قاعة العرض ليتم تدريجاً تمييز الحقيقة الواقعية عن الصورة التلفزيونية التي تابع الجمهور عبر مشاهد العرض كيفية تزييفها في اللقاءات التلفزيونية. وتجري اللقاءات مذيعة متصابية، تستضيف في فقرتها الأولى الجنرال الأميركي توم فراكس الذي يتحول معها من محتل الى مجرد ضيف يتولى بغطرسة مهمة اختيار بقية الفقرات داخل البرنامج: فقرات اقرب ما تكون الى "اسكتشات" تدور حول قصة اجتماعية عنوانها: "هات من الآخر" تحفل بصور المحاكاة الساخرة لأنماط ميلودرامية رسخت لها السينما الأخلاقية ويرويها على المسرح شاب أدمن خيانة أصدقائه تحت دافع البطالة والحاجة الى المال. وتربط بين محاور هذه القصص وشخوصها الرغبة في التأكيد أن الاحتلال الأميركي ما هو إلا نتيجة لفساد داخلي تعيشه مجتمعاتنا العربية. بتحب تشوف عنف؟ ومع هذا التتابع لصور الفساد التي تقترب من "الكوميديا السوداء" نستمع الى مداخلات واتصالات تلفزيونية تجرى مع ضيوف البرنامج تقطعها أغنية "بتحب تشوف عنف" لفرقة "عكس السير" اللبنانية تشير الى أن العنف والظلم الأميركيين هما أساس للعنف العالمي. ثم تعرض الشاشة في عمق المسرح تقارير إخبارية تسجيلية بثتها المحطات الفضائية لسقوط بغداد ثم بقية العواصم العربية فيما نتابع على المسرح لقاء حياً بين المذيعة والشاب الفاسد أخلاقياً وفي خلفيته "كليب لنانسي عجرم يختار بعده مع مضيفه الجنرال توم فرانكس مشهداً من مسلسل تاريخي عن الثورة العرابية يشير بوضوح الى محاولات أميركية للتدخل في مناهج التعليم بغرض تزييفها وتخليصها من صور المقاومة. ثم نتابع مؤتمراً صحافياً من مؤتمرات قوات التحالف يدمره شاب في عملية استشهادية: وعند العودة الى المسرح من جديد نتابع رحلة صعود الزوجة الخائنة وتحولها الى نجمة تلفزيونية تلقى كامل الدعم من الجنرال الأميركي والمتواطئين معه وهو يحاول التملص على الهواء مباشرة من الأسئلة التي تحاصره عن مبررات وجوده في المنطقة وتكذب منطقه في تحرير الشعوب العربية. ما يدفعه لطلب الدعم من الرئيس الأميركي الذي يحدثه تلفونياً. ثم يخرج إليه من الشاشة ليصبح جزءاً من المشهد. وبعدها نتابع مشاهد من طفولته وتجاربه مع معالج نفسي حاول تدريبه على التمثيل الذي تطور مع نجاحه في خداع العرب. أما المعالج فيخضع لتأثيرات ساحرات العولمة الرأسمالية الشريرات اللاتي يتخذن قرار الحرب، ومع اندلاعها نتابع الكيفية التي يصف بها مراسلو القنوات الفضائية ما يحدث، اذ نجد أنفسنا أمام روايات مختلفة لحدث واحد يعري دور التلفزيون في "احتكار الحدث"، وإعادة تشكيل المعلومات وتلوينها بحيث تأخذ معنى لا يقابل الحقيقة على الإطلاق ويسعى العرض عبر مشاهده وتراتبها التصاعدي الى مواجهة ما يسميه بيار بورديو "الايديولوجيا الناعمة" المتمثلة في تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التي تبثها وسائل الإعلام الحديثة خصوصاً التلفزيون الذي يملك صناعه ما يسمى ب"القوة الاستثنائية الممثلة في الصورة" وهو أيضاً كاشف للآليات التي يمارس من خلالها التلفزيون نوعاً من العنف الرمزي مدعوماً بحال تواطؤ جماعي وضمني من الجميع. وفي سبيله الى تحقيق ذلك يبدو العرض مخلصاً لمسرح الكباريه السياسي لا في الصورة التجارية التي رسخ جلال الشرقاوي وإنما في صورة تقترب من تجارب محمد صبحي الأخيرة، خصوصاً في "ماما أميركا" و"بالعربي الفصيح". وهو أيضاً قريب من مسرح مراد منير في انجذابه الى الكوميديا الموسيقية الشائعة في مسرحيات زياد الرحباني الأولى وفيه كذلك رائحة نزعة مسرح الغروتسك ومبالغاته الكاريكاتورية في الأداء لتجسيد "مسخرة الواقع العربي"... حرارة مسرح الهواة ولأن العمل هو لفرقة "الحركة" وهي فرقة مسرحية حرة، تعمل من دون تمويل منذ عام 1992، فيه الكثير من حرارة مسرح الهواة ومميزاته بخاصة طاقة الممثلين وحيويتهم وعنفوانهم التي تغني خشبة المسرح معظم فترات العرض، كما أن فيه القليل من عيوب الهواية وعلى رأسها المباشرة والرغبة في قول كل شيء، وربما بسببها فقد العرض جزءاً من حيويته خصوصاً في أغنية النهاية التي كانت أشبه بالزائدة في عرض مليء بالمتعة، ويا ليت مخرجه يعيد النظر فيها على الأقل وهو يقدم عرضه في مكان ربى جمهوره على ذائقة تجاوزت هذا المنطق التحريضي. والمؤكد أن إدارة الهناجر برئاسة الناقدة هدى وصفي تستحق كل تقدير لأنها قبلت الدخول في مثل هذه المغامرة على ما فيها من مخاطر الصدام مع السلطة ومغبة مواجهة كل أشكال التسلط والهيمنة.