يوميات 21-22/12/2003: قبل ربع قرن تقريباً، في 24/10/1978 كنت غادرت العراق. اليوم في ميناء ابن راشد في دبي، حجزنا مكاناً في الدرجة الأولى على سفينة. كان علينا الحضور في الحادية عشرة صباحاً، على رغم ان الرحلة تنطلق في الساعة الرابعة بعد الظهر. صعدنا الى السفينة. الفوضى واضحة من خلال تغيير الغرف المحجوزة، وتسليمنا غرفاً سيئة غيرها. الجميع، ركاباً وطاقماً يدخنون بشراهة وأجهزة الهاتف النقّال تدقّ من دون انقطاع. في الرابعة بعد الظهر نودينا الى المطعم من أجل سندويشات عديمة الطعم. اضطررت الى تناولها مع شاي ليبتون تركته يبرد على المائدة. الساعة الخامسة بعد الظهر تحركت السفينة أخيراً ونحن على متنها نراقب ابتعادها عن عمارات مدينة دبي الشاهقة ذات المرايا وأبراجها التي بقيت تلوح لنا حتى غابت الشمس وحل الظلام في شكل تدريجي وانقطع رنين الهواتف النقّالة تماماً وأضحينا في مياه الخليج لا نرى شيئاً من اليابسة. كان عشاء الدرجة الأولى سيئاً، الشيء الوحيد الذي استطعت تناوله هو البطاطا المقلية ولقيمة من لحم دجاج مقلي. الغرفة التي أعطيت لنا لا تصلح الا للاستلقاء وفي قاعة الجلوس لا تمكن القراءة، الفضول يدفع جميع الجالسين الذين يدخنون بلا انقطاع الى مراقبتك، غالبيتهم العظمى من العراقيين. اخترنا الدرجة الأولى لأنها تمنحنا غرفة بحمام خاص بنا، وبهذا نستطيع القراءة والكتابة كما اعتقدنا. ولكننا اكتفينا بالقراءة، فلا طاولة ولا كرسي فيها! حاولنا الجلوس في القسم المخصص للنساء، باعتبارنا عائلة. غير ان صراخ الأطفال لا يدعنا نحظى بالهدوء وبالتالي بالقراءة. غير ان سماع حديثهن كان أمراً لطيفاً لنا، فهن أقمن محكمة خاصة لصدام حسين وزوجاته وبناته. لديهن معلومات مخلوطة بإشاعات كثيرة كافية لكي يثرثرن من دون انقطاع لساعات طويلة. الجميع ينظر الينا كأجانب ويستغربون كثيراً حين يكتشفون أننا نتحدث العربية، ويستغربون أكثر حين يتعرفون على لهجتي العراقية. أنا نفسي أشعر بأنني غريب عنهم أيضاً، مشاعري متضاربة نحوهم... سحنهم الحزينة التي بقيت ذاتها، تنم عن الفقر والذل ولكأنما يعلوها الغبار. ربما هذه الصدمة الأولى، فهؤلاء هم الذين كنت طوال ربع قرن أحلم بهم، اشتاق اليهم طوال هذه السنوات، أفكر بفقرهم المدقع، بعجزهم، صورة ظلت لامعة في أحلام نومي ويقظتي طوال ربع قرن، حتى أخذت في البهوت والتغيّر وحال لونُها وعلاها الغبار. ولم أعد أحلم بعد. ولا أستعيد المشاهد. وكلما استعدتها برزت لي وجوه كالحة كهذه الوجوه، سمعت نداءات استغاثة ورأيت أيدي ممدودة، وأنا عيني بصيرة ولكن يدي قصيرة وما لديّ غير كافٍ! وها أنا أعود، وفرحي الصغير صغُرَ حتى تلاشى تقريباً وحلت محله أحزان أخرى وخوف ووجل. أحياناً تنهمر الدموع وأحياناً استطيع منعها من السقوط، محاولاً تغيير الموضوع مع نفسي. ليلتان ونحن نتهادى بعيداً عن اليابسة، لا نرى أثراً لها. اليوم خلال طعام العشاء، فتاة صغيرة وصبي، تبيّن أنها أمه، في الرابعة والثلاثين من العمر، هُجّر والدها عام 1979 وطُرد من بلده العراق، لم ينشط سياسياً، لا ذنب له، سوى أن أصل جده من ايران، العائلة استطاعت بعد محاولات كثيرة أن تلم شملها في دمشق. هناك أقاموا في السيدة زينب، وهي كبرت هناك، تزوجت وسافرت الى النروج. اليوم تعود للمرة الأولى مع الابن الأصغر. يبدو أن غالبية المسافرين يشكلون مصائر وقصصاً مروعة قائمة بذاتها! لا أحد يريد أن ينكأ الجراح، لكن الجميع يريدك أن تسمع حكايته! يتحدث العراقيون اليوم وللمرة الأولى منذ سنوات بصوت عالٍ، بحيوية، لكأنما عادت اليهم الحياة، اختفى خوفهم، خوفهم من بعض، اختفت روح الجاسوس التي حاول صدام أن يزرعها فيهم، جعلتهم يخافون بعضهم بعضاً، الزوج من زوجته، الوالد من ولده وبالعكس! الحماسة تعود الى حياتهم، حيوية لا يتبيّنها الا من خبرها! "تناول الخمور ممنوع في الأماكن العامة"، افيشات ملصقة على جدران كابينات النوم! لقد قرأت تقريباً كل زوادتي من الكتب، وبقيت أتسارق مع رفيقتي كتاباً عن "ممارسة السياسة والديموقراطية في العراق". هو كتاب يتطلب قراءة هادئة. لكن لا مناص، ولكي أكتب عليّ أن أجلس نصف جلسة على السرير، ولا أرفع رأسي كثيراً لئلا ترتطم بالسقف، يجب التأقلم مع الأوضاع! 23/12/2003:ميناء أم قصر نحن نقترب من اليابسة كما يبدو، أخي أخبرني بأنه سيقدم الى ميناء أم قصر لكي يستقبلنا. مشاعري متضاربة. لا أعرف كيف أصفها، لا أصدّق أنني عائد على رغم اننا دخلنا المياه الاقليمية العراقية منذ أكثر من ساعة. قبل سنوات حينما كانت الطائرة تحلّق بنا وأرى أننا تقريباً كأنما نحلّق فوق العراق، أشعر بالخوف، بالرعب وأتمنى لو أنها تبتعد أكثر. لا يدوم هذا الشعور الا ثواني فتظهر الخريطة بصورة مكبّرة واذا بالطائرة تحلّق بعيداً. حذر غريزي وخوف يأتي من الأعماق. قبل أسابيع حين كانت الطائرة المتجهة الى دبي تحلّق وبدت الخريطة من جديد،. كم شعرت بالفرح والسعادة وتمنيت لو أن الطائرة تحلّق فوق العراق. طائرة هيليكوبتر عسكرية تحلّق قليلاً وتختفي! الدلافين ترافق السفينة من الجانبين. اليابسة تبدو واضحة من الجهات الثلاث. أجهزة الهواتف النقالة تعود الى العمل وذلك ضمن تغطية الشركة الوطنية الكويتية للاتصالات. يُقال إن هذه التغطية ممكنة في البصرة، العمارة وحتى الناصرية. الدخول الى ميناء أم قصر حوالى الساعة الواحدة بعد الظهر بحسب التوقيت المحلي. لم يصبنا دوار البحر اليوم، والذي كان يحدث دائماً حين نجلس الى المائدة! ربما لأن المياه هادئة. تبدو اليابسة العراقية من بعيد قاحلة، بقايا سفن، قطع حديد متناثرة على أطرافها، مشاعري متضاربة الآن، فأنا أطأ الأرض هذه للمرة الأولى، إذ لم يسبق لي أن أخذت السفينة من العراق أو الى العراق. البصرة مدينة زرتها ربما مرتين في حياتي. وأخذت صورة لنفسي عند تمثال شاعرها بدر شاكر السيّاب. رافعات الميناء تبدو قريبة، اليابسة تقترب من الطرفين. سفن صدئة متناثرة هنا وهناك على الجهة اليسرى تبدو بناية للأمم المتحدة، شجيرات متباعدة على اليابسة! خفقات قلبي تتسارع، لا أثر لأشجار النخيل في الميناء. منذ ساعتين ونحن نسير وندور كسلاحفَ في ميناء أم قصر، الأحرى في لسانه البحري، الأرض تبدو على الجهة اليمنى "غرينية" اللون. الآن الثالثة والربع بعد الظهر، أديرت السفينة لكي ترسو مؤخرتها في الميناء. أُناس ينتظرون، أمرأة بعباءة سوداء تتكلم وتشير بيديها، وكأنّها تود الصعود الى السفينة. المسافرون من مدن أخرى غير البصرة سينتظرون الى صباح اليوم التالي. نترك سطح السفينة وننزل الى غرفتنا المزعومة. بدل البقاء فوق السطح ومراقبة مشهد الميناء الجامد بالأدخنة وروائح الزيوت المختلفة! سيارات شحن وأخرى عسكرية بجنود أجانب أو يبدون هكذا تروح وتجيء في الميناء! 24/12/2003: طابور الغرباء تمت عملية النزول ببطء وفي حال أشبه بالفوضى، على الأقل بالنسبة إلينا، نحن الذين نبدو كالغرباء، حائرين أمام هذا الملأ المتماوج. لقد حدقنا طوال الصباح في الفضاء. أردنا أن نتعرف على طبيعة فارقناها، أو وجوه أليفة. ثمة رهبة. بقايا خوف وذكريات تتدحرج كقطع زجاج لكأس مكسورة. تمت اجراءات الدخول بيسر. ثمة حياة طبيعية اذاً، نظرات شرطة الجوازات مستجدية وخالية من التسلط والعنف. لا شيء يذكّر بالماضي، إلا بقايا الشوارب الشائبة. كنت أتوقع أن أرى أحداً أعرفه وراء الحاجز الزجاجي ينتظرني. تأملت المستقبلين طويلاً. ربما تعرّفوا اليّ. حاولت أن أستعيد الوجوه، تلك اللقطات القديمة، الصور الأحدث، لم يتحرّك أحد ولم ينتبه، فقط نظرات الحمّالين التي تترصدني، وحين عبرنا الخط الأخير مع حقائبنا تأكدنا أنه لم يكن ثمة أحد في انتظارنا. لِمَ نهتم؟ فنحن غرباء. اينما حللنا، حتى عند شرطة الجوازات وقفنا في طابور الغرباء. أخذت أنقّل خطواتي على الأرض لكي أتأكد من أنني قد عدت حقاً، وأنني أخطو وأتمشّى وأتنفس وأتحدث الى الناس، حمالين، شرطة، سائقي تاكسي، من دون خوف أو وجل. لم يترصّدني أحد، أو ينظر الي نظرات غريبة ملؤها الشك! رحت أتبادل مع منى الجلوس مع الحقائب والتمشي على الأرض العراقية. ثمة ضباب وغبار وربما دخان. لا أدري، روائح محروقات مختلطة. ملصقات عن شركات اتصال هاتفية شبيهة بتلك التي نجدها في كل مكان من العالم. لكن الهاتف لا يعمل. لقد بدا وكأن الزمن يمرّ ببطء شديد. الساعة الآن هي التاسعة صباحاً تقريباً وكنت أداعب الأفكار في ما اذا كان علينا أن نستأجر سيارة الى السماوة أو ننتظر، فربما تأخر المستقبلون من اخواني. لهذا اتخذت الاحتياطات الكاملة اللازمة فكونت لنفسي فكرة عن الأسعار. وفي غمرة هذه التفكرات واذا بمجموعة من الأفراد يقتربون منا، ويحتضنوننا ويبكون. تعرّفت الى أحدهم، وكان هو أخي الأصغر، ثم أخ أكبر، تعرّفت اليه من أنفه وتركيبة أسنانه، ثم أخ ثالث شائب الشعر من صوته، كنّا حقاً غرباء، ما ان عبرنا بوابة المبنى حتى شاهدت أمي من بعيد برفقة امرأة أخرى، اعتقدت أنها أختي صفية، لكنها كانت الأخت نجية، توأمها، لم نحتج الى وقت كثير حتى غادرنا ميناء أم قصر. نظراتي المحاصرة، تزوغ بين نظرات المستقبلين وتسقط على جانبي الطريق الممطر. تبدو الأراضي جرداء تقريباً، داكنة اللون، تتوزعها البرك المائية، غير أن سرباً من الطيور يطير بمرح. مرح تصوّرته ربما فقط، أشعرني بأنني نزلت على اليابسة، السفينة خلفنا جميعاً، أنا، أهلي وزوجتي. الطوفان انتهى تقريباً. الأمواج انحسرت والحمامة تعطي الإشارة الحقيقية للنجاة. نجاة من نجا منا جميعاً، المنفي والمقيم، بشراً، حيواناً وشجراً! وبفضل الحمامة عرفنا قدرنا، نحن الذين نجونا! ومثلما مرّت الدقائق السابقة بطيئة، فان ساعات السفر الثلاث أو الأربع حتى السماوة، كانت بطيئة جداً وتخللتها مشاهد الرعاة بكثرة غير معتادة، كلاب سائبة تركض في الفيافي أو مرمية على جانبي الطريق مدهوسة ومتفسخة أو في طريقها الى التفسخ! بقع المياه متناثرة، آسنة أو جديدة تركتها الأمطار التي قيل لنا أنها هطلت تواً وبكثرة. تبدو المدن والقرى الصغيرة، حيث كان طريقنا، وكأنها بقايا من تلك الذكريات، بقايا مهدمة، مغطاة بالغبار، بقايا كأنها في طريقها الى الاندثار. لا شيء جديداً. وحتى هذا الذي يبدو جديداً بعد هذه الأعوام الطويلة، بدا وكأنه خرابة. بل اندثرت كل الجوانب التي بدت لنا زاهية من الذكريات! بقيت الصورة الفاقعة التي يصعب التعرّف عليها! بل حتى غابات النخيل عرّيت من تلك الخضرة وتلك الخلطة الزاهية من الأشجار والخضرة التي تجعلها وكأنها حقل منيع. في امكانك اليوم أن ترى الجهة الأخرى من البستان، تشعر وكأنك تتخلى عن ذاكرتك شيئاً فشيئاً وأنت تستسلم لمصيرك. عليك أن ترقّع ذاكرتك ببساتين ميتة أو على وشك الموت! زهورها اختفت وأشجارها تلاشت تقريباً. لقد وصلنا الى القرية الأصلية في الثانية بعد الظهر تقريباً، كان في امكاني أن أتعرّف الى بعض الملامح. لكنني لو كنت قدمت وحدي لما كان باستطاعتي التعرّف اليها. ثمة بيوت تناثرت في كل مكان تقريباً، محطة قطار الحمولة والركاب، نقلت من وسط المدينة الى أواسط حقولنا، ثكنات الجيش الهولندي أخذت أماكنها في حقولنا أيضاً. سكك قطارات جديدة وقديمة وطرق معبدة للسيارات تناهبت تلك البقع الخضر التي أضحت داكنة في عزّ الشتاء، وفقدت ديمومة نباتاتها الدائمة الخضرة لاختفاء مياه الفرات تقريباً، ولأنها لم تمطر في السنوات الماضية الا قليلاً، هذا ولّد لدى الفلاحين الذين عُرف عنهم مراسهم الطويل مع الطبيعة، لا مبالاة شديدة، خصوصاً اذا عرفنا صراعهم المرير مع سلطات جاهلة، ليس لديها أدنى معرفة بأمور البلاد بمختلف أصنافها! كان عليّ اجتياز امتحان معرفة الوجوه، ثمة سؤال واحد خلف رجل أو امرأة يتقدم ليعانقني! هل نسيتهم؟ هل تعرّفت اليها أو اليه؟ الذاكرة التي ميزتها الأساسية العطب، تحفظ هذا أو ذاك الوجه وتنسى ذاك أو تلك! أيضاً فالوجوه شابت وتغيّرت وبعضها تحت، تحت التراب! لقد تم الاحتفال بأبهى طرقه التقليدية، الحلوى تنثر على الرؤوس فيما يتراكض الصغار لكي يجمعوها، منى سُحبت من فريقنا، الى قسم النساء، فيما كان عليّ تقبيل هذا الجمع من الرجال والنساء والأطفال واحتضانهم، لا أدري كم احتضنت أو قبلت من النساء والرجال والأطفال. بعضهم عرفته فوراً، الآخر لم أتعرف اليه بالمرة، وآخرون احتجت أياماً لكي استعيد صورهم، مئات من الأقرباء جداً ومن الجيران الجدد والأقرباء والبعيدين. أولمت الولائم التقليدية وأطلقت طلقات الحفل! وكان عليّ البقاء مع الرجال لاستقبال القادمين وتقبّل تحياتهم ومعانقتهم ثم الانتقال بين فترة وأخرى الى قسم النساء والأطفال لتقبيل المهنئات ومعانقتهن، وكان عليّ أن أذرف الدموع في شكل متواصل، لا مجبراً، انما تحت تأثير هذا اللقاء ورؤية هذه الوجوه القديمة والجديدة التي أعود اليها اليوم. أنا الذي ظللت طوال 25 سنة أحنّ الى رؤيتها، احلم بها، بقيت تطاردني من مكان الى مكان، الأحياء منهم والأموات! حين حلَّ ما يشبه الهدوء، عرض أحدهم نسخة عربية من مجلة "نيوزويك" والتي حمل غلافها صورة صدام حسين الشهيرة بعدما القي القبض عليه، تلقّفتها الأيادي، وكأنها بضاعة نادرة، أحدهم اقترح: بما أننا لم نعلّق صورته في مضيفنا، فان من الممكن أن نعلّقها الآن وبهذه الصيغة، وإمعاناً في السخرية اتفقوا على تعليقها في السقف! ضحكوا! كان لسان حالهم يقول: لقد تصرّف طوال حياته كجرذ، لم يهتم إلا بجحره! كم كان الحق معهم! 25/12/2003:أرض تبتلع شجراً وطالبات لا أدري ان كنت نمت حقاً أم انني كنت أحلم حقاً، بقيت الكلاب تنبح طوال الليل، وفيما أنا أتقلّب، غرّدت الطيور في الصباح المبكر، ثم أذّن المؤذن لصلاة الصبح. ولكأن الكلام لم ينقطع في البيت طوال الليل. لقد بقيت اسمع الكلمات تتناثر مقبلة من كل زاوية من البيت أو من البيوت المجاورة، وهذه الأصوات استعادتني في كل مرّة أغط في النوم، حتى حلّ الصباح وشعّ نوره عليّ. لم يكن صعباً الحصول على فنجان قهوة جاهزة في مجتمع أدمن شرب الشاي الأسود بالسكر! كانت زيارة بقايا البستان تلحّ عليّ، وهكذا بدأنا برنامجنا اليومي باكرين، على الأقدام. الحقول، وفي عزّ الشتاء فقدت لونها الأخضر، وحلت محلها الألوان الداكنة، أشجار النخيل محروقة أو مهدّمة أو ببساطة مقتلعة من الأصل، أشجار الرمان والعنب والمشمش والصفاف كما لو أن الأرض ابتلعتها! أردت أن أواصل الطريق الى المدينة، الطريق ذاته الذي كنتُ أسلكه الى المدرسة في الصغر! من الصعب أن أتعرّف على ملامحه، هناك بقايا معسكر وقد أوشكت على الاختفاء خلال الأشهر الأخيرة، فقد فلّش المواطنون طابوقها لكي يكملوا بناء بيوتهم! فمعامل الطابوق القريبة عتقت وتلاشت هي الأخرى، ثمة طرق جديدة، للسكك الحديد والسيارات! المدينة تبدو قريبة جداً. خلال دقائق واذا بنا في المدينة، لقد صغُر كل شيء وانكمشت البيوت والطرق. الوحل يغطي الطرقات والغبار ذاته يتراكم على كل شيء. غالبية الملامح القديمة بقيت ذاتها وحتى الجديد منها اتخذ الملامح ذاتها، لقد بدت المدينة وكأنها قرية كبيرة، تأريفت تماماً، بالكاد تعرفت على الشارع الذي كانت تكثر فيه المكتبات. المقاهي اختفت. ثمة بقايا مكتبة فارغة تقريباً من الكتب. وأخرى وقد تحوّلت أو واصلت بيع الجرائد والمجلات وبعض الكتب القليلة القديمة! الوسخ زحف على الفرات، وماؤه غارَ وبدت جسوره القليلة وكأنها على وشك السقوط، قيل لي انه كان في امكانهم قبل الحرب عبوره سيراً على القدمين. بين فترة وأخرى يتعرّف عليّ صديق أو واحد من معارفي القدامى! وهذا أسعدني في الأغلب، لكنه يربكني لأنه من الصعب عليّ التعرّف على هؤلاء من جديد! خصوصاً أنني خططت من دون جدوى لئلا أصافح واحداً من كوابيس تلك الأعوام... مدرستي الأولى التي زرتها عام 1963 فقدت أشجارها، حديقتها عارية بالكامل، وغيّرت اسمها وأضاعت نصف مساحتها وتحوّلت الى مدرسة للبنات. عدا هذا لم يتغيّر فيها شيء، غرفة المدير ذاتها، قاعات الاجتماعات الكبيرة والامتحانات هي ذاتها، غرفة الصف الأول هي ذاتها، وقد تكرّمت المديرة الحالية وسمحت لي بدخولها، وبالتصوّر مع طالبات الصف الأول الابتدائي! لكم تغيّرت الصورة، فطالبات تلك السنوات 1963 كن فارعات، فيما طالبات اليوم صغيرات جداً 2003 برؤوس مغطاة! كل شيء في المدينة يبدو مثيراً للحزن، تبحث عن الصديق وتجده قد شاب وتهدّمت أسنانه في أحسن الأحوال، تحاول أن تجد ذاك الوميض القديم عبثاً، تجلس وتخجل من نفسك! ماذا حلَّ بنا، تتساءل؟ أين ضاعت تلك الأوهام والأحلام؟ وفيما أنت ساهٍ يتقّدم اليك شخصٌ شائب الشعر ويحييك بحرارة وتحار وتحتاج الى بعض الوقت لكي تتعرّف اليه! انه واحدٌ من كثر عاشوا معك في ماضيك وها هم ما زالوا هنا! الكلّ يخطو بطريقته ويحيي! كم هي الحياة غنية بالفقر وخصبة بهذا الموت! ... عدنا الى القرية. لم نستطع حتى الآن أن نلتقي كأخوة وأخوات وأمهات وأن نتحدث بحميمية الأيام الأولى. بدا الأمر صعباً حتى الآن! كنت أريد أن نتحدث هكذا ببساطة وأن نستذكر وأن نضحك! ما زالوا يحبون القطط، وأحدها قد دُلّل كثيراً، فهو يمكنه أن يتدفأ في أحضان أخي أو في ظله حين يصلّي! بل انه يأخذ بالشخير والاسترخاء. لقد اتفقنا وعلى رغم عدم انسجام هذا الأمر مع العادة المتبعة، على السفر الى بغداد. كنتُ أريد أن ارى العاصمة. أن ألاحق تلك الآثار، حيث كنتُ آنذاك، المقاهي، الشوارع، المكتبات والمطاعم... وهكذا عقدنا العزم على السفر في الصباح التالي! 26/12/2003:قرية بغداد الكبيرة نهضنا مبكرين وبرفقة عائلة أخي الصغير، تحركنا الى بغداد، اخترنا الطريق الجانبي، لا الطريق السريع، وذلك لكي نمرّ في المدن الواقعة عليه حتى بغداد. الأراضي عكست اللون الطيني الداكن ذاته، بعد هطول الأمطار المدن مزدحمة في شكل غير طبيعي، وأكثر خراباً، سواء كانت الرميثة، الديوانية، الحلة أو المحاويل، كل شيء يبدو وكأنه أكثر سوءاً من تلك السنوات. حاولت أن استعيد عبثاً تلك الاشارات القديمة الخاصة بالمدن، أو بالعاصمة. بغداد بدت وكأنها قرية ضخمة، قرية شبه منهارة على نفسها. احتجت الى وقت طويل حتى ابصرت بشائر جامع أم الطبول، وهنا تأكدت من أنني قد وصلت الى بغداد. توقفنا ليس بعيداً عن مقهى الشابندر، التي كان دورها هامشياً في تلك السنوات. برفقة أخي الصغير وحسين علي يونس ذهبنا الى السعدون من أجل لقاء صديق عراقي عرض علينا الإقامة. لم نجده. وهكذا بدأت حيرتي، الى أين نذهب؟ ها أنا الآن في شارع ابو نواس، وقد بدا مهجوراً، تمرح على جهته النهرية الكلاب السائبة، ربما هناك مطعم واحد ما زالت بقيته تقدم السمك المسكوف أو يُعتقد بأنه يقدمه! الحيرة خيّمت على خيالي وأنا أتأمل هذا المشهد حتى لحظت فندقاً بدا معقولاً من الخارج في الأغلب الأعم تحاول الفنادق أن تحافظ على مظهرها الخارجي فقط. لكنه كان حقاً معقولاً. وهكذا أقمنا هناك. تناولنا الطعام في أحد المطاعم. الطعام كان معقولاً، دردشة مع الأصدقاء. مقهى انترنت. وهكذا كانت أولى اتصالاتنا الالكترونية ورسائلنا الى الأصدقاء من بغداد. 27/12/2003: الباب الشرقي ضباب كثيف أو دخان يضعف الرؤية، نهضنا مبكراً. لم نسمع في الليل الا اطلاقات بعيدة جداً. بقينا خارج الفندق حتى الساعة 8 مساء في الباب الشرقي والأماكن المجاورة. في الصباح أحاديث مكثفة عن الوضع الأمني، عن الوضع الاقتصادي، الحال الاجتماعية. لقاء عن الحال الثقافية والنشر. هنا كان في امكاننا أن نسمع اللغة الجديدة، التي ما زالت عند الكثيرين تغرف من المخزون البلاغي الفارغ ذاته. نحتاج الى أن نتكلّم الى بعض. أن نتكلّم أكثر. علينا أن نتحاور فوراً. 28/12/2003:جسور وجرائد يبدو وكأنني أستعيد المدينة من جديد، لكن ببطء شديد، الشوارع المسجاة هنا، الأبنية الميتة، والحياة المهجورة، بصعوبة أتلمس طريقي على اسفلت الشوارع، كأنني أدوس على حيوات صغيرة، وكأنني أتنقل في الحلم، الجسور المنهكة، الأحصنة المنهكة، الوجوه المنهكة، ولكنها لا تني تتحرك وتعيش. أقلّب صفحات الجرائد، من دون أن يشدني فيها شيء يستحق القراءة، اقلب صفحاتها وأضعها جانباً، التعليقات لا معنى لها ولا لغة. هذر أعرفه. الهذر القديم ذاته، الصفحات الثقافية لا تُقرأ. ربما جريدة اسبوعية واحدة يمكن قراءة بعض صفحاتها، وهي تبدو وكأنها أفضل الأشياء السيئة. ترى الجميع أمامك، أينما ذهبت، وكأنهم بانتظار حدث مهم. بانتظار بشير بالنبأ اليقين، واذا دار الحديث، وهو يدور دائماً، فجميعهم قد اضطهدوا، وعانوا الأمرَّين من نظام صدام حسين، حتى الذي كان حتى عشية التاسع من نيسان يدبج المدائح لروايات "القائد الضرورة". وأنت تسمع، تتعجب، وتصمت. التقنّع هو ميزة أساسية لغالبية البشر، وأفضل من يجيدها هم طفح السلطة الذي ينمو بسرعة هائلة، وتراه أمامك أينما حللت. متى كانت الحياة شيئاً آخر. الوجوه المتضائلة التي تتظالم في المنعطفات، هي وجوهنا ذاتها وقد بدت لنا من جديد، تلقت اشارة الحياة، وتسلمتها بسرعة، وها قد اشتعلت فيها الحيوية وعادت الى سيرتها من جديد. قبل أيام أخبرني أخي، حين كثر عدد الزائرين والمهنئين بالعودة، من رجال العشيرة ونسائها مع الأخذ في الاعتبار انهم يجلسون في شكل منفصل وزاد بحيث جلسوا بأعداد مضاعفة داخل المضيف وخارجه، حيث مدت البُسط ومعها مُدّ الطعام... أخبرني أنه لم يكن بامكانهم الجلوس هكذا وبهذا العدد طوال السنوات الماضية، اشارة الى بؤس الحياة والاضطهاد الذي عانوه. لكن حديث أخي هذا، يصلني وكأنه يعني ان الشمل قد التأّم من جديد، وعادت السعادة الموهومة الى العائلة... 29-30/12/2003: مطعم قدوري - أبو نواس من جديد نبدأ سيرة اليوم الصباحية، الفطور عند مطعم قدوري المجاور للفندق في شارع ابو نواس، باقلاء بالدهن، وقد قدّمت الباقلاء مقشّرة، على رغم ان عهدي بها كانت تقدّم بقشورها ومعها تقدم الطماطم والبصل وبلا نارنج! تصوّرت انني لن استطيع تناول الغداء بعد هذا الفطور الدسم. المدينة تعج بالسيارات، مزدحمة جداً... الجرائد تدفع 10 دولارات في مقابل النشر للمادة الأدبية، بعضها لا يدفع أبداً، وليس فيه مكان للمادة الأدبية، ثمة جرائد تصدر وكأنها اعلان للأطعمة، سيئة الطباعة والتصميم ولا شيء جديداً يقرأ فيها، وبعضها يمتدح شخص صدام حسين بطريقة ملتوية. في أحد الاجتماعات التي دعت اليها وزارة الثقافة والتي تعالج مسألة النشر في العراق الجديد، بحثت عبثاً عن ناشر عراقي. فقط سمعت متحدثاً باسم أصحاب المطابع. وسمعت المتحدث نفسه في لقاء آخر. وزارة الثقافة ربما هي الناشر الوحيد. لكن عليها ان تعالج هذا الأمر، أي تريد أن يعود الناشر العراقي الى النشر، فهو المعني أساساً بالأمر، والوزارة سيكون دورها أساسياً في عملية التحويل هذه وفي المساعدة في نشر الأعمال التي لا يمكن ناشراً عراقياً نشرها بمفرده. على أن يكون هذا التحويل بالتدرج وبحسب الأوضاع الحالية والمقبلة. 31/12/2003:وزارة التخطيط وبرك أمطار بحثت عبثاً عن وزارة التخطيط، فكلما وصف لي مكان ما، لم يكن هو المكان الصحيح، عند فندق الرشيد حيث كانت محاولتي الأخيرة، تظاهرة تطالب بتوفير السكن لمجموعة من محتلي معسكر الرشيد. من أين جاءوا ولماذا؟ الى أين يمكن أن يذهبوا، ولماذا كان عليهم أن يتركوا المكان، كما يطالب نائب وزير الداخلية. ذلك ما لم استطع فهمه. فكلهم يتحدثون في وقت واحد وبصوت عالٍ، مع نواح وصراخ. وكأنني مطالب بمعرفة الأمر بسرعة ومعالجته. لا أدري لماذا اعتبروني شخصاً يمكن أن يساعدهم. الغريب انهم يرفعون رايات حمر. يبدو ان منظمة شيوعية تريد ان تتبنى مطالبهم لكي يكون هذا الأمر مبرراً بالنسبة اليها ولكي تشغل نفسها. طريق العودة الى السماوة بدا وكأنه أقصر من طريق القدوم، وعدد الكلاب المدهوسة بدا أقل أيضاً. برك المياه الآسنة، أو برك مياه الأمطار ترافق الطريق، الطيور المائية تشاهد بكثافة. الجداول الحية بمياهها، البساتين فقيرة، هذه التي كانت رمزاً للغنى. 31/12/2003 - 1 و2/1/2004:متاهة الصحراء زخم الزيارات قلّ، الآن علينا أن نزور الأماكن التي نود زيارتها أو يجب علينا القيام بذلك. فكانت الصحراء هي شفيعنا في هذا الأمر. هناك تهنا حقاً. فبعد جفاف الفرات التقريبي في السنوات الماضية اضطر الفلاحون الى زراعة الصحراء، وبحثاً عن المياه الجوفية والأراضي الصالحة للزراعة تناثروا هنا وهناك ومعهم ماكينة آلة انكليزية وأخرى هندية تعود الى سنوات الانكليز الأولى في العراق في بداية القرن الماضي. هناك وجدنا أنفسنا مع تلك الماكينات وهي تقذف لنا ماء صافياً فيه شيء من المرارة لكي يسقي الحقول المنتشرة في الصحراء وكل فلاح سيد نفسه. كانت الصحراء شفيعنا، هناك تهنا.