لم يعد في حاجة إلى تقديم، يانيس ريتسوس، اليوناني الشهير الذي رحل عن عالمنا في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1990. فما أكثر ما تُرجم له عربياً من قصائد، من المشرق العربي إلى مغربه. قارةٌ شعرية متعددة الأبعاد والأعماق، على رغم ما قد يبدو - على السطح - من بساطة. هي البساطة الخادعة، الماكرة، التي تستدرج القارئ إلى شَرَكها الخفي. لكنّ هذا «الشَّرَك» - بالتحديد - هو جوهر القصيدة، عُمقها اللامرئي، المتخفي وراء اليومي، العابر، المعتاد ربما إلى حد الابتذال، أحياناً. وفي هذا العُمق، يكمن سؤال القصيدة. فتلك التفاصيل اليومية التي تنبني بها ومنها القصيدة لا تعني بذاتها، بل يكمن المعنى في تراتبها الذي يفضي إلى ما هو أبعد من ذلك اليومي، وأعمق من المرئي، وأكثر جوهرية من العابر المنذور للنسيان. إنه الحضور الإنساني في التاريخ، والمصير الإنساني، لا أقل. لكنّ الغريب أن مئات القصائد، المعتمدة لمنهج البناء الشعري نفسه تقريباً، التي عكفتُ عليها - على مدى تلك السنوات - لم تتكشف عن شُبهة تكرارٍ ما، منذ ديوانه الأول «جرَّارَات» (1934) إلى ديوانه الأخير الذي توفي من دون أن يكتمل «في آخر الليل» (1988). لقد اكتشف نهجه الشعري الفريد، ضمن شعريات اليونان الشاهقة، وشعريات القرن العشرين الفادحة؛ لكنه ظل حريصاً ومنتبهاً - حتى اللحظة الأخيرة - لضرورة تطويره، وتعميقه، وإثرائه، بلا ركون إلى المكتَسَب، المتحقق. فكل قصيدة تمنح ما لم تمنحه المئات الأخرى، السابقة أو اللاحقة. كل قصيدة اكتشافٌ لما لم يخطر بأية قصيدة، إضاءةٌ ما لما لم تُضئه أية قصيدة، صحوةٌ ما على ما غاب عن البصر والبصيرة. صدر هذا الديوان بعد عام على رحيله عن دار «كيدروس» اليونانية.وقد اعتمدتُ في إنجاز هذه الترجمة على الترجمتين الإنكليزية والفرنسية لهذا الديوان الأخير. لكنّ المفارقة أن عدد القصائد، في الترجمتين الإنكليزية والفرنسية الصادرتين للديوان نفسه، ليس موحداً. فالترجمة الفرنسية تنقسم إلى ثلاثة أقسام داخلية: «نفي الصمت» (67 قصيدة)، «الشجرة العارية» (23 قصيدة)، «في آخر الليل» (41 قصيدة)، بما يصل في الإجمال إلى 131 قصيدة. أما الترجمة الإنكليزية، فتلتزم التقسيم الداخلي ذاته، مع اختلاف في عدد القصائد: «نفي الصمت» (31 قصيدة)، «الشجرة العارية» (13 قصيدة)، «في آخر الليل» (27 قصيدة)، بإجمالي 71 قصيدة، وبما يقل عن الترجمة الفرنسية بستين قصيدة. لكنّ الترجمة الإنكليزية تضيف نصّاً بعنوان «دقات ساعة الحائط»، يتألف من 47 مقطعاً، في شكل «متوالية» شعرية، مرقمة على نحو غير متسلسل، بما يعني من فجوات رقمية داخلية. تضم الترجمة نفسها قصيدة إضافية تنتمي إلى ديوان غير مكتمل بعنوان «صفير القارب». هكذا تبدو الترجمتان غير متوافقتين، على نحو غريب يدعو إلى التساؤل، وكأنهما تمتا عن كتابين مختلفين، لا عن كتاب واحد. كان بمقدوري الحصول على الطبعة اليونانية، الأصلية، لكني لم أجد نفسي متحمساً للقيام بهذا «التحقيق». فالقصائد تمثل آخر ما كتبه ريتسوس شعريّاً؛ ولم يسبق ترجمتها إلى العربية، حتى الآن، وهي تمثل - في ما أرى - ذروة الكتابة الريتسوسية الشعرية. وذلك هو المهم. هكذا، اعتبرت الترجمتين معاً مصدراً مشتركاً لهذه الترجمة العربية؛ أي أن هذه الترجمة تمثل حاصل جمع الترجمتين، بعد استبعاد التكرارات، مع الاستفادة من «التكرار» في تدقيق الترجمة على النصين. ومن هذا الديوان الأخير لريتسوس، نقدم المختارات التالية. قصائد مختارة ضلالات ساعات من نسيان لا إرادي أو إرادي. تعب. فلتغمض عينيك. فما الذي جنيناه طوال هذه القرون من التفتيش، ساهرين، عن أدنى وميض في الظلام، فيما نميز بالكاد نافذة مصغرة على زجاج نظارة الولد القصير النظر - أهي ربما نافذة مفتوحة على معجزة العالم؟ فمن تحاول أن تخدعه؟ ليس نفسك بالتأكيد. هيا إذن - فلتغمض عينيك. في ذلك الحين في الليل، لا يزال يصل إليك صدى الأيام العظيمة والمجيدة: المنازل، الغابات، والسفن المحترقة، الفرسان يتسابقون إلى أبراج الكنائس، أو ينحدرون في السهل، وآخرون يلملمون القتلى، وهم يرفعون الأعلام، يرسمون أهلةً حمراء على الجدران. الآن تترنح عربة كارو بلا سائق أسفل الطريق الساحلي والكلب الضال الأسود يحدق في النهر كأنه أدرك بالفعل كل ما كنا لا نريد أن نراه. معرفة مريرة فلتبق - معقود الذراعين - في هذا المأوى الظليل. لا مكان للحارس الليلي الأعرج كي يجلس. المقاعد بيعت منذ أسبوعين. في الباحة، في الخارج، يرشون بالخراطيم بعض البراميل الكبيرة. مراكب كبيرة راسية في الميناء. من المنزل المقابل، يأتي صوت المذياع. لا أريد الاستماع. ألملم من المائدة أجنحة فراشات الليل المحترقة، دون أن أدري سوى أن ثقلها إنما يكمن في أنها بلا ثقل. نسيان المنزل ذو السلالم الخشبية وأشجار البرتقال يواجه الجبل الأزرق الكبير. في الغرف، روائح القرية تنساب برقة. على المرآتين ينعكس تغريد العصافير. لكن في غرفة النوم، ثمة خف شخص عجوز على الأرضية. هكذا، بعد حلول الظلام، يعود الموتى إلى المنزل ليستعيدوا شيئاً ما تركوه وراءهم - وشاحاً ، سترةً، قميصاً، زوج جوارب. وبفعل النسيان أو عدم الانتباه - يأخذون أيضاً شيئاً ما يخصنا. في اليوم التالي، يمر ساعي البريد أمام بابنا بلا توقف. تلميحات في المدخل ذي البلاط الأبيض والأسود وضع شخص ما سلة تفاح. النافذة تطل على البحر. خمسة صيادين يحملون سمكة قرش ضخمة ميتة. يقطر الدم على مسار الكارو. حين دخلت غرفة الطعام، كانت حزمة جزر مرميةً على ماكينة الخياطة. آه يا أعوام طفولتي المنسية، أيتها الأعوام الطائشة، المبهورة بضوء الشمس بين معجزتين مجهولتين! والكتاب الكبير على المقعد القش في الحديقة كان مغلقاً. الدخيل الحدائق - ما بعد الظهيرة - في حالة بهجة: مناشف بحر ملونة منشورة على شجيرات مزهرة، تومئ، تحت همهمة زيز الحصاد، إلى أجساد عارية شابة، لوحتها الشمس تقشرت بالملح الوامض. لكنك على نحو ما تحس بأنك دخيل على هذه المهرجانات العامة. بذلك تجلس وحيداً ، في انتظار الليل، على أمل أن تستأنف النجوم، بإشارات خفية، طقوسك الحميمة، على بعد سنوات ضوئية. كلمات ختامية تقضم الفتاة التعيسة ياقتها. منذ وقت طويل. ماتت أمهاتنا. تقوقئ دجاجة في انتصار وسط الأنقاض. لا إجابة لدينا. في ما بعد، لم نعد نطرح أسئلة. كان الليل يحل، والريح تهب. تدحرجت قبعة من قش على مقاعد الاستاد الخاوية. في الأسفل، في النهر، تنساب ثعابين الماء والسلاحف برشاقة. وربما يصلح ذلك كختام لحكاية بعيدة عنا الآن، وغريبة. ربما أمسية هادئة. في النافذة، البجعة السوداء ساكنة. عيناها تومضان. توقفت ساعة الحائط. أصابع يديك ورجليك: عشرة زائد عشرة. هكذا على الأقل يمكنك العد. لكن ألوان الستائر بهتت. يتحول الأحمر إلى رمادي. يتلاشى الأصدقاء. بائع اللبن الشاب تم تجنيده. وماريا طلقت. واحدة واحدة، تم تجميع صور الموتى في الطابق السفلي مع الصراصير والفئران. ومع ذلك، فإذا ما حلت المرأة ضفائرها أمام المرآة، فلربما يأتي من الناحية الأخرى خيط موسيقى. المجنون كم من أكاذيب يخترعها المرء ليحتفظ لنفسه بركن صغير على هذه الأرض. في الليل، يعود رجال المرور إلى بيوتهم، توصد الدكاكين، والنجوم تزداد جرأة إلى الغرب. في ما بعد، يأتي صوت مجنون الحي بطاقيته الحمراء وهو يدندن - في الشارع الموحل - أغنية حزينة أغنية أطفال مثقلة بالكثير الكثير من التجاعيد. حادثة امرأة غريبة، متباعدة، متحفظة، كأنها بالكاد تتشبث بترمومتر تحت إبطها، مدركةً - رغم ذلك - أنها لا تعاني من الحمى. آنئذ دخلت المرأة الأخرى الضخمة، قادمة من الشقة المجاورة، وهي تمسك بحزام من جلد. أرته للزوج كأن له دلالة خاصة له. أعاد الرجل الترمومتر إلى علبته، أخذ الحزام، لفه حول خصره. في الحال، أدرك أنه شاعر. ذهب إلى الصالة مبتسماً برحابة صدر إلى التماثيل الخمسة... حصاد هزيل صباح لا مبال، ضياء شاف، وأشجار دلب بجذوع عريضة. البحر يومض عن بعد، بلا اكتراث، مكتفياً بذاته. لكن الآخرين - كيف سيكتفون بنصيبهم الهزيل؟ من حلموا في الماضي بمواكب كبرى، وبيارق، وحشود هاتفة؟ من يحسون الآن - بعد سنوات من الاستعداد - أنهم غير مستعدين أبداً ؟ ينظرون إلى التل المقابل، المغطى بالصنوبر، يلملمون بدقة بالغة أحاسيس هاربة - ليحتفظوا، هم أيضاً، ببعض الحق في هذا العالم. ترتقي فتاة صغيرة المنحدر وهي تمسك سلة توت. لا أكثر من ذلك: التل، الفتاة الصغيرة، وسلة توت. فتور في الليل، تبحر سفن كبيرة، مضاءة تماماً، مخلفة في البعيد، في الأفق، حدساً بالأسى. ساكن هو الآن كل شيء في أركان الذاكرة: الفندق الرخيص، السرير الحديدي، أعقاب السجائر في درجات السلم، وشمعدان قديم في المغسل. وحين توقفت أمام النافذة المطلة على الغرب، كانت هناك نجوم في السماء الصغيرة ودراجة تستند إلى الجدار المقابل. في اليوم التالي، في الفجر، انهمر مطر عنيف. وأنت، أمضيت ليلةً بلا نوم، على أمل أن تظهر ديوتيما في أعماق المرآة. فرار ربما كان الوصف بحاجة إلى بعض الروعة. لكن من ذا الذي كانت لديه الرغبة؟ جلسوا على الأرض. خلعوا قمصانهم. تحاشوا النظر بعضهم إلى بعض. خط أحدهم دائرة على الأرض. راح آخر يلعب وحيداً بأصابعه. والثالث كان يرقب الغيوم - كيف كانت تفر. أما أنا، فكنت أتخيل كوباً موضوعاً على منضدة خاوية، في العراء. كان ذلك كافياً. وضعت حقيبتي الخاوية تحت رأسي كوسادة، ووسط انعكاسات الكوب نمت.