لا أعرف لماذا ذكرني عنوان "فن الكتابة" الذي أراد من خلاله توني بارنستون وتشاو بينغ أن يلخصا آراء الكتاب والشعراء الصينيين حول النثر والشعر بعنوان "فن الهوى الذي وضعه الشاعر الروماني الشهير أوفيد لكتابه عن الحب وفنون الاغواء. السبب على الأرجح لا يعود الى تشابه العناوين فحسب بل الى صعوبة المهمتين اللتين تصدى لهما المؤلفون الثلاثة، بصرف النظر عن فروق الزمن وتباين المحتوى والأسلوب. فأوفيد من جهة أراد، وهو العاشق المجرب، أن يضع بين أيدي الأجيال الرومانية الفتية والمقبلة خلاصة مغامراته العاطفية والجنسية المتنوعة التي تمكن الرجال من مختلف الأعمار من اجتذاب النساء وخطب ودِّهن وكسب ثقتهن. والمؤلف لا يدخر جهداً في تبيان كل ما من شأنه أن يوقع في الأسر أشد النساء تمنُّعاً وصلابة بدءاً من الشكل والهندام والتخطيط الحذر والمنظم ووصولاً الى الدفء وحسن المعاملة وتقديم الهدايا والاستدراج المدروس وغير الفظ. وكما أن لكل امرأة مزاجها وتكوينها الخاص، فإن لكل رجل في المقابل طباعه وذائقته واختلافاته. لذلك، إن أوفيد لا يكتفي بتقديم النصائح للرجال الراغبين في اغواء النساء بل يفرد في كتابه فصولاً موازية للنساء الراغبات في اجتذاب الرجال واسقاط دفاعاتهم. ومع ذلك، فإن أهمية مؤلف أوفيد الشهير الحقيقية تكمن في طرافته ولغته الذكية اللماحة وفي نقله الدقيق لروح عصره وتقاليده وسلوكياته أكثر مما تكمن في نجاعة الأساليب التي يصفها. فالعلاقة الانسانية بين الرجل والمرأة لا تحتاج الى ذلك النوع من الخرائط التي يستخدمها السياح لدى دخول المدن الغريبة، بل هي تحتاج قبل كل شيء الى الصدق والتلقائية والاصغاء الى صوت الداخل. والعاشق الحقيقي لا يستعين قبل "الشروع" في العشق بكتاب "فن الهوى" ولا بكتب الرسائل الجاهزة التي يستعين بها المراهقون في العادة بل ببداهته واندفاعه وقوة الحب في قلبه. وكما هو شأن "فن الهوى"، فإن كتاب "فن الكتابة"، الذي نقله الى العربية عابد اسماعيل، لا يستطيع أن يعلم الشعر لمن لم يؤت هذه الملكة أو يحمل في داخله جذوة الموهبة واضطرامها. فالشعر، كما هي الحال مع الحب، لا ينتقل بالتعلُّم والتلقين واسداء النصائح. وما يمكن المدارس والكتب أن تقدمه في هذا المجال لا يتعدى حدود النظم أو العروض أو تحليل النصوص. على أن الكتاب لا يزعم لنفسه ما لا قِبَل له بإعطائه، والنصوص النثرية والشعرية التي كتبها كبار مبدعي الصين وشعرائها عبر العصور لا يزعم أصحابها أنهم يستطيعون أن يجعلوا من غير الشاعر شاعراً بل هم يميطون اللثام عن الطبيعة الجوهرية للشعر وعما يستطيع الشعراء بواسطته أن ينصتوا الى روح العالم وأصواته العميقة. وسواء كان الشعر الصيني ينتمي الى المدرسة الكونفوشيوسية التي تقوم على احترام التقاليد وتقديس الماضي وتقويم السلوك الاجتماعي والسياسي أو الى المدرسة التاوية التي تمجد العفوية والتناقض وتؤالف بين الشهواني والعرفاني، فإن شعراءه جميعاً يتوحدون حول تمجيد الانسان وإعلاء شأن الكتابة وإبعادها من الخطابة والهذر والتلفيق. يعبر الشاعر الصيني لو - جي، المولود في القرن الثالث للميلاد، عن حيرته أمام الكتابة التي تسعى للوصول الى جوهر الوجود فيما ان هذا الجوهر قائم داخلها بالذات. فالشاعر حين يكتب قصيدته انما يفعل ذلك من أجل الوصول الى هدف آخر يتعدى الكلمات التي يكتبها. لكنه لا يعلم أن الكلمات هي بحد ذاتها الهدف وان الغاية ليست شيئاً سوى الوسيلة. وهذه الأفكار نفسها هي التي سيعيد الشاعر اليوناني كافافي صوغها بعد سبعة عشر قرناً من الزمن عبر قصيدته الشهيرة عن إيثاكا. وكما في شأن الطريق والرحلة، كذلك الأمر في شأن متعة الكتابة وغبطتها. فلو - جي يسبق رولان بارت في حديثه عن لذة النص وما تولده الكلمات في داخل الكاتب من سعادة غامرة: "الكتابة متعة/ لذلك يمتهنها القديسون والمفكرون/ الكاتب يبتكر حياة جديدة في الفراغ/ ينقر على الكلمنات لكي يصنع صوتاً/ يثبِّت المكان والزمان على صفحة من حرير/ ويسكب نهراً من قلب صغير الحجم". يميل سيكونغ تو - المولود في القرن التاسع - في المقابل الى فتح الشعر على مصراعيه أمام الأساليب كافة التي تخطر على بال الشعراء مازجاً بين الكونفوشيوسية والبوذية والتاوية وبين الإلهام العرفاني القريب من التصوف. لكي نجد الشعر، وفق سيكونغ تو - لا ينبغي لنا أن نتقصد البحث عنه لأنه يأتي من تلقاء ذاته ومن حيث لا ننتظر. ومع ذلك، فإن علينا أن نرغب في مجيئه الى الحد الذي يجعله يجيء بالفعل. ومع ان الشاعر الذي يقدم للقراء أربعة وعشرين اسلوباً للكتابة الشعرية يقارب حدود التعليمية والتلقين في شكل أو آخر، الا انه يلامس بذكاء حاد العلاقة الغامضة والصلبة بين شعرية البديهة وشعرية الكدح والمثابرة: "أحياناً تأتي الكلمات بصعوبة/ تقاومني حتى أقتلعها من المياه العميقة/ مثل أسماك علقت بصنّارة/ وأحصد أبياتاً أُهملت لمئة جيل/ وقوافي لم تُسمع منذ ألف عام".