دخل بورخس نسيج الثقافة العربية بقوة مذهلة، عبر ترجمات شائعة لقصصه وبعض قصائده، حتى تحول الى اسطورة لدى الشعراء والقصاصين العرب. صار له اتباع ومقلدون ومترجمون متخصصون، راحوا يكررون، في كثير من الاحيان، القصص والقصائد ذاتها المترجمة سابقاً، كون اسمه حقلاً استثمارياً مربحاً لدور النشر. ولعل القارئ العربي لا يعرف عن حياة بورخس إلا النزر القليل، ومن ذلك قصة عماه الذي فجر لديه موهبة التقمص والتخاطر والحدسية الاحتمالية، وهي مواصفات طبعت كثيراً من قصصه. فهو ينظر الى الحياة عبر احتماليات الفكر اللامحدودة، ويقرأ الواقع برؤية فلسفية لا تركن إلا الى الشك، والريبة، إذ لا وصول الى أي شيء محدد في هذا الكون. والعمى منح بورخس موهبة الغوص في الذات، وفي طبقات الوعي السحيقة التي تشكلها اللغة، سواء اللغة الاسبانية او الانكليزية القديمة التي أتقنها، انه يشبه مصهراً للثقافات واللغات، والحضارات التي تعاقبت على البشرية. ينشئ الكاتب والشاعر الاميركي ويليس بارنستون، وكان اهم مترجمي بورخس الى الانكليزية، في كتابه هذا صورة لبورخس، من خلال الحوارات والنقاشات الشخصية والمحاضرات التي ألقاها، ليضيف الى صورته السابقة ظلالاً جديدة، وألواناً لا يعرفها قارئ قصصه وأشعاره، وهي التفاصيل اليومية لكاتب شهير، يمتلك نزواته وعلاقاته بالنساء، وآراءه في سياسيي عصره الذين حولوا الارجنتين ذات زمن الى سجن مرعب. جدوى الكتابة وسر هذا الكتاب الكوني المصنوع من حروف وكلمات تسعى الى امتلاك الأشياء حتى النهاية. وسر تلك العتمة الخفيفة المنسدلة على السحنات والشوارع والأشجار. فعن ظاهرة عماه يقول بورخس في حديث إذاعي مع المؤلف: ان كل شخص يصاب بهذه العاهة يحصل على نوع من المكافأة: شعور مختلف بالوقت.هبة العمى تعني انك تشعر بالزمن بطريقة مختلفة عن سائر الناس، يترتب عليك ان تتذكر وأن تنسى. يجب ألاّ تتذكر كل شيء، فأصحاب الذاكرة اللانهائية سرعان ما يصابون بالجنون. وإذا نسي المرء كل شيء فسوف يكف عن الوجود. تلك فلسفة بورخس التي استقاها من دهليز الفلسفة التنويرية لأوروبا ما قبل الحقبة الالكترونية. ان اتكاء بورخس الى ثقافة لاتينية عميقة، وفهمه لحضارة أوروبا التي تحدر منها أسلافه القدامى، هو ما منحه العالمية وسهّلها من خلال ترجماته الى مختلف اللغات الأوروبية، إذ يتقاطع بفلسفته ورؤيته الجمالية، للشعر خصوصاً، مع ابرز المبدعين الغربيين: كافافي، ستيفنس، ميلتون، شكسبير وبودلير. ونثره ينسجم مع المخيلة الأوروبية اكثر مما ينسجم مع مخيلة ذلك البحر الهادر من بقايا هنود اميركا اللاتينية والخلاسيين والزنوج الذين ابتعدوا كثيراً عن الحضارة الأوروبية. هذا ما جعله يدير عينيه عن الثقافات المحلية، ما قبل الكولومبية، كالمايا والأزتك والهنود الحمر عموماً، بسحرهم وطقوسهم وزوغان أذهانهم نحو الثقافة الشفوية، الأمر الذي جعله كاتباً أوروبياً بحق، سواء بهمومه الفكرية او الجمالية او الفلسفية. على رغم انه لا يتردد دائماً في قتل آبائه الأدبيين، ابتداء من الكتب المقدسة وانتهاء بذكريات طفولته وأشعارها المغناة في الحارات والأزقة. ورغبة قتل الأب وإن كانت مكبوحة، إلا انها تجرى في تضاعيف اعماله وفي وقفته تجاه الماضي. كان بورخيس سيد الاسبانية الحديثة، ماهراً في اكتشاف الجذور اللاتينية للكلمات، متورطاً بتاريخها، وبابتكار قاموس شخصي له، لذا عرف عنه اهتمامه الزائد بالموسوعات والقواميس وحركة الكلمات وهي تتنقل بين الشعوب والأزمنة والقارات. ان اسلوبه المتفرد، والبعيد عن الزوائد، المنحوت والزلق، هيمن على جيل من كتّاب الواقعية السحرية، بدءاً من خوليو كورتازار الى ماركيز، مروراً بالكتّاب الأجانب مثل مارك ستراند وجون بارث وكالفينو وكتّاب الرواية الجديدة الفرنسيين. لقد عزف بورخس على احتمالية الفكرة، وتناقض الذكريات، والاختلاط بين الحلم والواقع، والكوابيس، المصنوعة من مصهر الذات فقط، مقروءة عبر فلسفة صارمة ودقيقة، فصاغ قصصاً لا تمنح مفاتيحها أبداً. وتحمل خلف كلماتها وجملها روح الفن التي لا يمكن امساكها. ذلك عكس مواطنه الشهير ارنستو زاباتو، ابن بوينس آيرس ايضاً، الذي جسّد في رواياته احتمالية الواقع، ولا نهائية أحداثه ودلالاته، وما يحدث في العالم السفلي في تلك المدينة العملاقة التي قامت على جماجم ملايين الهنود، وسط عالم العميان المملوء بالحدوس والتشوفات والشكوك والظنون. بالنسبة إليّ، يقول بورخس، هي مجرد خرافة ان يكون لبوينس آيرس بداية. اشعر انها خالدة كالماء والهواء. وليس من الغريب ان ارنستو زاباتو وضع بورخس شخصية من شخصيات روايته أبطال وقبور، فهو بطل نموذجي يجسد الأعمى المثقف المملوء بالريبة. لا يمكن تصور مدينة مثل بوينس آيرس من دون خورخي بورخس، علاقته مع المدينة لا تركن الى الطمأنينة، فلكل صوت دلالة، ولكل بلاطة قصة تغور احداثها في تاريخ القارة التي تسبح في دخان الأساطير. هذا الشاعر الذي يعتز بفروست وإليوت ووالت ويتمان ونيرودا، ويحتقر عزرا باوند لأكاديميته السخيفة، بحسب قوله، المعتز بيهوديته المتحدرة من البرتغال، هو ذاته الذي أفرد لخيال ألف ليلة وليلة والتوراة والحضارة الاسلامية برموزها الشائعة، حيزاً كبيراً من قصصه. أعاد قراءة الذاكرة البشرية بجدارة، عبر اللغة، شعراً ونثراً، وكان كافكا نموجه الأرفع للنثر الفانتازي، مثلما كان ويتمان بالنسبة للطاقة التي يختزنها شعره المتنوع في مواضيعه والخصب في احالاته. ولا يخفى ان بورخس كان في حالة عشق مع اللغة الألمانية، ومع شعرائها وفلاسفتها، وعندما ظهر في ألمانيا كان معروفاً الى درجة انه صار بطلاً شعبياً. لكن الاسبانية هي المفضلة دائماً، وقصائده ظلت تمارين فيها، وفي ايقاع الشعر والوزن. وهي ايضاً تمارين في الخيال. وقصائده المكتوبة في سن الثامنة والسبعين هي من بين اكثر النصوص مهارة وعمقاً وتأثيراً. صارت رؤيته اكثر حدة كما يقول بارنستون، ويده اكثر ثقة. لقد بدأ بورخس بالشعر وانتهى بالشعر. كتب الفلسفة شعراً وأمثالاً وظلت أغنيته مستمرة. انه رياضي الوقت والمعلم الذهني، العاطفي والمؤتمن في شكل مكثف. الرجل الحكيم والهادئ المتصالح مع نقاط الضعف الانساني، ومع عالم بلا ألوهة، يوحي دائماً بغرابته. ثمة بورخس صاحب الماوراء الامرسوني العرفاني وثمة بورخس الانسان، الذي يحب جيرانه الطائشين والمبارزين بالسكاكين الذين سكنوا قصصه المكتوبة عن العوالم السفلية. وصورة بورخس الفاقعة التي يعرضها ويليس بارنستون هي صورة الكهل، الذي يحب أمه حد العبادة، ثم العجوز سليل الكتب والقلم والمكتبة. رجل العكاز الذي يمشي مع الاصدقاء في كل مدينة من العالم، المتكلم الجماهيري الذي يتحدث الى مستمعين يريدون ان يسمعوا الرجل العجوز يبوح بأسراره. وعلى رغم انغماس بورخس ببحر الفلسفة والشعر الأوروبيين، إلا انه لم ينسَ بوينس آيرس. كان يحب العالم السفلي والضواحي الفقيرة والشرسة لشمال الارجنتين والأورغواي، وهي بقاع في مخيلته خارجة عن القانون. وهو ايضاً سليل رجال عسكريين، من بينهم اكثر من كولونيل يحمل اسم بورخس، لهذا كان يحلم بدنماركيين تاريخيين يقومون بغزو شواطئ بريطانيا على متن سفنهم الزرق. ويحلم بأبطال قدامى، معظمهم أوروبيون، حاربوا وماتوا عبر سهول البامبا وغابات الأمازون، خلال حروب الفتح الأوروبي للقارة الشابة. يقول بارنستون عنه: في النزهات والوجبات المشتركة والأحاديث، كان ثمة دائماً صوت الأعمى. كان صداحاً، ضاحكاً، ومدهشاً، ومعارضاً ومساوياً الكلمة بالكون، مفككاً أبجدية الوقت، يائساً ساخراً. انه الصوت الذي يعانق الآخر. صوت الأعمى هو بورخس الجوهري، وأولئك الذين سمعوه ذات مرة سيعيشون تحت سطوته مدى الحياة. * الكتاب بورخس/ مساء عادي في بوينس آيرس - تأليف ويليس بارنستون - ترجمة عابد اسماعيل - منشورات دار المدى في دمشق.